22 أكتوبر 2024, الثلاثاء 1:40 م
بتوقيت القدس المحتلة
المستجدات
المفهوم المقلوب للمعركة بين الحروب

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم: الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين  
14 02 2022

أولاً: في التأصيل:  

من المعروف لدى الأركان الرئيسية في التخطيط للعمليات العسكريةــ ركن العديد أو القوى البشرية، ركن المعلومات، ركن العمليات، ركن الدعم والإمدادــ أن هناك مجموعة من المصطلحات والمفاهيم العملياتية من قبيل (مرحلة العمليات) بحيث تقسم المعركة إلى مراحل عمل، وفقاً لــ " تقدير العمليات " الذي يبنى على أساس " تقدير المعلومات "؛ فإن تبين لركن العمليات أن الهدف النهائي من العملية المنوي القيام بها يمكن أن يتحقق في مرحلة واحدة؛ فإنه لا يعمد إلى مرحلة عملياتهِ، وإنما يقوم بوضع خططه وإجراءاته التنفيذية لإنجاز العملية ضمن مرحلة واحدة، من ساعة بدء العمليات في ساعة ( س) واليوم ( ي)، ومن المفاهيم كذلك ما يعرف بالـ( وقفة التعبوية )، وهي وقفة يفرضها الموقف الميداني لنقص حاصل في عمليات الإمداد مثلاً، أو تعثر في عمليات التقدم على محور من محاور العمل، نتج عنه تقدم محور آخر مستبقاً الجداول الزمنية المطلوب تحقيق الأهداف فيها؛ مما يشكل خطراً على هذا التشكيل المندفع بسرعة أكثر مما كان يُقدر له، وفي هذا تفصيل ليس هنا مكان بسطه.

إذاً فمرحلة العمليات و (وقفاتها التعبوية) هي: عبارة عن إجراءات مطلوبة من أجل المحافظة على زخم العمليات وتقليل الخسائر إلى أقل المستويات ولضمان سير العمليات وفق الخطة المرسومة له، كما يوجد كثير من المصطلحات الفنية في عالم العمليات يعرفها أهل الفن والمجال؛ لا مجال للخوض فيها الآن، ولكن منذ عدة سنوات بتنا نسمع عن مصطلح جديد يطلقه العدو على العمليات العسكرية التي يقوم بها ضد المقاومة في غزة أو لبنان أو التشكيلات العسكرية السورية، أو القوات المرتبطة بإيران والتي تنتشر في سوريا، هذا المصطلح يعبر عنه العدو بـــ (المعركة بين الحروب)! نحن نعرف أن هناك معارك خلال الحروب واشتباكات واحتكاكات أثناء المعارك، فما الذي يقصده العدو بهذا المصطلح؟ وما هي أهدافه منه؟ وهل يمكن قلب هذا الإجراء بحيث يصبح في ضرر العدو؟ هذه المقالة معنية بتعريف هذا المصطلح من الناحية التعبوية والتطرق إلى الدافع الرئيسي الذي يقف خلف تبني العدو لهذا النوع من أنماط العمل، وما ينبني عليه من إجراءات تعبوية، ثم سنختم بمجموعة إجراءات نعتقد أنها قد تساعد في قلب هذا الإجراء وتحويل اتجاهه ليصبح في غير صالح العدو.  

   

ثانياً: في التعريف:  

المعركة بين الحروب هي إجراء قتالي يقوم من خلاله العدو بتشغيل قدرات قتالية مستخدماً ما تحت إمرته من صنوف قوات القتال الرئيسية ــ برية وبحرية وجويةــ أو صنوف الإسناد القتالي أو صنوف الخدمات القتالية، لتحقق أصل الهدف من عملية التشغيل تلك، وقد تستغرق هذه العملية ساعات محدودة، أو أيام معدودة، بحيث يدخل العدو في هذا الإجراء ضمن سيناريو عمل معروف البداية ومحدَّد النهاية. 
 

ثالثاً: هدف العدو من هذا الإجراء:  

إن الهدف الرئيسي للعدو الإسرائيلي من تبني هذا النمط من الأعمال وتطويره مع الأيام، هو عدم رغبته في الانجرار إلى عمليات عسكرية مفتوحة مع أعدائه في منطقة التماس معهم أو في دوائر (دفاعه) الأولى والثانية، فقد تجبي هذه العمليات منه خسائر كبيرة، أو قد تخرج عن السيطرة فتمتد زماناً ومكاناً، لذلك يلجأ إلى هذا الإجراء كسبب رئيسي، كما أنه يحقق له الأهداف الآتية:  

1. تحديث بنك الأهداف: 
إن أول ما يحققه العدو من هذا الإجراء هو تحديث بنك أهدافه وتطويره بما يتوافق مع الموقف القتالي، فعندما يقوم العدو بشن عدوانه على أي من أعدائه في فصائل المقاومة أو الدول التي تناصبه العداء، فإنه يرصد طرق عمل هذه الفصائل وتلك الدول، وما تشغّله من قدرات نارية، مما يساعده في ضم ما شغِّل من قدرات نارية أو ما تم التحرك فيه من مساحات جغرافية إلى بنك أهدافه، بحيث يعمل على استهدافها في المرات القادمة.  


2. إحباط قدرات المقاومة وتدمير أصولها البشرية والمادية: 
كما يسعى العدو في من خلال هذا الإجراء إلى تدمير قدرات المقاومة وأصولها البشرية والمادية، فهذا الإجراء يشبه إلى حد بعيد ما يعبر عنه العدو بعمليات (جزّ العشب) التي يقوم من خلالها بإحباط عمليات مراكمة القدرات عند فصائل المقاومة. 
فالعدو يصنّف التهديدات التي تعترضه ضمن معايير محددة تعطي للتهديد الأهمية التي يستحقها، فالتهديد يتدرج عند العدو على النحو الآتي؛ بداية تشكّل تهديد، تهديد فعليّ، تهديد قريب، تهديد آني، وبناء على هذا التصنيف يقوم العدو بتشغيل قدراته من أجل احباط هذه التهديد أو القضاء عليه وفقاً للدرجة المعطاة للتهديد محل البحث؛ لذلك فإن ما يقوم العدو بالتعرض له أثناء معاركه التي بين الحروب تلك؛ يقع تحت تصنيف التهديد القريب أو التهديد الآني.  

3. كشف تموضع قدرات المقاومة وفحص درجة جاهزيتها ومدى تطورها: 
فالمعركة بين الحروب التي يقوم العدو بتشغيل قدراته فيها؛ تشبه إلى حد بعيد عمليات الاستطلاع بالقوة التي تقوم بها وحدات المناورة أثناء العمل العسكري، بحيث تحاول تلك الوحدات التعرف على مواضع انتشار أعدائها وأماكن موضعة أسلحتهم وقواعد نارهم، ومدى جاهزية تلك القوات وسرعة وطبيعة رد فعلها على أي تحرك من قبله ــ العدوــ ،وهنا أيضاً فإن المعركة بين الحروب أحد أهم أهدافها التي يجب أن يُنتبَه له هو أن العدو في بعض مناوراته هذه إنما يبغي جمع المعلومات ومراكمة المعطيات لاستخدامها في مثل تلك المعارك والعمليات.  

4. كسب الخبرات القتالية ومراكمتها: 
ومن الأهداف التي يحققها العدو من مثل هذه المناورات التعبوية، كسب الخبرات القتالية ومراكمة التجارب، فالكادر البشريّ مهما تدرب ومهما أخذ من معارف وخاض من مناورات؛ تبقى كل تلك الخبرات والتجارب المكتسبة قاصرة، وفيها من الثغرات ما فيها، إلى حين فحصها في المختبر الرئيسي للجيوش ألا وهو المعركة الحقيقية التي يكون فيها عدوٌّ متربص، قابض على الزناد، حريصٌ على إلحاق الأذى والخسائر بعدوّه، حرصه على النجاة من بطشه، فتأتي المعركة بين الحروب لإخضاع القوات إلى اختبارات قتالية حقيقية، ما دون الحرب، وما فوق الاحتكاك.  

5. فحص جدوى بعض المناورات الجوية: 
من المعروف أن القوات العسكرية في مختلف صنوفها وأنواعها، تطور من خلال مناورتها وما تكتسبه من علوم ومعارف طرقَ عمل مختلفة قادرة على صدّ التهديد والقضاء عليه، ومثل هذه الإجراءات تبقى مظنة الفشل والنجاح إلى حين تجريبها في معركة حقيقية، لذلك فما يطوره العدو من طرق عمل وأنماط مناورات جويّة أو بريّة أبو بحريّة، يحاول من خلال معركته التي يخوضها بين الحروب أن يفحص جدوى هذه الطرق والتعرف على نقاط قوتها ضعفها، ومن ثمّ يطور أو يعدل على تلك المناورات  بناءً على ما اكتسبه من دروس أثناء التشغيل الفعليّ للقدرات في ظروف المعركة الحقيقية التي تأتي بين الحروب.  

6. رفع مستوى التنسيق بين مختلف الأذرع الأمنية والعسكرية المعادية: 
يعد التنسيق بين مختلف الصنوف القتالية مفتاح النجاح في أي معركة، لذلك فالمعركة بين الحروب التي يخوضها العدو، أحد أهدافها تحسين مستوى التنسيق بين مختلف أذرع العدو القتالية، فإن كان سلاح الجو المعادي هو الأداة الرئيسية في خوض معركته تلك؛ فإن هذا السلاح عند تشغيله؛ يُشغل معه مجموعة صنوف قتالية وداعمة أخرى، لا تبدأ بالوسائط الإلكترونية ولا تنتهي عند الطواقم الطبية، تحسباً لأي عارض أو مفاجأة قد تعترض القوات أثناء العمل والمناورات، وعمل تلك الصنوف مجتمعة في ظروف قتال حقيقية، يساعدها في تطوير سبل ووسائل التنسيق بينها.  

7. فحص واختبار منظومة القيادة والسيطرةC4I : 

كذلك يعد فحص منظومة القيادة والسيطرة من أهداف المعركة بين الحروب التي يشنها العدو بين الحين والآخر، بحيث يتم فحص كفاءة وفاعلية هذه المنظومة أثناء تشغيل القوات، ورفع النقص والخلل المكتشف فيها، وصياغة بروتوكولات عمل تلك المنظومة التدرب عليها.  

هذه بعض الأهداف التي نعتقد أن العدو يحاول من خلال معركته تلك تحقيقها، في مسعىً نهائيٍّ يمكن اختصاره بالمحافظة على جاهزية القوات ورفع كفاءتها للتصدي للتهديدات. ولكن نعتقد أن هذا الإجراء يمكن أن يتم قلبه وتحويله إلى إجراء غير ذي جدوى، أو على الأقل قلب بعض فوائده ومكتسباته بحيث يلحق بالعدو خسائر جراء هذا الإجراء، لذلك  فمن الأمور المقترحة لقلب هذا الإجراء ما سنعرضه في العنوان التالي.  

رابعاً: إجراءات قلب المفهوم:  

1. تلويث بيئة عمل العدو الجوية والأرضية: 
إن أول إجراء يمكن القيام به لإعاقة قيام العدو بمعركته تلك؛ هو تلويث الأجواء والبيئة أما معارك العدو الجوية والأرضية، ففصائل المقاومة لا بد أنها تملك من القدرات ــ على تواضعها أمام قدرات العدو ــ ما يمكنها من معرفة الوقت الذي ينوي العدو الخروج فيه للقيام بعمل عسكري بري أو غارة جوية، لذلك فتلويث الأجواء والبيئة بالوسائط الجوية والأرضية رخيصة الثمن كثيرة العدد؛ سيشكل للعدو عائقاً تعبوياً يمنعه من تحقيق كامل أهدافه على النحو الذي خطط له في تلك المعارك.  

2. (خلق) تهديد ذي مصداقية ضد نشاطات العدو الجوية والبرية:
 يجب العمل على مراكمة قدرات جوية وبرية تشكل تهديداً ذا مصداقية على قدرات العدو القتالية، أو على الأقل حرمانه من حرية المناورة في السماء وعلى الأرض. وكون وسائط عمل العدو الرئيسية في معركته هذه هي الوسائط الجوية، لذلك تجدر الإشارة إلى أهمية مراكمة القدرات في صنفها الجوي،  وعدم حرقها ــ القدرات ــ  وتعرضها للخطر عند كل شاردة وواردة.  

3. التعرض لقدرات العدو الاستخبارية وتهديد أصولها المادية والبشرية: كما أن من المفيد من أجل التضييق على العدو وسلبه حرية العمل؛ التعرض بالضرب والاستهداف لقدراته الاستخبارية وضرب أصولها البشرية والمادية، فالعدو يصاحب فعله هذا نشاط معلوماتي، يبدأ قبل العمل ويواكبه أثناء التنفيذ ويصاحبه ويبقى معه بعد التنفيذ، لذلك فتهديد هذا النشاط المعلوماتي، يؤثر على قدرة العدو في تنفيذ أهدافه أثناء هذه المعركة.  

4. التعرض لقوات الاشتباك المعادية المنتشرة على الحواف الأمامية للجبهات العسكرية:
 وحيث أن العدو لديه معركته التي يخوضها بين الحروب؛ نعتقد أنه من المفيد والمجدي أن يكون لفصائل المقاومة في الداخل الفلسطيني وفي الخارج، معاركها التي تخوضها هي الأخرى بين حروبها مع العدو، فالتعرض لقدرات العدو بالاستهداف، سوف ينقله من مربع الفعل إلى مربع رد الفعل، الأمر الذي يخرجه من حالة السيطرة على الموقف إلى حالة من يرجو (لملمة) الطابق، ومحاولة احتواء عمليات التعرض والاشتباك معه، وفي هذا مصلحة لقوى المقاومة حيثما كانت، هذا فضلاً عن الخبرات التي ستراكمها فصائل المقاومة من مثل هذه الإجراءات، وفي هذا تفصيل يطول شرحه والحديث عنه.  

5. بناء شبكة (أمان ) ممتدة جغرافيّاً لحفظ أصول المقاومة العسكرية والمدنية:
 يجب أن تتعاطى قوى المقاومة في الداخل الفلسطيني أو في الخارج، على أن التهديد الذي يمثله العدو لها، إنما هو تهديد يؤثر على الجميع ويستهدف به الكل المقاوم، لذلك فإن عمل تلك الفصائل التكاملي الذي تتوزع فيه الأدوار وتعرف فيه المهام، يشكل طوق نجاة للجميع، وعليه فإن عمليات التصدي الجماعي للعدو أثناء قيامه بشن معركته تلك ــ كل حسب طاقته وما يملك من قدرات وما يسند له من دور ـــ يشكل عامل ردع وعنصر قوة لفصائل المقاومة، ومن يناصب هذا العدو العداء.  

هذه بعض الملاحظات السريعة على معركة العدو التي يخوضها بين حروبه، معتقدين أن هذا البحث بحاجة إلى أن يوضع على طاولة التشريح للمزيد من الفهم والتدقيق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023