التجربة النضالية الفلسطينية بين النقد الموضوعي والتشكيك المُغرِض
د. إبراهيم أبراش
نلاحظ في الفترة الأخيرة تزايد عدد الكُتاب والندوات التي تقوم بمراجعات لتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة وخصوصاً نهج الكفاح المسلح، ونلاحظ أن بعض هؤلاء الكُتاب خرجوا عن سياق المراجعة أو النقد الموضوعي الذي يهدف لاستخلاص الدروس والعبر لتقويم المسار واستنهاض المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني أخذاً بعين الاعتبار ما طرأ من مستجدات إلى تشويه التجربة النضالية الفلسطينية، بحيث لم يروا فيها إلا العيوب والأخطاء، متجاهلين أنه لولا الثورة الفلسطينية التي انطلقت مع حركة فتح وغيرها من المنظمات الأخرى في منتصف الستينيات ونهجها المسلح ما كان العالم التفت إلى وجود شعب فلسطيني بهويته وثقافته الفلسطينية، وما كانت غالبية دول العالم اليوم تعترف بوجوده وبحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
صحيح، إن العمل المسلح أو الفدائي لم ينجز هدف تحرير فلسطين، وصحيح أيضاً أن كثيراً من الأخطاء والتجاوزات صاحبت المسيرة النضالية الممتدة لأكثر من نصف قرن، ولكن هذا لا يعني أن انطلاق ثورة فلسطينية ضد الاحتلال في منتصف الستينيات كان موقفاً خاطئاً، كما أن الثورة الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح لم تقل إنها لوحدها ستحرر فلسطين بل كانت تقول بأن الشعب الفلسطيني طليعة الأمة العربية وقوى التحرر العالمية وكان لها آنذاك أنصار ومؤيدون عبر كل قارات العالم، وأن ينفك وينهار معسكر الحلفاء وتأتي متغيرات إقليمية ودولية معاكسة لتطلعات الشعب الفلسطيني في الاستقلال وأن يتسلق انتهازيون ويتولون مناصب قيادية في المنظمة وسلطتها فهذا ليس خطأ الثورة الفلسطينية ولا يشكك في منطلقاتها، ومن جهة أخرى فإن منظمة التحرير تبنت العمل السياسي وفكر التسوية السياسية بعد عقد فقط من انطلاقتها دون أن تتجاوب إسرائيل لنهج السلام وهذا يؤكد أن الخلل ليس في نهج الثورة والعمل العسكري بل في إسرائيل، ومع ذلك فلولا العمل الفدائي وقوافل الشهداء ما تم استنهاض الهوية الوطنية الفلسطينية وما كان العالم اهتم بالقضية الفلسطينية بل ما كان هناك شعب يسمى الشعب الفلسطيني تعترف بوجوده كل دول العالم حتى إسرائيل، وهذا بحد ذاتي منجز للثورة الفلسطينية وكفاحها المسلح لا يستهان به.
من يرجع إلى مرحلة انطلاق الثورة الفلسطينية وتبني نهج الكفاح المسلح سيلمس أنه لم يكن أمام الشعب الفلسطيني آنذاك وهو يعاصر ويشهد الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية ومختلف حركات التحرر آنذاك وجهود الأمم المتحدة لتصفية الاحتلال الخ إلا أن يسير على نفس النهج وهو الثورة والكفاح المسلح، وهو نهج كانت تدعمه غالبية دول العالم والشرعية الدولية التي أصدرت عديد القرارات التي تؤيد حق الشعب الفلسطيني وكل الشعوب الخاضعة للاحتلال باللجوء إلى كافة الوسائل بما في ذلك العمل العسكري لنيل استقلالها.
مع تأييدنا وتثميننا لكل مراجعات نقدية لتاريخ الثورة الفلسطينية وهو نقد ومراجعة مطلوبان وخصوصاً مع طول الزمن واستمرار نفس القيادات السياسية تقريبا، ومع تحفظنا بل ورفضنا التوظيف السيء للمقاومة المسلحة من بعض الحركات والأحزاب بحيث تم إخراج المقاومة من سياقها الوطني لتصبح أداة لخدمة أجندة خارجية أو للوصول إلى السلطة أو تقاسمها في ظل الاحتلال بل ومن خلال التعايش معه ، إلا أن بعض المراجعات جانبها الصواب، ويبدو أن بعض هؤلاء المثقفون والكُتاب الذين تنطعوا لمراجعة التجربة النضالية الفلسطينية إما أنهم يسعون للشهرة، أو ينطلقون من حقد وعداء سابق مع القيادة الفلسطينية وخرجوا طواعية أو تم إخراجهم من تنظيماتهم السياسية، أو ينطلقون من الواقع الراهن لحركة التحرر الفلسطينية ومخرجات نضالها، وبعضهم ولأنه في موقع السلطة والحكم أو قريب منهما يدينون ويتنكرون للعمل المسلح وللمقاومة حتى يبرروا النهج السياسي الراهن، وآخرون ينطلقون من منطلق إسلاموي يبشر بـ (مشروع إسلامي) كبديل عن المشروع الوطني الفاشل كما يزعمون، وجميعهم يتجاهلون عن عمد طبيعة الصراع وتشابك وتعدد أطرافه والاختلال الهائل في موازين القوى مع العدو الصهيوني/ الأمريكي .
وهكذا بوعي أو بدون وعي فإن هؤلاء يلتقون أو يتقاطعون مع الجهود الحثيثة لإسرائيل و للمطبعين العرب لتصفية القضية الفلسطينية سواء من خلال ما يجري على أرض الواقع من استيطان وضم وحصار أو من خلال تشويه الرواية الفلسطينية والتاريخ النضالي الفلسطيني والزعم بأن حركة التحرر الفلسطينية حركة إرهابية فاشلة لم تجلب إلا الخراب والدمار للشعب الفلسطيني.