انتخابات الجهاد الإسلامي.. قراءة في التوقيت والدلالات!

أحمد عبد الرحمن

كاتب في الشأن السياسي والعسكري

بقلم/ أحمد عبد الرحمن 



كان لافتاً الخبر الذي أذاعته "قناة الميادين" الفضائية، مساء الخميس الماضي، والمتعلّق بفوز الأمين العام الحالي لحركة الجهاد الإسلامي، الأستاذ زياد النخالة، بولاية ثانية على رأس حركته، وكان لافتاً أيضاً ما ذكره الخبر، ومفاده أن الفوز جاء بالتزكية، بعد عدم تقدم أحد غير القائد النخالة بأوراق ترشّحه لهذا المنصب المهم والحسّاس.

أهمية هذا الحدث تأتي، من وجهة نظري، نتيجة معطيين مهمين للغاية: الأول هو خصوصية الظروف التي تعيشها هذه الحركة المقاتلة، في الأشهر الأخيرة تحديداً، والتي تعرّضت خلالها لضربات موجعة، في أكثر من ساحة من ساحات الوطن، وقدّمت فيها خِيرة قادتها على مذبح الشرف والبطولة، في غزة وجنين ونابلس، وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة.

وعلى رغم ما تعانيه من أزمات اقتصادية، وضغوط وابتزازات محلية وإقليمية، وحملات تشويه تستهدف فكرها وجهدها وجهادها! على رغم كل ذلك، فإنها تقوم بإجراء هذه الانتخابات، بحسب اللائحة الداخلية للحركة، التزاماً منها بحق المنتسبين إليها وأعضائها في التعبير عن رأيهم، واختيار من يرونه الأصلح لقيادة سفينة حركتهم، التي تُبحر في بحر متلاطم الأمواج.

أمّا المعطى الثاني فهو فوز الأمين العام الحالي، القائد زياد النخالة، بفترة ولاية ثانية، لمدة أربعة أعوام مقبلة وحاسمة، يمكن أن تشهد فيها المنطقة وفلسطين أحداثاً جِساماً، وجاء هذا الفوز بالتزكية، نتيجة عدم ترشّح أحد آخر لهذا المنصب، على رغم امتلاك الحركة عشرات الكوادر والقيادات المؤهلة لشغله، والقيام بواجباته ومسؤولياته الكبيرة والمهمة.

ولا يبدو أن عدم ترشّح قادة آخرين، غير القائد النخالة، لهذا المنصب، جاء نتيجة تخوّفهم من الخسارة، أو خوضهم المنافسة أمام قائد صلب وعنيد ويحظى بتأييد جارف في أروقة حركته، وعموم أبناء شعبه، وإنما لاطمئنانهم الراسخ إلى أن هذا الرجل لديه من القدرة والحنكة، والبصر والبصيرة، ما يستطيع من خلالها الوصول بهم وبحركتهم إلى بر الأمان، وأن مسيرته الطويلة من الجهاد والمقاومة، والتي لم تخلُ من السَّجن، والمطاردة، ومحاولات القتل والاغتيال، كفيلة بأن تعطيه القوة والمنعة لمواصلة هذا الطريق، والاستمرار في خوض غمار رحلة الدم، الذي انتصر على السيف، والعين التي واجهت المخرز.

ربما يعتقد البعض أن العملية الانتخابية، التي ستجرى بعد شهر، بحسب ما جاء في خبر "الميادين"، لاختيار أعضاء المكتب السياسي، والأمين العام لحركة بحجم الجهاد الإسلامي، قد لا يُلقي لها أحد بالاً خارج نطاق هذه الحركة، أو في الحد الأقصى البيئة المحيطة بها، والجهات التي على علاقة بها، وهذا الاعتقاد قد يكون مبرَّراً لمن لا يعرف هذه الحركة عن قرب، وليس مطّلعاً بما فيه الكفاية على فكرها، وأيديولوجيتها، وعلاقاتها، وأهمية الدور الذي تؤديه في المنطقة، وليس في الأراضي الفلسطينية فقط.

فبحسب رؤية البعض القاصرة، والتي تعتمد على معلومات تم جمعها من مصادر غير موثوقة، وصفحات تشرف عليها وتديرها أجهزة استخبارات معادية، فإن حركة الجهاد لا تُمثّل إلّا نسبة صغيرة جداً من مجموع الشعب الفلسطيني، ولا تمتلك إلّا القليل من الإمكانات البشرية والعسكرية، ولا تملك أي تأثير يُذكر، في مجمل الأوضاع، سواء على المستوى الفلسطيني الداخلي، أو على صعيد المواجهة مع "دولة" الاحتلال.

حتى إن البعض، ممّن يعُدّون أنفسهم كتّاباً ومفكرين، ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وتماهوا في مواقفهم، في بعض الأحيان، مع مواقف العدو الصهيوني، وصوّروا لمريديهم ومتابعيهم أن هذه الحركة ليست إلّا جسماً صغيراً وضعيفاً، قابلاً للاندثار والتشظّي، وأن تعرّضها لنوائب الدهر، وتكالب الأعداء، وخذلان الأشقاء، قد يدفع نحو تفكّكها، وانهيارها، وتحوّلها إلى ما يشبه البيت الخَرِب، الذي لا يقي أهله حراً في الصيف، ولا برداً في الشتاء.

إلّا أن التجربة أثبتت عكس ذلك تماماً، وتبيَّنَ للجميع أن هذه الحركة تملك من الرصيد الشعبي، والظهير الجماهيري، ما يكفيها لتخوض معركة كسر عظم مع العدو، بصورة منفردة في العام الماضي، ولو كانت تعلم غير ذلك لما أقدمت على مثل هذا العمل. وأثبتت التجربة كذلك أن جسم هذه الحركة متين وصلب، إلى درجه مكّنته من التأقلم مع ما تعرّض له من ضربات قاتلة، وهجمات غادرة، من دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة، أو تسقط له راية.

فحركة الجهاد الإسلامي، التي باتت اليوم، كما كانت منذ نشأتها قبل أكثر من 43 عاماً، تواجه العاصفة بصدرها العاري، وتتصدى بجسارة منقطعة النظير لكثير من المخطّطات الشيطانية، بسلاحها المتواضع والبسيط، ويتقدّم أبناؤها بفقرهم، وعظمهم، وأشلائهم، للدفاع عن شعبهم، ومقدساتهم، في ساحات الوطن المتعدّدة، ويقدّم قادتها ومجاهدوها، في قطاع غزة والضفة المحتلة، أرواحهم رخيصة في سبيل كسر معادلات العدو وإسقاطها، ويسيّجون ساحاته التي أراد "الإسرائيلي" وآخرون تقسيمها وتفتيتها بدمهم المهراق بفعل صواريخ الاحتلال، وخذلان الأشقاء! هذه الحركة، على خلاف ما يعتقد البعض، تحظى بمتابعة ومواكبة غير مسبوقتين من كثير من الجهات، وتترقب أفعالها وأقوالها عشرات الدول، والدوائر الاستخبارية حول العالم، ولا سيما بعد ما أظهرته من صلابة مواقفها، وثبات تموضعاتها، وصدق شعاراتها، وطهارة توجهاتها.

أخبرني أحد قادة الحركة، قبل أيام، بأن الاهتمام بانتخابات الحركة المقبلة كبير جداً، وأن عدة جهات محلية وإقليمية تراقب وتسأل، وتتحرى وتجمع المعلومات، بشأن شخصيات المرشحين لهذه الانتخابات، وأن هذه الجهات تحاول وضع سيناريو مستقبلي لكيفية التعامل مع الحركة، في ظل نتائج الانتخابات المقبلة، لافتاً إلى أن كلّ المرشحين على درجة واحدة من الأهمية، ويحملون أفكار الحركة نفسها وملتزمون بها، وليس بينهم من يمكن له أن يفرّط بإرث الحركة، أو يدعو إلى تغيير استراتيجياتها وتكتيكاتها، وأن الجميع يسعى، بحسب إمكاناته وقدراته، لخدمة أبناء حركته، وشعبه، ولو كلّفه ذلك التضحية بروحه وماله وكل ما يملك.

وأنا أعتقد أن أكثر الجهات المهتمة بانتخابات حركة الجهاد الإسلامي، وخصوصاً في هذه الدورة، وهي الثانية بعد انتخابات عام 2019، هي "إسرائيل"، وهذا الاهتمام مبرَّر وطبيعي، ولا سيما في ظل دور حركة الجهاد الواضح والملموس في مواجهة اعتداءات الاحتلال، والتصدّي لها، ومواجهتها، منفردةً، في بعض الأحيان، كما حدث في معركة "وحدة الساحات"، في الخامس من آب/أغسطس من العام الماضي.

بالإضافة إلى دور الحركة الرئيس والمفصلي في عودة ساحات الضفة الغربية المحتلة إلى نهج العمليات المسلحة، وإعادة الاعتبار إلى هذا الخيار الذي تم تغييبه أكثر من خمسة عشر عاماً، وتشكيلها للكتائب العسكرية في مدن الضفة ومحافظاتها، وفي المقدمة منها "كتيبة جنين"، التي باتت رعباً يلاحق الاحتلال، وكابوساً يقضّ مضجعه.

وأمست وأخواتها، من كتائب نابلس وطولكرم وطوباس وجبع وبرقين، ملهمة لكثير من المدن والمحافظات الأخرى، وأكثر من ذلك، شكّلت دافعاً للشباب الثائر الذي يقوم بتنفيذ العمليات "المنفردة"، والتي توقع خسائر جسيمة في صفوف الجنود والمستوطنين الصهاينة، على غرار الأبطال عدي التميمي، ومحمد الجعبري، وخيري علقم، وآخرهم وليس أخيرهم الشهيد البطل حسين قراقع.

جهات أخرى كثيرة مهتمة بانتخابات الجهاد غير العدو الصهيوني، وبينها دول إقليمية تؤدي أدواراً متعددة في المنطقة، وتحاول أن تمثّل "بيضة القبّان" في كثير من الملفات، وبينها الملف الفلسطيني، وازداد اهتمام تلك الدول بالحركة بعد معركة "وحدة الساحات"، إذ تبيّن لها أن حجم الجهاد وتأثيرها ليسا كما كان يصوّرهما البعض، وأن قدراتها وإمكاناتها أكبر مما كانت هذه الدول تعتقد، وأن تأثيرها في الميدان أكبر كثيراً مما تقوله، أو يُقال عنها في وسائل الإعلام، وأنه لا يمكن الوصول إلى توافقات، صغيرة كانت أو كبيرة، ولا سيما على صعيد المواجهة مع "دولة" الاحتلال، إلا بموافقة الجهاد الإسلامي، وأن محاولات تجاوزها، والقفز عن مواقفها وآرائها، ستفشل لا محالة، كما حدث في عدة مرات.

وبناءً عليه، تحرص هذه الدول على إبقاء خطوط تواصلها مع الجهاد مفتوحة، وتسعى في كثير من الأحيان لاستمزاج رأي الحركة في كثير من الملفات، وخصوصاً أنها تدرك تماماً أن حركة الجهاد ليس لها مطامع في سلطة أو حكم، ولا تسعى للحصول على مكاسب حزبية، وهي تقدّم مصلحة شعبها على مصالحها الخاصة، ومستعدة على الدوام للتضحية بكل إمكاناتها وقادتها من أجل حماية شعبها، والمحافظة على مصالحه.

على المستوي الفلسطيني الداخلي، شعبياً وفصائلياً، يُنظر إلى انتخابات الجهاد الإسلامي بكثير من الإعجاب والتقدير، وخصوصاً في ظل اطّلاع الجماهير على دور الحركة على مستوى حماية السلم الأهلي، والتقليل من تبعات الانقسام، والحرص على مصلحة المواطنين الفلسطينيين، والدفاع عن حقوقهم، والمساهمة في تقديم جزء كبير مما تملك إلى شعبها وحاضنتها الشعبية، على رغم الأزمة المالية التي تعانيها. وبالتالي، يمكن لنا أن نرى مدى الإجماع الذي تحوزه الحركة في أوساط الفلسطينيين، وعدم وجود تباينات أو اختلافات بشأن دورها وأدائها في كل الملفات التي تتحرك من خلالها، لذلك، تهتم كل أطياف الشعب الفلسطيني باستقرار هذه الحركة، وبوجود قيادة قوية وأمينة على رأسها، لأن استقرار حركة بحجم حركة الجهاد، يعطي شعوراً بالأمان والاطمئنان، للجميع من أبناء الشعب الفلسطيني، على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية.

ختاماً، نقول إنّ انتخابات حركة الجهاد الإسلامي، التي تقود بصورة مباشرة المواجهة مع العدو في كل الميادين، والتي تضطلع بأدوار مهمة جداً على صعيد الاستقرار الداخلي، وحماية الجبهة الداخلية للشعب الفلسطيني، ستشكّل من دون أدنى شك، رافعة جديدة في مسيرة هذه الحركة، وستدفع مزيداً من الدماء الشابة في عروقها النابضة بالحياة، وستُفشل كل الخطط والمؤامرات الساعية لضرب بنية الحركة، وجسمها التنظيمي الصلب، وستؤدي، بهمّة الشيوخ، وعنفوان الشباب، إلى مزيد من الاستقرار والترابط بين أبناء هذه الحركة، على نحو ينعكس إيجاباً على مجمل الوضع الفلسطيني، الذي تشكّل الجهاد ركناً أساسياً فيه، لا يمكن التخلّي عنه، أو التفريط فيه.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023