بقلم الكاتب:
وليد الهودلي
ابن عمّي الحبيب، تعرف كم هي معزّتك عندي، هل تدرك كم أنا أحبّك؟
" قالها المعتقل صالح طحاينة وهو يشبّك يده بيد ابن عمّه نعمان طحاينة في ساحة سجن جنيد"
ردّ نعمان ووجهه يشعّ بابتسامته المعروفة والتي يجيد رسمها مصداقا لما يعتمل في قلبه:
- قل لي مباشرة ماذا تريد ودعك من هذه المقدّمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
- مباشرة هكذا، طيّب إذا الموضوع صعب ويحتاج إلى تضحية كبيرة؟
- تعرف أنا معك على ما هو أبعد من الموت.
" نظر صالح حوله يمينا وشمالا، نظر إلى برج المراقبة، حدّج بعيني نعمان كعيني صقر وهو يعاين فريسته وهتف بحزم:"
- الموضوع موضوع هرب من السجن.
- فليكن، أنا جاهز.
- أنت لن تهرب، بل أنا.
- فداك، قلت لك أنا جاهز.
- اسمع انا محكوم ثلاثين سنة، أنت باقي للإفراج عنك ستة شهور.
- فهمت، غدا سينقلون الاحكام العالية إلى سجن نفحة والاحكام الخفيفة الى النقب.
- أنت صالح فتذهب الى نفحة وأنا نعمان أذهب إلى النقب.
- مفهوم، مفهوم، أنا موافق دون أيّ تردد.
- ومستعد لتحمّل كل التبعات مهما بلغت.
" صمت برهة جعلت صالح يتراجع إلى درجة الندم عن هذه الفكرة الجهنمية، بدا له الأمر وكأنه يؤثر نفسه على ابن عمّه، ولكن هو يعلم تماما أن نيل حرية أحدنا ليس لهدف ذاتيّ، كما أنهم سيطلقون سراحه لا محالة بعد أن يكشف النقاب عن الفيلم إذ هو خطؤهم."
تابع صالح:
- بإمكانك الرفض وانسَ ما قلته لك.
- يا رجل، أنا فقط تريّثت قليلا حتى يرزقني الله نيّة خالصة لهذا العمل العظيم.
- فماذا وجدت؟
- عدة نوايا صالحة معا، توكّلنا على الله، أنت خطّط وسأكون لك خير المنفذّين.
" نعمان شاب قارئ بنهم، مثقّف منفتح، مهتم ومتابع لكل ما يصدر على الساحة العربية من فكر ثوري وتحرّري، يتابع كتابات وإصدارات الحركة الفكرية في فلسطين وخارج فلسطين، يناقش ويحلّل بهدوء واتزان وعمق، يعشق النقاشات السياسية والفكرية"
انتهت ساعة الساحة "الفورة" ونادى مناديهم ليدخل المعتقلون الى زنازينهم، هذه الساحة الضيقة التي تأخذ شكل شبه المنحرف كأنها تعبّر عن انحراف فطرة هذه الجبلّة النكدة من البشر، يطوفون فيها المعتقلون كما يطوف الحجيج، لا تحتمل أن يذرعها المعتقلون ذهابا وإيابا، لضيق مساحتها وكثرة المعتقلين، يذهب كلّ الى زنزانته ليحدّث بما ثرثره في الساحة وبما سمع من عجيب الكلام وغرابة التحاليل السياسية التي تشرّق وتغرّب، نعمان وصالح دخلا صامتين، تداركا حالة الصمت وكي يموّها ما جرى بينهما من حديث تظاهرا بانهما كانا يحطّبان على اتفاقية أوسلوا ومن أبرمها مع المحتلّ الغاصب.
في الصباح الباكر تكركب السجن، نادوا على العدد، طافت زمرة من زبانية السجن وعدّت المعتقلين كما يعدّ راعي الغنم رؤوس قطيعه، هذه العادة المقيتة التي لو لم يكن في السجن سواها لكفى لما فيها من ذلّ ومهانة، وصلت قوائم النقل أقسام السجن مباشرة بعد العدد، نادوا كلّ باسمه الرباعي على أي سجن اختاروه له عبر مكبّرات الصوت، وكانت خيبة أمل كبيرة لغالبية الأسرى إذ كان المتوقّع بعد ابرام اتفاقية سلام (كما وصفوها) أن يتمّ اطلاق سراح الأسرى فورًا، هؤلاء القوم قرّروا أن ينقلوا الأسرى إلى منافي السجون في الداخل المحتلّ. وانشغل الجميع في لملمة أغراضه من ملابس وكتب ومذكّرات، تنظر إلى الزنازين كأنّها خلايا نحل تتحرّك حركات عشوائية في صحراء قاحلة لا زهر فيها ولا ورد ولا عشب، دخلت قوّة كبيرة من الشرطة متوحّشة مستنفرة وكأنها جاءت لحرب أو معركة.
وصل اسم صالح فخرج لهم نعمان بخطى ثابتة كأنه يتقدّم لاستلام شهادته الجامعية، ثم نادوا اسم نعمان فخرج لهم صالح بكلّ ثقة ويقين لا يتزعزع، دارت عيون بقية من كانوا في الزنزانة ثلاثمائة وستين درجة، تحرّك الحسّ الأمني الكامن في صدورهم من خلال ما تراكم من خبرات، كتم كل منهم ابتسامته التي أوشكت أن تندّ في وجهه، سار كلّ منهم في مسرب من هو على شاكلته، كانت السيارة الحديدية الصمّاء سيئة الصيت والسمعة والتي تدعى " بوسطة" لكلّ منهم بالانتظار، تفاجأ من في الأولى بصالح: قالوا أنّ هذه البوسطة للأحكام البسيطة، ردّ بثقة عالية:
- أنا اسمي الرسمي حسب الهويّة نعمان، لكن المتداول صالح.
وهكذا صار مع نعمان: كيف يـأتون بك إلى بوسطة الأحكام العالية فردّ بحزم كي يفهم من استعصى عليه الفهم.
- أنا صالح يا جماعة الخير لكن اسم الدلع هو نعمان.
ردّ بشيء من العصبية والحزم كأنه نذير تهديد وحرب.
قال أحدهم بعد أن لقط الرسالة راداره الأمنيّ:
- أنا أعرف هذا من زمان، الشباب لا تؤاخذهم أخي نعمان فهم لا يعرفون، لكن من اليوم وطالع صاروا يعرفونك تمامًا وسوف نعيدهم إلى اسمك الأصلي نعمان.
ودخل نعمان سجن نفحة بعد أن قطعت بهم البوسطة أربع ساحات تارة تخضّهم كما يخفق الحليب مع البيض، وتارة ترجّهم ليراجعوا ما في بطونهم، المعتقلون يقولون كلما أوشكت رؤوسهم أن تضرب في السقف، هذا السائق "ابن حرام"، فيردّ البعض بل دولتهم "بنت حرام"، نعمان يجول في عقله ما فعل مع صالح، يبتسم قلبه وهو يتذكّر اللحظة الجميلة التي سيكشف فيها الامر خاصة بعد تحقيق حريّة صالح.
صالح يتردّد في صدره ما فعله بابن عمّه نعمان، ماذا لو أصرّوا على أن يكمل نعمان مدة حكمه الذي استبدله به، لا لا هو يعرف تماما أن قانونهم رغم عوجه لا يسمح لهم بقاءه يومًا واحدًا بعد الانتهاء من حكمه، وفتحت أبواب النقب لصالح الذي أصبح نعمانا، تمّت إجراءات التفتيش والتشخيص بسلام، ولج الى القسم وتقاطر المعتقلون للسلام على الوافدين الجدد، جاء أبناء بلده للتسليم فرأوا صالحًا بدل نعمان، أسرّ لأحدهم أنّ اسمه الرسمي في الهوية نعمان، فهم ضمنا الأمر دون أن يدسّ أنف فضوله، عمّم على معارف صالح بأنّ هذا نعمان وليس صالح.
سارت الأيام في النقب بطيئة إذ انّ الستة شهور الباقية كفيلة في السجن بكشف أعظم سرّ، خطر الاشاعة وخطر العصافير(العملاء) وكوارث الفضوليين الذين يشبعون كلّ شيء تحليلا وثرثرة، وأولئك الباحثون عن السبق الصحفي في اكتشاف الخبايا، وصالح يقوده تصميمه على الانتصار على سجّانه ويدفعه للمزيد من التفكير العميق واستنفاذ كلّ ما لديه من حنكة ودهاء، أخيرًا وجد ضالته في ابن عم آخر له وقد اقتربت ساعة الافراج عنه، أسبوعان يفصلان بينه وبين حريّته، توجّه له صالح دون تردّد:
- ابن عمّي وحبيب قلبي، تعلم أنّي بدّلت بيني وبين نعمان؟
- ومن الذي يعلم إن لم أعلم أنا، كانت خطوة عظيمة ربنا يتمّمها على خير ونصر بإذن الله.
- لكن باقي للإفراج ستة شهور.
- آه الان فهمت ما تريد، أنا جاهز، جهّز حالك للإفراج بعد أسبوعين.
- أريدك أن تفكّر في الأمر، القرار ليس سهلا.
- ولا في أسهل من هذا القرار، أنا أعلم لماذا تريد الحرية، ليس لذاتك أنت صاحب قضية.
- وأنت كذلك.
- أنا سيضطرون للإفراج عني بعد فترة تحقيق، ويا جبل ما يهزّك ريح، فداك ابن عمّي الحبيب صالح، بعدين أنت قائد ومفكّر أثرك في الناس يختلف عن أثري.
وسارت الأمور كل يوم يمرّ كسنة، يخرج جميع من في القسم الذي يحوي أربعة خيام كبيرة، تبدو كأنها في قاع بئر سحيق؛ بسبب الجدران العالية التي تحيطها من جهاتها الأربع، ينقل المعتقلون خطواتهم كأنما يساقون الى الموت، يأتون إلى حيث يعدّون ثلاث مرّات يوميا، ويجري تشخيصهم مرة مساءً، حيث ينادى على الاسم وينظر ضابطهم في الصورة التي في الملف ليتأكد أنها مطابقة لمن يقف أمامه، يلهج صالح بالدعاء من أعماق أعماق قلبه أن يتمّ عليهم ستره، الآن ثلاثة يُشخّصون بشكل خاطئ، نعمان في سجن نفحة ومحمود وصالح في النقب، أيّ اكتشاف لأي منهم تنتهي القصة نهاية مأساويّة.
تم تبليغ محمود (والذي يحمل اسمه الآن صالح) بالإفراج صبيحة اليوم التالي بعد انتهاء الأسبوعين بشقّ الانفس، بعد العشاء كما جرت العادة يجري احتفال للمفرج عنه، واحتفل من في القسم بصالح، كانت الأغاني والأهازيج والنكات تصبّ على رأس صالح من كلّ صوب وحدب وهو يصوّب عيون قلبه إلى المحطة الأخيرة حيث التمحيص الأخير من قبل ضباط الإدارة، هل ستنجح هذه الولادة القيصرية من رحم هذا السجن من خلال هذه اللعبة الغريبة الجديدة؟ أم أنه قد وصلهم خبر عنا وهم ينتظرون لحظة اعلانهم النصر؟ سترك يا ربّ.
مضت ساعات الصباح ثقيلة وكأنها سلحفاة مريضة، تمام الساعة الحادية عشرة يتوزّع من في القسم على جلسات قرآنية، لم يعد صالح يشعر بالزمان ولا المكان، حاول جاهدا أن ينسجم مع ما يتلى من قرآن فلم يرد إلى قلبه إلا قوله تعالى:" وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، ويركز تفكيره بأنه محمود وليس صالح وقد يسألون عن اسم أمّه وأفراد أسرته، كان محمود جاهزا للمسح الاجتماعي وللإجابة على كل الأسئلة كافّة.
نودي على الاسم من قبل السجّان، تلقّفه المعتقلون وتقاذفوه بمرح وحبور، تحوّل الاسم إلى نوتة موسيقية يشارك القسم كله في العزف والترنّم، وكان العناق الحارّ بين محمود الحقيقي ومحمود الذي لبسه صالح، فاضت عيني صالح، ربّت محمود على كتفه وهمس: لا تقلق يا محمود سنلتقي عند الحجة ان شاء الله.
تمّت الولادة من القسم، سجد صالح سجدته الأخيرة وخرج ملوّحًا بيديه لمن تركهم خلفه في السجن، حدّق السجّان في وجه صالح، ونظر في البطاقة التي في يده، كبّل يديه بقيدهم المعدنيّ ثم سار أمامه الى حيث مكاتب الإدارة، أجلسوه في قفص كما يفعلوا في حديقة الحيوانات لانتظار " البوسطة"، أربع ساعات كانت بمثابة ساعات اشتعال واحتراق لولا ما يصبّ عليها من يقينه وثقته العالية بنصر الله له على أعدائه.
فجأة أصبحوا على عجلة من أمرهم، فتّشوه بسرعة تفتيشًا عاريًا، استبدلوا سرواله الداخلي بآخر من عندهم خشية من تهريب دفتر أو أية كتابة يرون أنّها تضرّهم، كان قلبه يبتسم ويقول: لو يعلمون أن كلّ هذا الانسان مغيّر، يا ربّ سترك.
ضابط الأمن صاحب التدقيق الأخير قدّم له موعظة: " فكّر في مستقبلك، تزوّج وعيش حياتك، ما بدنا نشوفك في السجن مرّة ثانية"
هزّ صالح راسه واكتفى بالصمت، في أعماقه يردّد كلمة قالها له أحد المحقّقين بداية سجنه، سنريك نجوم الظهر، "أنا اليوم الذي سأريكم وجوه الظهر بعون الله."
غادرت البوسطة محمّلة صالح الى حيث بلدة الظاهرية، ترجّل صالح، عبّ نفسًا عميقًا من هواء الحريّة، عانق من كان بانتظاره من أهل محمود، أجاب على سؤالهم الذي ارتسم في عيونهم:
- أسبوع وسيفرج عنه بإذن الله، هذا الموجز أما تفاصيل الخبر فسأحدّثكم عنه بالتفصيل عندما نصل البلد.
(ويختار الله منا الشهداء، بعد سنوات من هذه القصة وبعد مسيرة حافلة بالجهاد والعطاء اختارهما الله شهداء عنده يرزقون: صالح ونعمان)