بقلم الدكتور ابراهيم ابراش
اكاديمي بروفيسور في العلوم السياسية
ما سنقاربه في هذه المقالة من تحليل للعلاقة الملتبسة بين الرئيس – أبو عمار ثم أبو مازن -والنخبة أو الطبقة السياسية لا تبرئ الرئيس من المسؤولية ،إلا أن خصوصية الحالة الفلسطينية من حيث ضعف المؤسسات السيادية وتدَّخُل دول في صناعة النخب تجعل قدرة هذه النخب في التحكم بالنظام السياسي أقوى من قدرة الرئيس بل تستطيع التضحية بالرئيس في حالة تعارض المصالح والتوجهات .
منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وهي تتموقع كأعلى وأسمى مرجعية وتمثل حالة التحرر الوطني وكان رئيسها أبو عمار ينتمي لتلك المرحلة بما تتطلبه من زعيم كاريزمي ،وفي عام 1994 قامت السلطة الوطنية الفلسطينية كحالة مُقحمة على حالة التحرر الوطني إن لم تكن متعارضة معها ،وأصبحنا أمام حالة ملتبسة وغير مسبوقة تاريخياً حيث تداخلت مرحلة التحرر الوطني ومؤسساتها مع وجود سلطة حكم ذاتي وحكومة في ظل الاحتلال ،وهذا أربك مفهوم القيادة والرئاسة وموئل الشرعية إن كانت شرعية ثورية مستمدة من حالة التحرر الوطني أم شرعية مستمدة من اتفاقية أوسلو وملحقاتها ومن الانتخابات التي تجري كأحد استحقاقاتها ،
كما أن مرحلة السلطة تواكبت مع تصفية وتغييب مبرمَج لقيادات مرحلة التحرر الوطني وانزياحات وتحولات في الطبقة السياسية ،بل يمكن القول أنه وقبل قيام السلطة الوطنية تم إعداد رموز النخبة التي ستحكم السلطة بتوافق مع الإسرائيليين . كان الزعيم أبو عمار رئيسا للمنظمة ورئيسا للدولة بالإضافة لرئاسته لحركة فتح الحزب القائد في النظام السياسي ،
وبعد انتخابات عام 1996 تشكل المجلس التشريعي الذي استمر خاضعاً لنفس المرجعية إلى حين انتخابات يناير 2006 حيث فازت حركة حماس ،التي هي خارج منظمة التحرير ،بالأغلبية وسيطرت على المؤسسة التشريعية وشكلت حكومة ،وظهرت طبقة سياسية بمرجعية مختلفة مما زاد الأمر تعقيداً . جمع أبو عمار بين كل الرئاسات وتصرف كقائد لحركة تحرر وطني ورئيس سلطة ودولة ،وكان محل احترام وتقدير الشعب بالإضافة إلى قوة حضوره دولياً ،وكان محاطاً بطبقة سياسية ،بعضها جاء من حالة التحرر الوطني ومتفقة معه في الرؤية الوطنية ،وبعضها الآخر تسلق إلى مواقع قيادية في السلطة برضى الرئيس أو تم فرِضهم عليه . هذه الطبقة السياسية ،المشكلة من خليط من النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية وما أنتجت من نخب طفيلية تابعة ،وقفت إلى جانب الزعيم الرئيس أبو عمار طوال ممارسته للعمل السياسي في سياق عملية التسوية عندما كانت السلطة في وضع مريح ،ولكن ،عندما أدرك أبو عمار المصيدة التي أوقعته فيها تسوية أوسلو وقرر رفض الشروط الأمريكية المهينة في لقاء كامب ديفيد 2 ولوَّح بالعودة لمرحلة الكفاح المسلح وتمت محاصرته في المقاطعة بعد عملية السور الواقي 2002 وقررت إسرائيل بموافقة واشنطن تصفيته ،
انقسمت الطبقة السياسية ما بين مؤيدين ومخلصين للرئيس وداعمين لمواقفه وفئة أخرى ناصبته العداء واتهمته بالفساد تارة وعدم عقلانيته تارة أخرى بل اغتالته سياسياً قبل أن تغتاله إسرائيل جسدياً ،وعاش أبو عمار فترة عصيبة وهو رهين وأسير المحبسين ،إسرائيل من جانب ونخبة سياسية متواطئة من جانب آخر ،وبدأت خيوط المؤامرة للتخلص من الزعيم أبو عمار . بعض مكونات هذه الطبقة السياسية وإن لم تعادي الرئيس علناً إلا أنها تركته لمصيره المحتوم حيث كانت إسرائيل تقتله كل يوم وهو محاصَر دون أن تحرِّك هذه الطبقة ساكناً ،وحتى عندما اغتالته إسرائيل تم طي صفحة الرئيس دون أن يجرؤ أحد على الحديث عن قاتليه المباشرين وغير المباشرين ،واستمرت الطبقة السياسية تمسك بتلابيب السلطة والحكم من خلال الرئيس محمود عباس أبو مازن الذي انتخبه الشعب في ظل أوضاع داخلية مشحونة ومتوترة بعد استشهاد أبو عمار وفشل خطة خارطة الطريق وفي خضم طرح إسرائيل لخطة الفصل الأحادي والاستعداد للخروج من غزة .
استمر الرئيس أبو مازن يجمع كل الرئاسات مع تحولات خطيرة في الطبقة السياسية كانت على حساب رجالات ونهج التحرر الوطني ،وواصل النافذون في الطبقة السياسية الجديدة (الحكومة الخفية) في تملق الرئيس أبو مازن وتمجيده بل وبالغوا في تمجيده والتسحيج له وهو ما يتعارض مع طبيعة وشخصية أبو مازن المعروفة عنه تاريخياً ،وفي نفس الوقت وظفت ما بيدها من أدوات الهيمنة الأمنية والأيديولوجية والإعلامية والاقتصادية لتعمل على مصادرة المشروع الوطني وإضعاف منظمة التحرير ومؤسساتها ،وإعاقة تطبيق قرارات المجلس المركزي والمجلس الوطني ،وتفريغ تنظيم فتح من روحه الوطنية النضالية ليتحول لمجموعات عائلية ومناطقية وجماعات مصالح ،وتعزيز العشائرية والعائلية والمناطقية ،كما كان لبعضها دور في إطالة أمد الانقسام وإفشال جهود المصالحة والوحدة الوطنية وهي اليوم تشارك بالخفاء في صفقة القرن من خلال عجزها وسياساتها المنسجمة مع الحل الاقتصادي .
كان من المُفترَض أن يتم التفكير جيداً بمشكلة الجمع بين الرئاسات وبالعلاقة بين المؤسسات المتعددة وبالنهج السياسي ،بعد ما طرأ من تغيرات على النظام السياسي الفلسطيني بعد استشهاد أبو عمار وبعد هزيمة فتح في الانتخابات التشريعية عام 2006 وبعد انقلاب حماس وسيطرتها على قطاع غزة 2007 ولكن هذا لم يحدث ، وكان يجب أن يحدث ليس لتشكيك في نوايا الرئيس أبو مازن وأهليته للقيادة ،بل لأن المرحلة وتحدياتها تتطلبان ذلك ،إلا أن النافذين في الطبقة السياسية (الحكومة الخفية)،الذين انكشف عجزهم وفشلهم والذين راكموا مصالح خاصة وتعززت ارتباطاتهم مع إسرائيل ،وجدوا في استمرار الأمور على حالها ما يحقق مصالحهم ،لأنه وضع يترك لهم المجال للتحكم في مفاصل السلطة والنظام السياسي مستغلين وجود الرئيس أبو مازن على سدة كل الرئاسات ،
وبالتالي سيكون من السهولة تحميله المسؤولية عن كل ما يجري وما قد يجري من انهيارات في المؤسسات التي يترأسها :مسؤولية ترهل وضعف منظمة التحرير ،ومسؤولية عجز السلطة وما يُشاع من وجود فساد ،ومسؤولية تردي حالة تنظيم فتح وانقسامه ،ومسؤولية الانقسام وفصل غزة عن الضفة ،مسؤولية الفقر والجوع في قطاع غزة ،ومسؤولية تغول الاستيطان وفشل عملية التسوية ،ومسؤولية غياب المقاومة حتى الشعبية الخ !!! . مع كامل تقديرنا للرئيس أبو مازن ومع حرصنا على المشروع الوطني ومنظمة التحرير وحركة فتح كحركة تحرر وطني ،وحرصنا على سلطة وطنية تخدم المشروع الوطني وتكون أحد أدواته النضالية ،
نتمنى على الرئيس أبو مازن ألا يرشح نفسه لرئاسة السلطة ،في حالة إجراء انتخابات رئاسية ،ويبقى فوق كل الصراعات والمناكفات السياسية ومرجعية عليا لكل الشعب من خلال رئاسته لمنظمة التحرير وللدولة ،وحتى على هذا المستوى نتمنى عليه العمل الجاد لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير بغض النظر عن المسار الذي ستؤول إليه الانتخابات والسلطة وأن يتم نقل المقر الرئيسي للمنظمة خارج الضفة الغربية المحتلة ،وفي نفس الوقت التفكير بخروج آمن من مواقع المسؤولية في أقرب وقت . على الذين يتسترون وراء الرئيس حتى يستمروا في مواقعهم المريحة والمربحة في السلطة أن يعملوا على استنهاض منظمة التحرير واستنهاض حركة فتح وتجديد قياداتها وأن يساعدوا الرئيس في البحث عن شخصية وطنية ودعمها في الانتخابات الرئاسية القادمة ،
ومن الخطأ والجريمة أن تكون المعادلة :إما أبو مازن أو الطوفان ،ونتمنى على الرئيس أبو مازن سرعة العمل لوقف تغول وتغلغل هذه الطبقة السياسية في المواقع القيادية والحساسة سواء في السلطة والحكومة أو في تنظيم حركة فتح ،وقطع الطريق عليهم بعدم السماح لهم بأن يكونوا في القوائم الانتخابية لفتح لأنه إن حدث ذلك سيتسببون في خسارة حركة فتح للانتخابات ونهاية المشروع الوطني . هذه الشريحة من الطبقة السياسية (الحكومة الخفية) كما تآمرت و خذلت أبو عمار ستخذل أبو مازن وتقدمه كبش فداء ،وهي تشتغل بالفعل على مرحلة ما بعد أبو مازن بتنسيق وتواطؤ مع إسرائيل وأمريكا ،كما أنها مستعدة للتساوق مع مخطط فصل غزة من خلال تقاسم جغرافي مع حركة حماس والحل الاقتصادي تمهيدا لتمرير صفقة القرن .