بقلم:
 المهندس الأسير/
  محمود شريتح  

بدأت المذيعة كلامها مع المراسل بقولها: مرحبًا "شارون" كان يفترض أن تحتل تغطيتك اليوم العناوين الرئيسية ..... إلى بقية الكلام والمقابلة ليست ذات صلة بالأسطر التالية، المهم أن هذا المراسل هو الذي يغطي اليوم الاحتجاجات في مطار بن غوريون، تلك الاحتجاجات التي تجددت على إثر عودة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي بقيادة نتنياهو إلى قوننة وتشريع ما بات يُعرف بـ "الانقلاب القضائي"، حيث من المقرر اليوم أن تعود الكنيست إلى نقاش بعض بنود ذلك "الانقلاب" بهدف إقراره.  

ما الذي منع هذه العناوين أن تتصدر نشرات الأخبار والبرامج الحوارية في الإعلام الإسرائيلي؟  

باختصار الدم الفلسطيني، فقد اجتاح الجيش الإسرائيلي وبإيعاز من المستوى السياسي مدينة جنين، بدأ الاجتياح بعد منتصف الليل: قصف جوي، آليات ثقيلة، قرابة الـ1000 جندي من كافة الوحدات، مشاهد الاجتياح الكبير لمدن الضفة الغربية في أبريل عام 2002، عادت من جديد الجرافات الإسرائيلية تحطم سيارات المواطنين في الشوارع، وتحرث البنى التحتية بالمعنى الحرفي للكلمة، إطلاق النار على كل ما يتحرك في المخيم، أعداد الإصابات كبيرة بين شهيد وجريح، وعندما يكون هذا هو الحال، فمن المُخجل أن نتحدث عن الخسائر المادية والاقتصادية.  

لعل الذي لا يزال يُجمع عليه المجتمع الإسرائيلي، هو إراقة الدم الفلسطيني، والإمعان في اضطهاده، وخير من يعلم ذلك هو رئيس وزراء هذا المجتمع المجرم، ورئيس الوزراء هذا يجيد اللعب بكافة الأوراق، وفي مواجهة الاحتجاجات ضده وضد "الانقلاب القضائي" الذي يقوده ائتلافه الحاكم قرر على ما يبدو لعب ورقة الدم الفلسطيني لمواجهة تلك الاحتجاجات، وصرف الأنظار عنها، وبالتحديد أنظار الإعلام العبري، وعلى ما يبدو فقد نجح في ذلك ولو بشكل جزئي، فخبر الاحتجاجات ومناقشات الكنيست الذي كان يفترض أن يكون اليوم هو الخبر الأول؛ أصبح خبرًا ثانيًا أو ثالثًا.  

لا يمكن أن يكون توقيت هذه العملية ضد شعبنا بريئًا، ومهما ساق الاحتلال من تبريرات فلا يمكن بحال إغفال الرائحة العفنة لتوظيف الدم الفلسطيني في الصراع الداخلي الإسرائيلي، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، وعلى ما يبدو فلن تكون الأخيرة التي يتم فيها ذلك، وسيبقى كل سياسي إسرائيلي مأزوم يهرب من أزماته إلى الدم الفلسطيني.  

الجانب الإيجابي لنا كفلسطينيين فيما يحدث هو تعمق القناعة ليس بإجرامية المجتمع الإسرائيلي فقط، بل وبمستوى الفساد الذي وصلت إليه نخبته السياسية، فهل بالفعل درست الحكومة الإسرائيلية نجاحاتها التكتيكية والاستراتيجية من هذه العملية؟  

سيكسب نتنياهو تكتيكيًا جراء هذه العملية، ولكنه سيخسر استراتيجيًا، قد يكسب باستشهاد بعض المقاومين، أو اعتقال بعضهم، وقد يكسب باسترضاء حلفائه المتطرفين في الائتلاف، قد يكسب في لفت الأنظار عن سعيه لاستكمال تشريع بعض بنود "الاقلاب القضائي"، ولكنه بالتأكيد سيخسر في مجالات أخرى أهم ، سيخسر عندما يتبين حجم الضرر المعنوي على الروح القتالية للجنود الذي جاؤوا بقضهم وقضيضهم ليواجهوا قلة بالكاد تجيد استخدام السلاح الخفيف.

وغني عن الذكر أن تلك الروح المعنوية في ضمور منذ زمن، سيخسر عندما سيُقدم يومًا على اتخاذ قرار أمني من موازنات سياسية داخلية رخيصة، فمن ظهر فساده مرة بهذا الشأن، سيعيد الكرة مرة أخرى، وعندما يتخذ هذا القرار في ظروف غير الظروف، ومعطيات غير المعطيات، وصادف قراره استعدادًا من الطرف الآخر "أعداء إسرائيل"، فسيندم ولن أتحدث عن الخسارة الاستراتيجية في الساحة الدولية، فلا ألقي لها بالًا في ظل مجتمع دولي منافق يتقن فن الكيل بميزانين.