بقلم/ مراد رجبي
إن لكلمة الحرية وقع خاص على أسماعنا، وتثير في أذهاننا تساؤلات عدة، فممارستها دليل على نهضة الأمم، والحرية هي مفتاح النهضة التي تشكل حضارة أمة، وتعلي من شأنها، وتعد ممارسة مبدأ الحرية حقاً طبيعياً يولد مع الإنسان في كل العصور، وأي خلل في ممارسة هذا الحق يستوجب منا الكفاح والنضال، في سبيل تكريسه على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وتجسيده على كافة الأصعدة والمجالات.
إن وجود الحريات في المجتمع يشكل رافعة سياسية وفكرية وثقافية للدولة الوطنية، فالحرية تفسح المجال أمام أحزاب المعارضة لتقديم النقد والاحتجاج، والاعتراض على سياسة الحزب الحاكم، وتصويب مساره، وخلق حالة تنافس حرة ونزيهة وحقيقية أمام كل شرائح المجتمع، وفئاته الحزبية، ونخبه السياسية للتعبير عن طموحاتهم، وغاياتهم، وآمالهم السياسية وحل مشكلاتهم الاجتماعية، وتحقيق رفاههم الاقتصادي والوصول إلى سدة الحكم من خلال صناديق الاقتراع.
وهذا ما يعطي الفرصة لجميع المواطنين للتعبير عن ذواتهم، ومشكلاتهم، وآرائهم الاجتماعية، والسياسية والفكرية، ناهيك عن أن الحرية تعبر عن تعددية وديمقراطية وتقدم ممارسة الفعل السياسي في الدولة الوطنية، وترفع من المستوى الثقافي، والفكري، والحضاري للمجتمع، وأيضاً تخلق حالة تنافس حرة ونزيهة وفعالة، وتعمل على إخراج طاقاتهم، واستثماراتهم، وإنتاجاتهم الفكرية، والثقافية، وتحرر عقولهم من استبدادية التقاليد، وبحث نخبه لإطلاق جماحهم المعرفي والفكري، وهذا ما يشكل تعددية فكرية، ونهضة علمية واقتصادية حقيقية في الدولة، يرفعها إلى عداد الدول المتقدمة.
وإن دل هذا على شيء، إنما يدل على تطور وتقدم المجتمع والدولة الوطنية، فعلى سبيل المثال نشاهد أوروبا التي قامت بعد رفس سلطة الكنيسة، وإنهاء استبداد الحاكم بتكوين ديمقراطيات توفر ممارسة الحرية لمجتمعاتها، وتحافظ على مصالحهم الوطنية، وليس بالغريب أن الرابط ما بين كل ثورات العالم هو الحرية، فقد جعلت الثورة الفرنسية شعارها هو المطالبة بالحرية، والأخوة، والمساواة، ورفع العالم العربي بربيعه شعار: (حرية، كرامة، عدالة إنسانية)، وما أريد قوله هو أن الحرية حق ومطلب رئيسي وملِح من متطلبات العصر الحديث، ونهضة المجتمع، ولا سبيل إلى التنازل أو الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، وإن تطلب تحقيقها ثورة، فلتكن ثورة حقيقية ضد استبدادية النظام، وعسكريته، وضد التقاليد البالية، وضد أي سلطة تحاول كبح مسار تحقيق الحريات في المجتمعات كافة.
أيضاً يشكل مبدأ الحرية حالة نقدية تصوّب مسار مؤسسات الدولة جميعها، لأن ممارسته داخل النظام البيروقراطي، وداخل مؤسسات الدولة يشجع ويبرز طاقات الكادر المهني، ويعلي صوتاً نقدياً يشرح نظام الدولة البيروقراطي بجميع أذرعه من أخمص الهرم إلى رأسه.
فالحرية تعني حرية الاختيار، والتعبير، والرفض، والفعل، ناهيك عن أن الحرية تشكل قدرة لدى الشعوب على محاسبة جميع موظفي الدولة، وتعمل على إصلاح هيكلية وآليات وأداء عملها وتجدد فعالية ومرونة نظامها البيروقراطي، وتمكننا من رفع شعار مفاده: (حرية، ونقد، ومحاسبة، وتصويب مسار).
دليلي على ذلك ما نشاهده اليوم في مؤسسات الدول المتقدمة من مهنية وشفافية وثقافة عالية، في الوقت نفسه نلاحظ عفن واهتراء وفساد البنية البيروقراطية، وغياب وجود ممارسة لأي شكل من أشكال الحرية في مؤسساتنا العربية، فنرى أن الدول العربية تتصدر أعلى المراتب في مؤشرات الفساد وغياب النزاهة، بالمقارنة مع الدول الأخرى.
هي كما قال محمد الماغوط:"إن حرية التعبير والكلام والمعتقد مضمون لكل فئات الشعب، ويستطيع أي مواطن عربى فى أى بلد عربي أن يدخل على مسؤول ويقول ما يشاء، ولكن متى يخرج فهذه مسألة أخرى".
هذا يعني أن غياب الحرية هو غياب للنقد، والرقابة، والمحاسبة، وأيضاً لتطوير الذات المؤسساتية، والأداتية لكل أذرع ومؤسسات، وهيكليات، وبنى الدولة الوطنية.
والحرية تعطي المجال لكافة فئات المجتمع للتعبير عن ثقافتهم ومعتقداتهم بعيداً عن التحيز للأكثرية، وتهميش الأقليات الأخرى، فهي تكون حالة من تعددية وانصهار المجتمع ببعضه البعض ومزاوجة بين ثقافاته، وأعراقه تحت مبدأ المواطنة، والانتماء للدولة ومؤسساتها ورموزها الوطنية، وهذا ما يفتح المجال أمام كل طبقات وشرائح المجتمع للتعبير عن معتقداتهم الخاصة، وممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية كيفما يشاؤون، بالإضافة إلى حصولهم على تمثيل سياسي لمثل هذه الأقلية، أو الشريحة مهما كانت هامشية أو ذات تأثير بسيط، ومثال على ذلك ما نشاهده اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية التي تضم سكان من جميع أصقاع الأرض بدياناتهم وثقافاتهم، ولغاتهم، وأعراقهم المختلفة.
ومع ذلك نراها تفسح المجال أمامهم للتعبير عن ذواتهم، وعلى العكس تماماً هناك نظام علوي يضطهد السنة والأكراد في سوريا، بالإضافة ألى تهميش أقلية عريقة وأصيلة لطائفة الأرمن في مصر، ناهيك عن حرب شعواء لا تنطفئ في العراق، بين ما يسمى أتباع المذهب السني وأتباع المذهب الشيعي للحصول على تمثيل سياسي يحقق رغبات الطرفين، وأكثر من ذلك هو عدم الاعتراف بأكراد تركيا والامتناع عن تحقيق مطالبهم السياسية أو الاجتماعية.
ونتيجة لذلك كله فإن الحرية تزيل الحواجز والفروقات وتفسح المجال أمام كل المجتمع للتعبير عن ذاته وكينونته، وإن غيابها يؤجج ويشعل الصراعات الداخلية والطائفية المقيت في المجتمع وتمزق أوصاله، ويدمر سيادة دولته الوطنية.
إن تكريس وممارسة مبدأ الحرية السياسية بين فئات المجتمع ونخبه السياسية والفكرية، وانتهاجها داخل المؤسسات الدولة، وداخل نظامها السياسي يشكل انعكاساً لتطور وازدهار، ونهضة الدولة الوطنية، وتجلياً واضحاً لماهية الأمة وحضارتها، فما أحوجنا إلى ممارسة الحرية وتبنيها منهجاً وطريقا، قولاً وعملاً وما أطيب التلذذ بنتاجها الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، والحضاري، وما أجمل التنعم بمواردها المادية، والمعنوية، والفكرية الفلسفية، فالحرية ركن من أركان حضارة وتفوق الأمة ومبدأ يستحق التضحية والموت في سبيله.