أجرت معظم التنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة مناورات عسكرية، وكانت كلها تحاكي الهجوم الفلسطيني على المواقع الإسرائيلية، إذ تبدأ المناورة بقصف الصواريخ والراجمات على هذه المواقع، مع خروج الشباب المقاوم من أنفاقٍ تحت الأرض، يحملون القذائف المضادّة للدبابات، ويبدأون بإطلاق النار بغزارة باتجاه شواخص الجُند والمدرّعات، في عملية اقتحام جريئة للمواقع، ليتم السيطرة عليها، وأخذ من ظلّ فيها على قيد الحياة أسيراً.
ظل رجال المقاومة الفلسطينية يتدرّبون على اقتحام المواقع العسكرية الإسرائيلية سنوات، تدرّبوا على إطلاق النار من الرشّاشات، ولا أبالغ لو قلت: إن أقلّ مقاوم أطلق من رشّاشه مئات الرصاصات وقت التدريب. ولا أبالغ لو قلت: إن معظم المقاومين أطلق عشرات من قذائف الهاون، وعدّة قذائف من سلاح الكورنيت والياسين، في اتجاه مجسّم الدبابات الإسرائيلية، ولا أبالغ لو قلت إن معظم رجال المقاومة اعتلوا أسطح العربات المجنزرة، وفجّروا مجسّم الدبابة التي تحاكي "ميركافا"، وأطلقوا الرصاص في المناورات على من في داخلها.
كان التدريب على اقتحام المواقع العسكرية الإسرائيلية شاقّاً وصعباً، وكان مكلفاً ومرهقاً من كل النواحي، بما في ذلك التدريب على مكوث المقاومين داخل الأنفاق فترة طويلة، زادُهم آيات من القرآن، مع قليل من الطعام، وبعض الماء، كي يعتاد المقاوم على حياة الغربة، والابتعاد عن البيت، وكي يعتاد على ظلمة النفق، والصبر والجلد في الملمّات. ولم أشهد مناورة واحدة يهرب فيها المقاوم الفلسطيني من المواجهة، أو يولّي الأدبار. كانت كل المناورات العسكرية في غزّة تحاكي الخروج من فتحة النفق، ومن تحت الأنقاض، وسط القصف والدمار، ليبدأ الهجوم والاقتحام.
في تلك الفسحة من الزمن الفلسطيني، ورجال المقاومة يتدرّبون على القتال ليل نهار، ويستعدّون، ويحشدون السلاح من هنا وهناك، ويشحذون سلاحهم بالعزم المتراكم في النفوس المقهورة. كان الجنود الإسرائيليون يهرُبون من التجنيد في سلاح المشاة، وكان معظم الشباب الإسرائيلي يتسابق إلى التجنيد مع سلاح الإلكترونيات، للاكتفاء بالضغط على الأزرار، من دون تكلفة أنفسهم عناء التدريب الميداني، والجهد العضلي، والخشونة العسكرية، التي ميّزت رجال المقاومة الفلسطينية.
وقبل تنفيذ هجوم 7 أكتوبر العسكري التاريخي الذي جسّد إرادة الإنسان العربي، وجسّد قدرة الإنسان الفلسطيني على ابتداع وسائل المقاومة، بما فيها التي لم تخطُر على بال العدو، الذي أطبق بحصاره الخانق على قطاع غزّة، حيث التفتيش الإسرائيلي الدقيق والإلكتروني لكل شحنة غذاء تدخُل، وحيث المراقبة المكثفة من الطائرات المسيّرة لكل حركة على أرض غزة، وحيث البوارج الحربية التي نراها بالعين المجرّدة، وهي تقف كالنواطير على امتداد ساحل بحر القطاع.
كيف صنع رجال غزّة هذه المعجزة؟ كيف حصلوا على سلاحهم؟ كيف طوّروا من قدراتهم؟ كيف صنعوا مستقبل الأمة، في الوقت الذي أغلقت دون قطاع غزّة الحدود المصرية، بحكم خضوعها للمراقبة والمتابعة، من أكثر من طرف، وعلى مدار الوقت، ولا تسمح المعابر مع مصر بدخول أي شاحنة محمّلة بالوقود، أو الموادّ الغذائية، قبل تفتيشها بشكل دقيق، وبعد موافقة هيئة المعابر الإسرائيلية؟
أسئلة لم تزل الإجابة عنها لغزاً يحيّر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، أسئلة لا يجيب عنها إلا نفرٌ قليل من قيادة المقاومة الفلسطينية، أولئك الذين أعدّوا رجالهم جيداً لمعركة طوفان الأقصى، المعركة التي فاجأت القيادة العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية، وتركت دولة بحجم إسرائيل (كانت تعتبر نفسها الأولى على مستوى الشرق الأوسط) تركتها تفتش عن جوابٍ بشأن الفعل الجريء المفاجئ والمقاوم، والذي أكد أن الإنسان العربي (إذا امتلك حرّيته) يتفوق بقدراته الإبداعية على أعدائه.
قبل الليلة الموعودة، كانت غزّة تشكو الفقر، وقلّة الحيلة، كانت تلهث خلف فرصة عمل في المستوطنات الصهيونية، وكانت تحشُد الشباب على الحدود بحجّة الإرباك الليلي دعماً لمقاومة الضفة الغربية، ورفضاً لاقتحام المتطرّفين الصهاينة المسجد الأقصى، كانت غزّة ترسل رسائل طمأنة إلى المخابرات الإسرائيلية، بأن غزّة تفتش عن وظيفة، وأن شباب غزّة يهاجرون منها بالآلاف، وأن الأوضاع الداخلية في غزّة قد تنفجر في وجه رجال المقاومة، وأن الحياة قد ضاقت على أهل غزّة، مع عجز لجنة متابعة العمل الحكومي في غزّة عن صرف رواتب الموظفين، التي كانت تتأخّر حتى 22 من الشهر، لتصرف إلى موظفي غزّة بنسبة 50% فقط، في عملية تمويهٍ رهيبة على تحرّكات المقاومة السرّية.
وفي تلك الليلة الموعودة، عشية اقتحام المستوطنات الصهيونية، كان قطاع غزّة يموج بحركة سريعة للمقاومين، كان الشباب يرتدون ملابسهم العسكرية سرّاً، ويتوجّهون إلى مواقع التدريب، وكأنهم يمارسون تدريباتهم اليومية، ومن ثم يختفون عن الأنظار، ليتوجهوا سرّاً إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، كانوا يتوجّهون أفراداً وجماعات، في حركة عادية، لا تثير اهتمام أجهزة الأمن الإسرائيلي. وفي تلك الليلة الموعودة، وبعد أن أدّى الرجال صلاة الفجر على الحدود، طلّ على المعمورة فجر الأمة العربية كلها، حين داست قدم المقاومة الفلسطينية على عنق الجنود الإسرائيليين، الذين ناموا في حضن الغرور، وأسندوا مستقبلهم على أسلحتهم الحديثة المتطوّرة، وظنوا أن طائراتهم التجسسية ستحفظ لهم الأمن.
رجال المقاومة الذين خطّطوا للهجوم، ورتبوا المواقيت، واختاروا لحظات الزمن الفلسطيني المضيء، أدركوا منذ البداية أن ردّة فعل عدوهم ستكون بحجم هزيمته. ولذلك أعدّوا أنفسهم جيداً للدفاع عن القطاع، وقد توقعوا ما هو أكثر. لقد رتّبوا أنفسهم على حرب المدن فترة طويلة، لقد درّبوا رجالهم على الصبر، والثقة بالنفس، لقد تدرّبوا على الحياة تحت قصف الطائرات الإسرائيلية، وتدرّبوا على الجوع، وهم يربضون في الأنفاق عدّة أسابيع، طعامهم نصف حبّة تمر، وجرعة ماء، وسلاحهم الإرادة، والجاهزية للتضحية، لا تشغلهم الدنيا عن تقديم الروح فداء للوطن، ولا يحلُمون إلا بنصر عزيز، يزلزل أركان عدوّهم الذي اغتصب أرضهم، وأذاق أهلهم ويلات الهجرة، وعذابات الموت البطيء تحت سياط الاحتلال.
غزّة قادرة على الصمود والمقاومة شهورا، ولكنها بحاجة إلى رغيف خبز من سلة غذاء الأمة العربية، وإلى شربة ماء من الأمة العربية التي يجري في عروقها نهر النيل ونهر دجلة والفرات. غزّة بحاجةٍ إلى الوقود، من أمة عربية تصدّر النفط والغاز إلى كل الدول، غزّة بحاجة إلى شباب أمّتها العربية.