قد يظنّ البعض في اعتبار وزير المالية الإسرائيلي الحالي بتسلئيل سموتريتش، أخطر شخصيةٍ في إسرائيل شيئًا من المبالغة، خاصةً في وجود شخصيات شديدة التطرف في حكومة نتنياهو الحالية على رأسها بالطبع وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. ولكن هذا الوصف جاء في الحقيقة بعد متابعة حثيثة ودراسة معمقة لشخصية هذا الرجل وتاريخه وأسلوبه في العمل، بما أوصله من متطرف مغمورٍ يكافح لدخول معترك السياسة إلى الزعيم الأقوى بين أقطاب أقصى اليمين المتطرف في إسرائيل.
ولا يظن أحد أني في هذا المقال أمدح هذا الشخص أو أعتبره خارقًا، ولكني في الحقيقة أحذر من أن دراسة مسيرته السياسية تبين أن خطورته تتجاوز الصورة الهادئة التي يظهر عليها في وسائل الإعلام.
ينبغي علينا في البداية فهم أصول سموتريتش وطبيعة تربيته، حيث ينحدر من أصولٍ أوكرانية، واسم عائلته (سموتريتش) هو في الحقيقة اسم بلدته الأصلية، بلدة "سموتريتش" الصغيرة، التي تقع على نهر يحمل الاسم نفسه غربي أوكرانيا، وهي لا تبعد عن حدود مولدوفا أكثر من 60 كم فقط، وكانت فيما مضى مركزًا لليهود الأشكناز.
سموتريتش لديه مشروع واضح والدلائل على ذلك كثيرة، فقد وجّه الرجل عينه منذ زمن طويل إلى وزارات مؤثرة، ففي الحكومة الـ34 التي رأسها نتنياهو، طلب من نتنياهو وزارة العدل فرفض طلبه، فطلب وزارة شؤون الشتات (التي تتعامل مع يهود الخارج) فرفض أيضًا
ووالده (حاييم يروحام) حاخام متدين عمل في عدة كُنُس، وانتقل إلى الجولان بعد احتلالها، حيث عين حاخامًا لمستوطنة (حسبين) المتدينة الواقعة في جنوب هضبة الجولان المحتلة، ليولد سموتريتش هناك عام 1980. وانتقل والده بعدها إلى مستوطنة (بيت إيل) شمال رام الله في الضفة الغربية حيث نشأ بتسلئيل. ولاحقًا عام 2007 انتقل والده للعمل حاخامًا لمستوطنة (بيت يتير) في جبل الخليل جنوب الضفة الغربية، حيث ما زال يشغل هذا المنصب حتى اليوم.
أما بتسلئيل، فإنه -كما يبدو واضحًا من نشأته- قد نشأ مستوطِنًا في إحدى أشد وأعتى مستوطنات الضفة الغربية (بيت إيل)، ودرس في المعاهد الدينية الأشكنازية في القدس، وربّاه والده تربيةً دينية متطرفة، حيث يعرف والده بنشاطه السياسي الديني في حزب (تكوما – الاتحاد الوطني) السابق، ويعرف باعتناقه نظرية النقاء اليهودي بين النهر والبحر، وهو ما ورثه بتسلئيل.
سموتريتش متزوج من مستوطِنة تحمل نفس أفكاره ولديه 7 أبناء، وهو يعيش حاليًا في مستوطَنة كدوميم المقامة على أراضي نابلس شمال الضفة الغربية، وللعلم، فإن بيته في مستوطنة كدوميم يقع خارج الإطار التنظيمي للمستوطنة، فهو يعمل بموجب إيمانه بعدم محدودية الاستيطان في الضفة الغربية، ولا يؤمن بتنظيم المستوطنات، ولذلك فقد أنشأ بيته الخاص في مكانٍ كان يعتبر خارج التنظيم الإداري للمستوطنة، ثم ضمه إليها.
إذن فهو باختصارٍ مستوطنٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى: ولد وعاش وما زال يعيش في المستوطنات الواقعة في الأراضي المحتلة عام 67، ولم يعرف قط حياة المدن داخل الأراضي المحتلة عام 48، ومبادئه التي يعتنقها حول الاستيطان في الضفة الغربية عاشها طوال حياته وما زال يعيشها.
تربية سموتريتش المتشددة منذ بداية حياته -باعتباره مستوطِنًا يعيش في المناطق التي لا تعترف الأمم المتحدة باحتلالها- جعلته يحمل أفكارًا مشبعةً بما يعتبره "مظلومية" المستوطنين في مناطق الضفة الغربية، فهم "مجاهدون" يكافحون لأجل "الحفاظ على أرض إسرائيل" في وجه الفلسطينيين، بينما يتمتع اليهود العلمانيون داخل المدن الساحلية الكبرى بكافة الميزات.
ومن خلال ذلك رأى سموتريتش أن العمل الأكاديمي لا يفيد طموحاته الدينية والقومية بقدر ما يفيدها الدخول في المعترك السياسي، وهو ما جعله يتوقف عن دراسة الماجستير ويدخل الحياة السياسية من خلال حزب تكوما (الحزب الصهيوني الديني)، بقيادة أوري أرئيل. وصعد فيه بسرعة وتمكن من الدخول إلى الكنيست عام 2015 نائبًا عن هذا الحزب، ولكن على قائمة حزب (البيت اليهودي) الذي كان يرأسه نفتالي بينيت، ليبدأ الصعود والتدرج حتى يناير من عام 2019، حين نجح في إزاحة أوري أرئيل عن قيادة حزب تكوما، والسيطرة عليه في انتخابات داخلية.
منذ ذلك الوقت أصبح سموتريتش عنصرًا مؤثرًا في السياسة الداخلية الإسرائيلية، حين ساهم في انضمام تكوما والبيت اليهودي في 2019 إلى اتحاد أحزاب اليمين، (فهو يؤمن بضرورة وحدة اليمين المتدين في وجه العلمانية اليسارية الإسرائيلية)، وبعد تفكك الاتحاد عقب الانتخابات، ضم حزبه إلى حزب (يمينا) بزعامة بينيت لخوض الانتخابات التالية في 2019 ثم في 2020 كذلك، ليعود بعد الانتخابات ويستقل بحزب الصهيونية الدينية الذي يرأسه في انتخابات 2021، ويحصل وحده لأول مرة على 4 مقاعد في عهد حكومة بينيت – لبيد.
ثم تمكن من رفع عدد مقاعده في انتخابات 2022 إلى 7 مقاعد، بعد أن شكل ثنائيًا مع بن غفير زعيم حزب (العظمة اليهودية) الكاهاني، ودخل في حكومة بنيامين نتنياهو الحالية وزيرًا للمالية، فيما دخل بن غفير وزيرًا للأمن القومي.
سموتريتش رسم نفسه زعيمًا قويًا لتيار الصهيونية الدينية، حيث تمكن من إقناع حزب البيت اليهودي بحلّ نفسه وجمع عدة أحزاب وتيارات يمينية معًا ضمن حزب جديد برئاسته أعلن في 20 أغسطس 2023، سماه: (الحزب الديني القومي- الصهيونية الدينية)، وأصبح بالتالي زعيم أقصى اليمين المتطرف. فهو إذن مثال لشخص تمكن من تحويل حزب ضعيف صغير إلى حزب قوي لديه أعضاء مؤثرون من خلال القفز على ظهور بقية الأحزاب اليمينية، ثم ضم الجميع تحت جناحه.
وعندما نقول؛ إن سموتريتش لديه مشروع واضح، فإن الدلائل على ذلك كثيرة، فقد وجّه الرجل عينه منذ زمن طويل إلى وزارات مؤثرة، ففي الحكومة الرابعة والثلاثين التي رأسها نتنياهو، طلب من نتنياهو وزارة العدل فرفض طلبه، فطلب وزارة شؤون الشتات (التي تتعامل مع يهود الخارج) فرفض أيضًا، وأعطاه نتنياهو بدلًا منها وزارة المواصلات التي لم تلبِّ طموحاته. لكنه استغل حاجة نتنياهو في وزارته الأخيرة في نوفمبر 2022، فأصر على وزارة المالية، وحصل عليها.
الملاحظ هنا أن الوزارات التي يريدها كلها وزارات يمكنه من خلالها خدمة مشروع الاستيطان والمستوطنات إما عن طريق مساعدة المستوطنين على التوسع الاستيطاني وتفادي أية إشكاليات قانونية (من خلال وزارة العدل)، أو من خلال إنشاء علاقات مع يهود الخارج للمساعدة في البناء الاستيطاني (من خلال وزارة الشتات)، أو من خلال التحكم في المال والميزانيات مباشرة (من خلال وزارة المالية)، وهو أحد مهندسي مشروع قانون المعقولية الذي يحد من قدرة المحاكم على وقف القوانين والقرارات التي تتخذها الحكومة.
كما أن قوته في اليمين تأتي من خلال بناء سمعته باعتباره نزيهًا، فهو الذي اقترح قانونًا يجبر الوزراء والمسؤولين على إعلان بياناتهم المالية كل 6 سنوات، وبالتالي يظهر بصورة الرجل شديد النزاهة أمام قاعدته الجماهيرية.
أخيرًا إذن، حقق سموتريتش حلمه في الحكومة الحالية لنتنياهو وحصل على وزارة المالية، وهو الآن يتحكم بميزانية الدولة، حيث قرر في وقت سابق إيقاف تحويل مخصصات الضرائب للسلطة الفلسطينية، وأثار مؤخرًا عاصفةً حول الميزانية، حين قدم ميزانيةً تتجاهل الحرب وتقلص ميزانيات الدواء والتعليم لصالح تمويل أحزاب الائتلاف والاستيطان، وهذا يبين تركيزه على مشروعه الاستيطاني وعدم تأثره أو تشتته بأي ظروف.
وللعلم، فهو يعلن آراءه دون خوف، فعلى المستوى الداخلي يرى أن العلمانية عدو له، ويرى أن التوراة يجب أن تكون مصدر التشريع في إسرائيل، ويجب اعتماد أحكامها فيما لم ترد فيه نصوص في القانون، ولذلك فهو يحارب التيار العلماني اليساري بقوة، ويدعم التيار الديني من خلال المال.
أما على المستوى الخارجي، فهو يرى أن الفلسطينيين لا حل معهم إلا القبول بالحياة الدونية تحت السيادة الإسرائيلية: أي "الاستعباد" (وهذا التعبير بالمناسبة هو ما يستعمله بعض أقطاب اليمين المتطرف)، أو الطرد خارج البلاد، أو الموت. فهو كأبيه، لا يؤمن بوجود غير اليهود بين النهر والبحر، بل يمد رؤيته إلى الأردن، كما حدث عندما نشر صورته مع شعار يحمل صورة الأردن وفلسطين.
وهو لا يعترف بوجود أي حدود للاستيطان، فالحل عنده للضفة: إغراق الضفة بالمستوطنات والمستوطنين لإجبار الفلسطينيين على المغادرة أو الموت، والحل الذي يطرحه لغزة: الهجرة للخارج، والاستيطان الكامل في غزة، بل ويقدم ذلك في قالبٍ إنساني. ويدعي أن وجود المستوطنات كفيلٌ بوقف عمليات المقاومة. كما أنه يشجع السيطرة الكاملة على المسجد الأقصى، ولكنه لا يدخله التزامًا بفتوى الحاخامية الكبرى، وهي مفارقة تبين مدى التزامه الديني بآراء الحاخامية.
سموتريتش ليس مثل بن غفير الذي صار بعضهم يلقبه بـ "وزير التيك توك"، فـ"بن غفير" يعتمد على المواقف الشعبوية مثل رفع السلاح والصدام العلني ونقل مكتبه لحي الشيخ جراح والصراخ هنا وهناك، أما سموتريتش فهادئ قليل الكلام كثير الفعل.
بل إنه يعرف متى يتراجع تكتيكيًا كما فعل حين تراجع عن هجومه على لوبي المثليين في إسرائيل؛ تحضيرًا للانتخابات لكن دون أن يتراجع عن قناعاته علنًا، فهو رجل تكتيكي وليس براغماتيًا. وهنا تكمن خطورته، فالرجل قد يتمكن بسياساته لاحقًا من إقناع التيار اليميني بأجمعه -لا أقصى اليمين المتطرف فقط- بأن يصبح تحت قيادته هو ويتجاوز حليفه الحالي بن غفير وحتى نتنياهو، ولا أستبعد أن يكون ذلك أحد أهم طموحاته المستقبلية.
ولذلك، فإن كان هناك من يجب متابعته والتحذير منه والانتباه لخطواته اليوم فهو سموتريتش، فلا يوجد أخطر من أن يكون السياسيُّ معتوهَ الفِكرِ عاقلَ الفعل.