أولاً : في المقدمة الأصول :
يُعرّف العمل العسكري في أبسط صور تعريفه على أنه : أهداف ، ووسائل ، وطرق عمل ، وما لم تكن هذه المرتكزات والأصول الثلاثة حاضرة في ذهن المقاومين ؛ قادة ومجاهدين ؛ فإن ما يقومون به من أعمال وإجراءات ، ونشاطات ؛ على فضله ؛ فإنه لن يحقق لهم ما يصبون له ؛غير الشهادة ؛ والتي هي عبارة عن هدف شخصي ، لا أجّل منه ولا أفضل من الوصول له ، وهي اصطفاء من الله يصطفي بها خيرته من خلقه . لكن ما تحقق به الأهداف ، وتُنال به الغايات ، وتُصان به الأوطان والحرمات ، ويُدافع به عن المصالح العامة ، أو ما يعرف في اصطلاح أهل الشريعة والفقه بـ " الضرورات الخمس " وهي : الدين والنفس والعقل والمال والنسب ؛ ما تحفظ به هذهالمتطلبات ؛ إنما هو الدفاع عنها برأس بارد ، ورؤية واضحة ، تجعل من المقاوم والمقاومة ذات جدوى ، وتجبي من المحتل أو المعتدي الصائل أثماناً ، وتوقفه عند حده ، أو على الأقل تجعله يحسب لها حساباً ، ويُعد لمواجهتها عدته ، لا أن يصبح التعرض لها ـ للمقاومة ـ من أعمال " الأمن الجاري" الروتيني الذي يكرر نفسه بشكل يومي ، ومع ذلك يلحق بالمجاهدين والمقاومين خسائر في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية والحاضنات الشعبية ، ما يصعب تعويضه أو ملئ الفراغ الذي أحدثه ، وفي هذا الموضوع ـ الأهداف معرفة ،والوسائل مراكمة ، وطرق العمل اكتساباً وتجربة ـ تفصيل كثيرٌ هو صلب عمل العسكر والعسكريين ، وقوت يومهم ، وزاد طريقهم التي سلكوها مختارين ؛ نعفي القارئ من الخوض فيه ؛ فكل ميسر لما خلق له .
وحتى تصبح المقاومة كمضمون ، والمقاومين كفعل ، ،إطاراً فاعلاً مؤثراً ، يُحسب لها حساب ، وتلحق بعدوها من الخسائر ما يوازي ما يجبيه منها من أثمان ، لا بد من توفرأصول أربعة لا يمكن فهم الفعل المقاوم وحفظه وتطويره دون الرجوع لها ـ للأصول ـ وفهمها ، والعمل بمقتضاها ، هذهالأصول أو المرتكزات أو القواعد هي :
1. معرفة المهمة
: فلا معناً لمقاومة لا تعرف مهمتها ، ولا تعرف هدفها ، فغياب هذه المعرفة يعني إلقاء للنفس إلىالتهلكة ، وحضورها ـ المعرفة ـ من الواجبات التي لا يتم الواجب إلا بها ، وقديماً قيل :
ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب
2. معرفة الأرض
: فهي حاضنة المقاومة والمقاومين ، وهي ( سترهم وغطاهم ) وهي التي ستحتضنهم أو تلفظهم ، وهي التي سيقاتلون عليها ومن أجلها ، وهي التي ستفرض عليهم نمط عملهم ، ونوع سلاحهم ، وهي التي بمعرفتها معرفة كف اليد ، ستختصر عليهم الجهود ، وقديماً قالت العرب :
قتلت أرض جاهلها ، وقَتل أرضاً عالمها
3. معرفة العدو
: فكيف تقاتل ما تجهل ولا تعرف ؟ وهل يمكن تصور مقاومة بلا عدو أو خصم أو على الأقل منافس ؟وهل المقاومة هواية شخصية ؟ وكيف تُجهّز ذاتك أو أدواتك لعدو لا تعرف مكامن ضعفه وقوته ؟ وهنا أيضاً قيل :
العاقل لا ينم ( اقرأ يعرف ) لعدوه ولو كان نملة
.4. معرفة الذات
: أما عن معرفة الذات فهذه من اللازمات ؛ فمهمة تَعرف أهدافها ، وأرضٌ تحفظها طياتها ، وعدوتصحو وتنام على التعرف عليه ، أمور لا تكتمل ، ولا يَنهض لها إلّا كل عارف بنفسه ، خابرٌ لنقاط قوته ،ومكامن ضعفه ، وإلّا ؛ فتكليف للنفس ما لا تطيق ، وإلقاء لها في التهلكة ، وفي النهاية ؛ إكساب العدو لميزة ، ومنحه نقاط تسجيل علينا ، ومن ثم صورة تذكارية على جدران البيوت وزقاق المخيمات ، وحرق للقدرات والطاقات ، وأخطر ما في الموقف ؛ هجران الحواضن والبيئات للمقاومة وما فيها من أحزاب أو حركات .
هذا في عنوان الأصول والمقدمات ، وهنا لابد من الإشارة إلى أن هدف هذه الورقة ليس (التَعليم ) على المقاومين فيالميدان ، المُحتكين المشتبكين مع الصهاينة المحتلين ، فكلهم بلا استثناء ، وقولاً واحداً ، خيرٌ من كاتب هذه السطور ، فهم القادة وهم السادة ، وهم تاج الرؤوس وعُقلها و ( طيور شلوة ) و ( أصحاب الأولة ) . وما دور هذه الورقة إلّا لفت النظر إلى ما يمكن أن يجعل من فعلهم أكثر جدوى ، ومن حراكهم أكثر خفة وخفاء ، وما يمد في عمرهم المبارك ، فإن أحسنا ؛ فمن الله وبفضله ومنته ، وإن أسأنا فمن أنفسنا والشيطان .
ثانيا : في الموقف :
أما في الموقف فنحن أمام مقاوم نال أعلى أوسمة الشرف ، ووضع على كتفه أعلى الرتب ـ شهيدـ ولم يترك لمن خلفه عذر ، خرج عارفاً مهمته ، محدداً هدفه ، مُحضّراً أرض معركته ، مشتبكاً مع عدوه ؛ فجبى ـ مجاهد ـ منه ـ العدو ـ خسائر في الأرواح ، فضلاً عما جره عليه من تضرر في صورته النمطية كعدو لا يقهر ، وإذا بمقاوم واحد لا يتسلح إلّا ببندقية واحدة ، و(عبوة) ناسفة ، و 70 إلى 80 طلقة ، يوقف هذا العدو على ( رجل ونص ) لمدة خمس ساعات ، ولم ينل منه إلى بعد تدخل سلاح الطيران عبر مروحية قتالية قصفت محل تحصنه ، وساحة عمله ، فارتقى شهيداً سعيداً ، فكان خيرة خلقه الله اختاره في أفضل أشهره سبحانه عز وجل ، شهر رمضان ، شهر الصبر والجهاد .
ثالثاً : في الدلالات :
إن عملية هذا المجاهد الشهيد السعيد ، تحمل في طياتها من المعاني والدلالات ما يمكن أن تسطر فيه الكتب ، ويسيل فيه حبر كثير ، وتبيض فيه الصفحات ، ولكننا سنحاول في عجالة أن نربط بين ما تحدثنا عنه وحوله من أصول العمل العسكري ـ أهداف ، وسائل ، وطرق عمل ـ وما يحيل هذه الأصول إلى واقع عملي ضمن دائرة تُغلق على هدف فتنجزه وتحققه ، عبر الارتكاز إلى مرتكزات معرفية أربع ـ معرفة المهمة ، معرفة الأرض ، معرفة العدو ، معرفة الذات ـ لندلل على الكيفية التي حوّل فيهاهذا الشهيد السعيد كل هذه المعارف وتلك المرتكزات إلى عملية عسكرية ؛ أغاظت الأعداء ، وشفت صدور قوم مؤمنين ؛ ولو إلى حين ، إن أهم دلالات العملية هذه ؛ وفي نفس السياق المعرفي العسكري تدلل على أن المجاهد "مجاهد" قد :
1. عرف مهمته : وهي قذف الرعب والخوف في صدر هذا المحتل ، فعمد إلى استهداف أصل مشروعه الاستيطاني الاحتلالي ، عنينا به قطعان المستوطنين المغتصبين لأرضنا ، المعتدين على عرضنا ، فهم أصل مشروع العدو وغياته ، وإن هم قُذف في قلوبهم الرعب ، وأحيلت حياتهم إلى جحيم ، وتهيبوا من السير والتنقل على طرقنا ومن بين مدننا ؛ فإن هذا الاحتلال إلى زوال ، مهما تمادت به الآزال .
2. عرف الأرض : فمن شاهد الصور ، ومقاطع الفيديو التي خرجت بعد العملية ، ورأي هذا (الذيب) يتنقل بين الـ ( سناسل ) الحجرية والـ ( رجوم ) الصخرية ؛ يعلم أن هذا الأسد عرف الأرض التي حضنت جسده الشريف شهيداً ،ومن يراه يتنقل بين أشجارها وخلف زيتونها ؛ يعرف أنه قد مر من هنا قبل هذه المعركة ، وأنه يعرف بُعد المسافات بين ( رجوم ) الأحجار وسيقان الأشجار ، بل أكثر من ذلك ، لقد جلس مطمئناً عارفاً باتجاه العدو ومن أين سيأتي التهديد ، فتراه ( راجعوا الصور والأفلام ) لا يلتفت للخلف ، بل كل انتباهه إلى الأمام والميمنة والميسرة ، حيث يتوقع قدوم العدو ، فَكَمن له ـ للعدو ـ وقتل منه وجرح ، كماعرف أن هذه الأشجار ستحتضنه وستحرم العدو ميزة الرؤية الرأسية ، وتسطيح الطبوغرافية الأرض ، والانقضاض عليه من السماء ؛ فأسقط له مسيرة ، وتحطمت له غيريها لذلك اختارها ـ الأرض ـ ، ثم لم يستطيع العدو النيل من هذا ( الذيب ) إلا باستدعاء مروحية قصفت المكان ليرتقي مجاهد شهيداً سعيداً ، مقبلاً غير مدبر . ولا يفعل فعل هذا (الذيب ) إلا من قتل الأرضمعرفة ؛ فقتل فيها عدوه ، مقبلاً غير مدبر.
3. عرف عدوه : نقاط ضعفه وقوته ؛ فاختار ساحة معركته ، وسلاح اشتباكه ، وعدد رصاصاته ، وما يتدرع به من لباس يتقي به شر عدوه ، كما عرف أن هذا العدو يتميز بميزة التفوق الجوي ، فحرمه منها عبر التشويش عليه ، متنقلاً من ظل شجرة إلى أخرى ، ومن ( عٍرق ) صخرة إلى اختها ، فحمى نفسه ، وكشف عدوه ، فقتل وجرح منه ما جرح ، بل أكثر من ذلك ، فقد خصص رئيسي هيئة أركان العدو جزءً من وقته ، تاركاً غزة وما فيها ومن فيهالمتابعة هذا الحدث ميدانياً ! أفلا يدل ذلك على معرفة هذا ( الذيب ) بفريسته ، ( فنهشها ) من كتفها ؟
4..عرف نفسه : قدراته ، ونقاط قوته وضعفه ، فلم يحمل مايثقل كاهله ، ويعيق حركته ، فخف وزناً ؛ ليزداد في الحركةً مرونة ، فناور في ساحة معركته أيما مناورة ، واشتبك أيما اشتباك ، ولا أدل على كفاءته الناتجة عن معرفته لنفسه من صموده خمس ساعات قتال ، وتصديه لقوة المطاردة ، وقتل جندي وجرح سبعة ، ثم عدم قدرة عدوه على تحيده براً ، مما دفعه لاستدعاء سلاح الطيران ، فمن لا يعرف نفسه وقدراته ؛ لا يفعل فعل هذا الشهيد وبهذه الكفاءة .
هذه أهم دلالات هذه العملية البطولية التي أوقف فيها المجاهد "مجاهد" الشهيد السعيد ، العدو على (رجل ونص ) لمدة خمس ساعات ، ثم ودعنا موصياً كل مجاهد ومقاومومناضل ، أن إذا أردت أن تؤثر في عدوكم ، وتثخن فيهجرحاً ؛ فما عليك إلّا التوكل على الله ، ثم الأخذ بالأسباب ، ثم معرفة مهمتك وهدفك ، والأرض التي تقاتل عليها ، والعدو الذي تشخصُ له لتفاجئه ، ثم نفسك التي بين جنبيك لا تُحمّلها فوق طاقتها ، وأعِدّها إعداد من يلقى عدوه من غده ، واختر من طرق العمل أكفأها وأكثرها تأثيراً ومناسبة لساحة معركتك ، وأري الله منك ما يحب ، وعندها فقط لن يجعل الله للعدو عليك سبيلاً . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
عبد الله أمين