المعركة في غزة الفقيرة والمحاصرة، والتي دفعت أثماناً باهظة خلال الشهور الماضية، ستستمر على هذا النسق المتوسّط خلال المرحلة القريبة القادمة، لا سيما في ظل افتقاد العدو الخطط العملانية التي قد تؤدي إلى تطوير شكل المعركة أو حجمها.
ربما اعتقد البعض، وأنا منهم، أن فتح محور المقاومة جبهات المساندة لقطاع غزة في كلٍّ من لبنان واليمن والعراق وسوريا يمكن أن يخفف من ضراوة العدوان الذي تشنّه قوات الاحتلال على مدن القطاع ومخيماته كافة، ذلك العدوان المستمر منذ أكثر من ستة أشهر ونصف، والذي لم يترك حجراً على حجر، ودمّر وخرّب كل ما وصلت إليه آلته العسكرية، التي لم تكد تغادر جغرافيا ما حتى تعود إلى أخرى، في محاولة مستميتة لإطالة أمد الحرب، وجبي ثمن أكبر من الفلسطينيين لعلهم يستسلمون، أو على أقل تقدير يقبلون بما تحاول واشنطن وحلفاؤها إملاءه عليهم من شروط مجحفة تنسف ما حقّقوه في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام المنصرم.
وعلى الرغم من أن الجبهات المُشار إليها آنفاً شكّلت ضغطاً هائلاً على "جيش" الاحتلال، وشتّتت بصورة لا تقبل التأويل تجمّع قواته المقاتلة، وفرّقت بين تموضعاتها الميدانية، وأشغلتها على مدار الساعة، وكبدتها خسائر فادحة في الأفراد والعتاد، لا سيما على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، والتي نفّذ خلالها حزب الله إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية وقوى لبنانية أخرى مئات العمليات النوعية، على غرار عملية استهداف حزب الله لأحد مواقع "جيش" الاحتلال المستحدثة في منطقة "عرب العرامشة" في الجليل الغربي، ما أدى إلى إرهاق قوات العدو، ودفع عشرات آلاف المستوطنين للهجرة إلى مناطق الوسط، وما شكّله ذلك من ضغط اقتصادي هائل على موازنة "الدولة" العبرية نتيجة تكلفة إقامة الهاربين من جحيم الشمال في فنادق الخمسة نجوم.
بالإضافة إلى رفع نسق التوتر الإقليمي إلى درجته القصوى، وخشية كثيرين في المنطقة اندلاع حرب واسعة على وقع التصعيد المتبادل على جانبي الحدود، استمر العدو الصهيوني في تركيز جهوده الرئيسية على المعركة التي يخوضها في قطاع غزة، والتي حسب إعلان العدو أنها دخلت مرحلتها الثالثة بعد الانسحاب من مدينة خان يونس، باستثناء مدينتي رفح ودير البلح، اللتين لم تكونا في أي يوم من أيام العدوان بعيدتين عن الاستهداف الجوي، الذي أسفر عن دمار ملحوظ فيهما، إلى جانب سقوط مئات الشهداء سواء من سكان المدينتين، أو من النازحين الذين لجأوا إليهما.
ويبدو من الكثير من التصريحات الإسرائيلية أن جبهة غزة ستبقى الجبهة الأساسية للصراع،على الرغم من توجيه نسبة معينة من الجهد العملياتي لـ"جيش" الاحتلال إلى الجبهات الأخرى، بما فيها تلك الجبهة التي شهدت تصعيداً لافتاً في الأيام الأخيرة مع الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي بلغت ذروتها فجر الأحد عندما قصف حرس الثورة الإيراني العمق الإسرائيلي بمئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، والتي احتاجت "دولة" الاحتلال فيها إلى كل حلفائها من عرب وعجم ليدافعوا عنها، ويصدّوا عن مدنها المسكونة بالرعب ما استطاعوا من شهب السماء، التي وضعت المنطقة على حافة حرب إقليمية مدمّرة، يخشى منها عديد الدول، وفي مقدمتها العدو الصهيوني، وحليفته الاستراتيجية الولايات المتحدة، التي تعاني من الانكفاء في كثير من الساحات، وإن كان البعض ما زال يحاجج في ذلك.
وهنا، يتساءل كثيرون عن أسباب هذا الإصرار من الجانب الإسرائيلي، لا سيما رئيس وزرائه المأزوم بنيامين نتنياهو باستمرار الحرب على غزة، وإفشال كل الجهود التي تسعى لوقف القتال، والذهاب في اتجاه صفقة شاملة يتم من خلالها وقف مستدام للحرب، وإدخال المساعدات الإنسانية من دون عوائق، إلى جانب عودة سكان الشمال إلى مساكنهم، وبدء الإعمار، بالإضافة وهو الأهم البدء بتنفيذ عملية تبادل للأسرى الموجودين في السجون الصهيونية، مقابل أسرى العدو لدى فصائل المقاومة الفلسطينية.
في اعتقادي، هناك العديد من الأسباب التي تدفع العدو الصهيوني إلى التشبّث بكل ما أوتي من قوة بخيار استمرار الحرب على قطاع غزة، وجعلها معركته الأساسية على حساب الجبهات الأخرى، على الرغم من أن الخسائر التي يتكبّدها في بعض تلك الجبهات قد تكون أكثر فداحة من جبهة غزة، إضافة إلى المخاطر الاستراتيجية التي قد تلحق بصورته النمطية التي رسمها في عقول أعدائه خلال عشرات السنين، والتي أظهرته في صورة الوحش الذي لا يُهزم، والبطل الذي لا يُقهر.
أولى الأسباب هو الرغبة في الثأر والانتقام من قطاع غزة، بعد ما ألحقه هذا القطاع المحاصر والمنكوب من فضيحة بقوات الاحتلال في عملية "طوفان الأقصى" البطولية، والتي شكّلت في حينها وما زالت انتكاسة هائلة وغير مسبوقة لصورة "الدولة" العبرية، وكشفت زيف كل ما كانت تدّعيه تلك "الدولة" من قوة واقتدار، وأسقطت بضربة واحدة نظرية الأمن الإسرائيلية التي كانت تعتمد على مبادئ الردع والإنذار والحسم، إذ لم يفلح عامل الردع في منع غزوة السابع من أكتوبر، ولم تستطع كل أدوات الإنذار الحديثة تحذير أجهزة استخبارات الاحتلال مما كان يُخطط لهم في الخفاء، وحتى الآن لم يتمكن ثلثا "جيش" الاحتلال الذي يصنّف بأنه أحد أقوى جيوش العالم وأحدثها من حسم المعركة بعد هذا الوقت الطويل من القتال، ولا يبدو في الأفق أنه يمكن أن يحسمها خلال المرحلة القادمة بناءً على الكثير من المعطيات، وقياساً على ما تم تحقيقه خلال المرحلة الماضية.
ثاني الأسباب هو التقييم الإسرائيلي القديم –الجديد، والذي يشير إلى أن جبهة غزة هي الأضعف من بين كل جبهات محور المقاومة والممانعة، وأن المواجهة معها بصرف النظر عن التكلفة التي قد تكون فادحة في بعض الأوقات أفضل بكثير من المواجهة مع الجبهات الأخرى، لا سيما وهو يفرض حصاراً مُطبقاً على القطاع الصغير منذ نحو ثمانية عشر عاماً، حوّل فيها حياة الغزيين إلى جحيم لا يُطاق، ومنعهم من الحصول على أدنى حقوقهم التي كفلتها لهم كل القوانين الدولية كبقية شعوب العالم، وضيّق عليهم في حلّهم وترحالهم في انتهاك سافر لكل المواثيق والمعاهدات ذات الصلة.
ثالث الأسباب هو سعي الاحتلال لتحقيق إنجاز حاسم وناجز في جبهة غزة، التي يعتقد أنه يمكن له أن "يسيطر عملياتياً" على بعض جغرافيتها، مع أن هذا المصطلح يبدو غير واقعي، قياساً على عدم القدرة على الاستمرار في السيطرة المستدامة، كما حدث في المنطقة الشمالية من القطاع، إضافة إلى المنطقة الوسطى، ومدينة خان يونس.
هذا الاعتقاد الذي يتم التركيز عليه كثيراً في معظم الكتابات والتعليقات الإسرائيلية، لا سيما من أولئك المقربين من حكومة الحرب وحزب الليكود، يشكّل عاملاً رئيسياً، وسبباً مباشراً في إصرار العدو على استمرار معركة غزة، أملاً في تحقيق ما يصبو إليه من أهداف معلنة وغير معلنة، وهو كما يبدو يراهن على عامل الوقت، الذي يعتقد أنه لا يصب في صالح الفلسطينيين نتيجة عوامل عديدة لا يتّسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
رابع الأسباب هو تيقّن العدو حتى الآن على أقل تقدير من أن عدوانه على قطاع غزة لن يؤدي إلى إشعال معركة متعدّدة الجبهات بصورتها الشاملة، وأن جبهات المساندة التي تشاغل قواته سواء بصورة مباشرة كما هي الحال على الجبهة الشمالية، أو عن بعد كما تفعل أنصار الله في اليمن والمقاومة العراقية لن تساهم في انفجار إقليمي يقلب الأمور رأساً على عقب، ويجعل ما تتخوّف منه "دولة" الاحتلال منذ أمد بعيد، أمراً واقعاً يغيّر الكثير من الحسابات، ويرسم العديد من المعادلات.
فـ"دولة" الاحتلال ومن خلال مراكز أبحاثها العسكرية تحديداً كانت تحذّر على الدوام من أن اشتعال معركة متعددة الجبهات لن يكون في صالح "الدولة" العبرية، التي لا تملك حسب كل التقديرات عمقاً استراتيجياً آمناً يقيها بأس أعدائها في حال أتاها من كل الجهات، وهي على الرغم من إمكانياتها وقدراتها العسكرية الكبيرة لا تستطيع مواجهة سيل من الصواريخ والطائرات المسيّرة الانقضاضية التي يمكن أن تهاجمها بأعداد كبيرة، وهي أي "دولة" الاحتلال تعرف أكثر من غيرها أن حلفها الإقليمي الذي ساندها في التصدي للصواريخ الإيرانية لن يتمكن من نجدتها في حال كانت المعركة طويلة الأمد ومستدامة.
خامس الأسباب وآخرها حتى لا نطيل هو وجود إجماع داخلي صهيوني على ضرورة استمرار الحرب على قطاع غزة، إذ إنه وبصرف النظر عن حجم التباينات والانقسامات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي، الذي عاش قبيل اندلاع الحرب على وقع التظاهرات غير المسبوقة احتجاجاً على "الإصلاحات القضائية"، وبعيداً من المناكفات العلنية بين القوى والأحزاب الصهيونية، فإن هناك حالة من الإجماع بين كل تلك المكوّنات على مواصلة العدوان على قطاع غزة، حتى تحقيق جملة من الأهداف يأتي في مقدمتها استعادة الأسرى الصهاينة الذين بحوزة فصائل المقاومة، من دون النظر إلى احتجاجات عوائلهم وأقربائهم، والتي حتى الآن لم ترتقِ لتشكّل عاملاً ضاغطاً على نتنياهو وحكومته لعقد صفقة تبادل، قد تؤدي في إحدى نتائجها إلى وقف الحرب ولو بشكل مؤقت.
إضافة إلى ما تقدّم، يمكن ملاحظة أسباب أخرى مثل تخوّف رئيس وزراء العدو من المستقبل الغامض الذي ينتظره في اليوم التالي لتوقف الحرب، والذي يعرف أكثر من غيره أنه سيتحمّل المسؤولية الأولى عن الإخفاقات التي وقعت فيها " إسرائيل"، سواء عند انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، أو ما تلا ذلك من فشل وإخفاق في تحقيق أهداف العدوان.
سبب آخر هو الموقف الأميركي الداعم والمساند لاستمرار الحرب، التي تنظر إليها أميركا الاستعمارية بأنها حرب مع أحد الأذرع المهمة لمحور المقاومة، وأن قطع هذه الذراع سيشكّل هزيمة لكل المحور الذي يقف لها في المنطقة بالمرصاد، ويمنعها من تنفيذ الكثير من مشاريعها التوسّعية في عموم الإقليم، لا سيما في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من الانتقادات الأميركية لبعض الخطوات الإسرائيلية، سواء فيما يخص عملية رفح المرتقبة، أو استهداف المدنيين الفلسطينيين، فإنها على أرض الواقع ما زالت تمد "الجيش" الصهيوني بكل ما يحتاجه من سلاح، وتوفّر له مظلة حماية شاملة تساعده في التملّص من القرارات الأممية والتي يضرب بها كما هي العادة عرض الحائط.
على كل حال، صحيح أن كل ما سبق من أسباب قد يساهم في إطالة عمر المعركة في قطاع غزة إلى أمدٍ بعيد، ربما يتجاوز في مرحلة ما كل التقديرات السابقة، والتوقّعات الماضية، وصحيح أن التركيز العسكري الإسرائيلي سيبقى منصبّاً خلال الأسابيع وربما الشهور القادمة على جبهة القطاع الصغير والمحاصر، والذي لا يملك حسب الرؤية الصهيونية مقوّمات الاستمرار في القتال من جهة، أو الصمود الشعبي من جهة أخرى، في ظل ما يعانيه سكّانه من قلة ذات اليد، وافتقادهم معظم الأساسيات اللازمة لاستمرار الحياة، فإن ذلك لا يعنى على الإطلاق أن "إسرائيل" يمكن أن تحقّق انتصاراً طال انتظاره على صعيد الجبهة الغزية.
فـ "إسرائيل"، وعلى الرغم من النسق المرتفع من التهديدات التي يطلقها زعماؤها صباح مساء، وبالرغم من الدعم اللامحدود المقدّم لها من كثير من دول المنطقة والعالم، فإنها تعاني بشكل لا يوصف، سواء على المستوى الاقتصادي، أو على صعيد الخسائر الفادحة التي تسقط كل يوم بل كل ساعة على جبهة القتال الجنوبية، والتي يمكن أن تُفضي في مرحلة ما إلى دفعها للقبول بما كانت ترفضه حتى الآن من صفقة تُنهي المواجهة الصعبة، وتجنّبها إمكانية تطوّر المعركة إلى حرب استنزاف طويلة المدى لا ترغب فيها بكل تأكيد.
نحن نعتقد أن المعركة في غزة الفقيرة والمحاصرة، والتي دفعت أثماناً باهظة خلال الشهور الماضية، وقدّمت عشرات آلاف الشهداء والجرحى، إضافة إلى الدمار الهائل في البنى التحتية بمختلف أنواعها وأشكالها، ستستمر على هذا النسق المتوسّط خلال المرحلة القريبة القادمة، لا سيما في ظل افتقاد العدو الخطط العملانية التي قد تؤدي إلى تطوير شكل المعركة أو حجمها، وانخفاض بنك الأهداف الذي يملكه إلى حدّه الأدنى باستثناء المدنيين الفلسطينيين الذين لم يشبع بعد من سفك دمائهم، مع بقاء إمكانية التوصّل إلى صفقة مؤقتة قائمة في ظل بعض المعطيات التي ما زالت بحاجة إلى مزيد من الضغط سواء في ميدان القتال، أو من بعض الوسطاء الإقليميين الذين لا يملك معظمهم أوراق ضغط حقيقية على "دولة" الاحتلال.
المعركة في غزة، حسب اعتقادنا واعتقاد الكثيرين، لن تنتهي بأي حال من الأحوال بانتصار العدو، ليس لأنه لا يملك مقوّمات الانتصار فحسب ،بل لأن الشعب الفلسطيني وقواه المقاتلة ليستا لقمة سائغة يمكنه ابتلاعها في الوقت الذي يشاء، إضافة إلى أن هذا الشعب رغم ما تعرض له من خذلان من معظم الأنظمة والشعوب في المنطقة، ما زال يملك حلفاء أقوياء وموثوقين، وهم حسب ما علمتنا الأيام لا ينكثون بوعودهم، ولا يخذلون حليفهم، وجاهزون كما العادة لدفع كل الأثمان التي يتطلبها هذا الطريق المحفوف بالمخاطر من كل اتجاه، هذا الطريق الذي ورغم وحشته سيصل بشعبنا ومقاومتنا إلى بر الأمان في لحظة ما، قد تطول نعم، ولكنها بلا أدنى شك آتية لا محالة.