محاولة لقراءة متوازنة للسياسة الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية

وليد الهودلي

كاتب وأديب فلسطيني

مع كل حدث له علاقة بالموقف من إيران وعلاقتها بالقضية الفلسطينية هناك أناس جاهزون لتفجير قنابل يستحضرونها من التاريخ ويخرجون لنا الملفّ المذهبي السنّي الشيعي بكلّ تداعياته المريبة، ويخرجون لنا بكلّ ما من شّأنه أن يعمي الابصار عن رؤية الواقع بصورة موضوعية وبحسابات سياسية مجرّدة. ولديهم من القنابل ما يكفي لتفجير الإيجابي الذي يمكن أن تحصده القضية الفلسطينية أو محاولات البحث عن عوامل نهضة الامّة بكلّ مكوّناتها الإيجابية التي قد توصلنا إلى الخلاص من أوضاع التبعية والتخلّف الحضاري، لا يرون ولا يكلّفون خاطرهم عناء البحث عن المساحات المشتركة والنظر فيما يجمع ويوحّد ويحقّق المصالح عدا عن مشتركات الثقافة والدين والسياسة.


وما أسرع اتهام من يحاول ذلك فتهمة التشيّع جاهزة، بسرعة يعفي نفسه من عناء النقاش ليسارع في إلصاق هذه التهمة التي صارت ممجوجة من كثرة استخدامها، رغم أن هناك كثيرا من العلماء والمفكّرين سبقوا بمواقف وسطية تدعو إلى وحدة الامّة بكلّ وضوح، وهناك من يهرب من دائرة البحث عن المشتركات وما من شأنه توحيد شطري الأمّة إلى قولة أنه يكفينا الاجتماع على المصالح المشتركة وهذه تجمع بين المؤمن والكافر، وهناك من قال بصفاقة: لا مانع من ضرب الظالمين بالظالمين وأن نخرج من بينهم سالمين، قاصدا الصراع الإسرائيلي الإيراني. والسؤال: لِمَ لا نرَ المشترك الديني والثقافي وننظر في المبادئ التي نلتقي عليها بالإضافة إلى ما نحن عليه من مصالح ومواقف سياسية نتفق عليها؟ن الفجواتوهؤلاء أنفسهم يهلّلون ويكبّرون لكل من يقف ولو بشق تمرة مع فلسطين مهما كان دينه أو مذهبه، ولكن عندما يصل الأمر لإيران: لا بد من النظر في المذهب والغوص في النوايا والذهاب بعيدا في التاريخ طبعا بالقراءة التي تحلو لهم، ولا بدّ من فتح الملفّات الإيرانية كلها ويفترض حتى تحظى إيران ببركة تأييد موقفها من فلسطين، لا بدّ لها أن تنجح بعلامة كاملة في كلّ ملفّاتها، وإلا فموقفها معنا مرفوض ومشكوك فيه ولا يمكن قبوله أبدا بل يسارع إلى رفضه أو السخرية منه بطريقة فيها كثير من الاستخفاف والتجريح.


على سبيل المثال، لو وقفت السعودية أو تركيا أو قطر بتصريح إعلامي أو مساعدة إنسانية فستحظى من هؤلاء بكل كلمات الثناء والتبجيل، بينما تقدّم إيران للمقاومة الفلسطينية الدعم المادّي والسياسي وعلى مدار سنوات طويلة، وتدعم الجبهات المساندة لفلسطين بما صار يعرف بمحور المقاومة؛ بما يحقّق بطريقة واضحة جدا توازن الردع مع الاحتلال وبما يؤدي إلى الإضرار الكبير بالمشروع الصهيوني باعترافات واضحة منهم وبما نرى على أرض الواقع، ثم بعد ذلك يأتي هؤلاء بفلسفتهم القاسية في إثارة نعرات وتفجير قنابل مذهبية يتفقون بها مع مقولات تروق للاحتلال كثيرا وتردّدها وسائل إعلامه والإعلام الذي يدور في فلكه.


ولو ذهبنا للبحث عن المشترك بيننا لوجدنا مساحة واسعة جدا خاصة إذا أعطينا كلّ نقطة ما يتناسب مع وزنها وأثرها، مثلا، الأصول الثلاثة: الإيمان بالله والرسول والقرآن الكريم، هذه المرجعيات الثلاث نقاط وازنة وذات أثر كبير، خاصة إذا ذهبنا إلى مقاصد الدين والناتج العملي من هذه الأصول الثلاثة، فالمقصد الأساس هو تحقيق سعادة الإنسان: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى".


صحيح أنه قد تذهب بنا الخلافات بعيدا والغرق في تفاصيل لا فائدة كبيرة منها؛ بعيدا، ولكن التركيز على الفهم المقاصدي والعملي يقلّص كثيرا من الفجوات، فمثلا الفهم الحركي للقرآن عند الشهيد سيّد قطب وجدته يتطابق كثيرا مع المرجع الشيعي الشيخ محمد حسين فضل الله.


وخلاصة الأمر أن من الضروري التركيز على ما ينتجه الدين من مفاهيم عملية وحركية في حياة الناس، وهذه توحّدنا بينما من الممكن أن تُفتعل خلافات كثيرة مردودها العملي لا يذكر أو ضئيل جدا، ولكن سبحان الله، فمن الناس من لا يرى ذاك المردود العملي الكبير ويصرّ على البقاء في حفر الخلافيات الضيّقة في أمور لا طائل من ورائها. لذلك أدعو لإعطاء ما نلتقي عليه وزنه أمام ما نختلف عليه، لنجد أن المساحة الأوسع هي على ما نلتقي عليه، وتلك لا تحظى إلا بهوامش ضيّقة بالإمكان تجاوزها بسهولة إن وجدت هذه الروح العملية والمقاصدية لهذا الدين العظيم، وكذلك للفوائد المترتّبة على الأمّة التي تحقق وحدتها رغم تعدّدها المذهبي بدل الفرقة المبنيّة على التناحر المذهبي الذي عانت منه أمتنا كثيرا.


ولو سألنا هؤلاء المتعصّبين عن الحلّ عندهم والحال أنّ واقع الأمّة متعدّد؛ هل هناك إمكانية لإعادة هندسة الأمّة كما يريدون بوحدة اندماجية تلغى فيها الاختلافات المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية والقطرية ويصبح الناس على قلب رجل واحد؟ هل بالإمكان العمل بما تمليه عقول البعض بعيدا عن معطيات الواقع؟


وكواقع عربي هناك من هم مصابون بفوبيا إيران لشدة حرصهم على التحذير من الخطر الإيراني! (على حدّ تعبيرهم) وهناك من الدول العربيّة من تعتبر الخطر الإيراني أشدّ خطورة من الخطر الإسرائيلي فذهبوا إلى حالة الاحتماء والاتباع للمحور الأمريكي والإسرائيلي، وهذا ما تثيره دوما السياسة الأمريكية في روع العرب وتطرح لهم الحلّ الذي وصل إلى التحالف العسكري مع الاحتلال الإسرائيلي، وكأنّ السياسة لا تحتمل إلّا خيارين لا ثالث لهما: إمّا التبعية لإيران أو "إسرائيل"،الحرب في غزّة الآن كشفت كلّ الأوراق ووضعت الشعوب العربية والإسلاميّة أمام قضيّة مهمّة: أنّه لا بدّ من الانعتاق من الهيمنة الامريكية والإسرائيلية ولا بدّ من الضغط على حكوماتها من أجل خيارات تنسجم مع تطلّعات شعوبها، ولا بدّ من إعادة التوازنات والتحالفات، وأن القدس وفلسطين هما باروميتر هذه التحالفات ومع ظهور "إسرائيل" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وبعد الضربة الإيرانية الأخيرة بأنها غير قادرة على حماية نفسها وهي تحتاج لعدة دول وازنة مع دول عربيّة لتقف معها عسكريا لحماية نفسها، هنا ثبتت هشاشة هذه السياسة العربيّة في هذا الانضمام الغبيّ للمحور الإسرائيلي في المنطقة. وهل الحلّ إذا في التبعية لإيران؟ لو قلت ذلك لأشفيت صدور من تحدّثت عنهم في البداية أصحاب إلصاق التهم الجاهزة.


الحلّ يكمن في تحقيق القوة والسيادة الكاملة بعيدا عن أيّة تبعية، وتحقيق علاقة متوازنة مع إيران قائمة على التعاون وتحقيق أهداف الأمّة الواحدة ذات الإرث الحضاري والمستقبل الناهض المشرق لأمّة كانت خير أمّة أخرجت للناس. المهمّ أن نتحرّر من هذا الخيار النكد المعشعش في عقولنا منذ المناذرة والغساسنة، فالمطلوب هو تحقيق الذات القوّية والقادرة على إقامة التحالفات على أسسها الصحيحة، عندئذ سنجد المساحات المشتركة التي تجمعنا وتحقّق مصالحنا المشتركة، فما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرّقنا ولا مجال للمقارنة. ستجد القضيّة الفلسطينيّة عمقها الأمني في العرب وسيجد العرب وفلسطين عمقهم الأمني من ناحية الشرق في إيران ومن ناحية الشمال في تركيّا، ولن يكون هذا إلّا بسياسة متحرّرة ومستقلّة سياسا واقتصاديّا.


الحرب في غزّة الآن كشفت كلّ الأوراق ووضعت الشعوب العربية والإسلاميّة أمام قضيّة مهمّة: أنّه لا بدّ من الانعتاق من الهيمنة الامريكية والإسرائيلية ولا بدّ من الضغط على حكوماتها من أجل خيارات تنسجم مع تطلّعات شعوبها، ولا بدّ من إعادة التوازنات والتحالفات، وأن القدس وفلسطين هما باروميتر هذه التحالفات وعلى قاعدة من يقف مع فلسطين ممن يقف مع "إسرائيل". وعلى هذا الأساس ستُقيّم العلاقة مع إيران على أنها صديق وعمق أمني، ويمكن أيضا مدّ جسور التعاون بكلّ مجالاته الممكنة والسّعي نحو التحرّر الشامل لأمّة التوحيد التي لا تنحني أبدا إلا لمعبود واحد.


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023