سأل سعيد بن جبير : الصحابي الجليل ابن عباس ب عن سورة التوبة، فقال: "التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم.. ومنهم، حتى ظنّوا أنها لن تدع أحداً منهم إلا ذكر فيها" (صحيح البخاري، ح: 4600، ط. ابن كثير، ت: مصطفى البغا).
إذا كانت سورة التوبة قد فضحت المنافقين، فكشفت ألاعيبهم، وأزاحت الستار عن خبيئة نفوسهم وسخيمة صدورهم، وعرّت سقيم ألفاظهم، وأفسدت عليهم ما كانوا يحذرون؛ فإن معركة طوفان الأقصى- كذلك - قد فضحتأطرافاً كثيرة، وأظهرت عوارها، وكشفت حقيقتها، وغسلت المساحيق عن وجهها الكالح.
*إن أول المفضوحين في معركة الطوفان هي دولة الاحتلال، فقد عرّتها هذه المعركة وكشفت أنها دولة عاجزة تعتمد في قوتها العسكرية على الدعم الغربي، وأن وجودها مرهون بمساعدة غيرها، وقد انكشفت سوأتها، وبدأت مرحلة التردي في عمرها القصير، قال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ۗ ويتوب الله على من يشاء ۗ والله عليم حكيم [التوبة: 14-15] .
إن دولة الاحتلال طالما صدّعت رؤوسنا في السنوات السابقة بأنها لن تسمح لبعض الدول بامتلاك القنبلة النووية، وكم صرّح قادتها بضرب هذه الدولة أو تلك قبل إتمام مشروعها النووي، حتى كنا في بعض الأوقات نظنّ أن ضربتها قاب قوسين أو أدنى، ودائماً ما كانت قيادتها تهدد وتتوعد بعزمها على القيام بهذه الضربة الضرورية بغض النظر عن رأي سيدتها الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار الأمر بالنسبة لدولة الاحتلال مسألة وجود، وكانت تصريحاتهم تشعرنا أن لهم اليد الطولى في ذلك، وأن المسألة مسألة تنفيذ فقط، فجاءت طوفان الأقصى، فعرّت دولة الاحتلال وجيشها "الذي لا يقهر"، وكشفت زيف نظرية الردع التي طالما تغنت بها، فها نحن نقترب من نهاية الشهر السابع من القتل والتدمير والقصف والتهجير، وما زالت المقاومة في غزة صامدة ولم ترتدع، وما زالت تطلق صواريخها، وتكيل الضربات الموجعة لقوات جيش الاحتلال المتوغلة، وما زالت المعارك ضارية في محاور غزة المختلفة، وفي الجبهة الأخرى في شمال فلسطين المحتلة ما زالتالمقاومة اللبنانية والفلسطينية كذلك؛ تضرب مغتصبات دولة الاحتلال ومعسكراتها، ومع ذلك فإن هذا الجيش المردوع لم ينفذ تهديده باجتياحجنوب لبنان رغم التهديدات الكثيرة بذلك، وها هي دولة الاحتلال أخيراً تتلقى ضربة في عقر دارها، وفي قواعدها العسكرية، ممن كانت دائماً تتوعدهم بالويل والثبور، وجاءتها الفرصة السانحة بتنفيذ تهديدها وتوجيه الضربة التي طالما انتظرتها، وبموافقة غربية أيضاً، وإذا بها تتراجع عن كل ما كانت تتشدق به، وصار لسان حالها ومقالها هو التسويف والتأجيل، وأخيراً اكتفت بتوجيه ضربة شكلية لحفظ ماء وجهها الذي أريق في جنوب البلاد وشمالها،وذلك تحت ذريعة عدم توسيع دائرة القتال في المنطقة، فعبّر أحد وزرائها عن هذا الرد بأنه: "مسخرة".
*وأما ثاني المفضوحين في هذه المعركة المباركة فهي هذه الأنظمةالمأجورة، التي وضعت نفسها في أعلى السلّم الإيماني بما حبا الله I ظاهر أرضها من مقدسات، أو بدعوى انتسابها إلى خاتم أصحاب الرسالات, أو جعلت نفسها في أعلى سلّم الرقي البشري بما أودع الله Iباطن أرضها من خيرات، أو تباهت أنها في أعلى السلّم القومي والوطني بما سلف من تاريخ شعوبها في مقاومة الاستعمار وتحرير الذات.
هذه الأنظمة التي طالما ادّعت نصرة القضية الفلسطينية، من خلال تقديمها المساعدات والمعونات لشعبنا، وقيامها ببعض الزيارات الشكلية والرسمية لتوزيع الابتسامات، وإلقاء التصريحات، وإظهار نفسها بمظهر الحريص على القضية، فجاء الطوفان ليكشف زبدها وغثائيتها، وأنها إن علت فلخفتها وهوانها وتبعيتها، لا لقوتها في استعمال السنن الإلهية كالفُلْك المشحون، إنها تعلو العلوّ الشكلي الضعيف، لا علوّ العزة والكرامة والفوز العظيم، قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) [التوبة: 19-20].
لقد فضح الطوفان هذه الأنظمة المنافقة ومن أيدها من رموزها وشعوبها،الذين ينفقون أموالهم نصرة للاحتلال وأعوانه، والتخفيف من أزمته الاقتصادية وهزيمته العسكرية، بموازاة الكيد بالمرابطين والمجاهدين،والمشاركة في حصارهم والتضييق عليهم، فقال: ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم [التوبة: 98].
وفضحهم الطوفان بموالاتهم لأعداء الإسلام، وعدم وقوفهم في صف المؤمنين، والله تهى عن موالاة الآباء والإخوة من الكفار، فكيف بموالاة الأعداء، حيث قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون[التوبة: 23].
وفضحهم الطوفان بتخاذلهم عن نصرة أهل غزة وإغاثتهم، ورضاهم أن يكونوا في صف الجبناء وأصحاب الأعذار، واعتبارهم أن ما يقع هناك من قتل وتدمير وتهجير وحصار لا يعنيهم، فقال: رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم فهم لَا يفقهون[التوبة: 87]، بل إنك تجد أنهم فرحون بما يقع للمسلمين في غزة من مجازر؛ فيقيمون المهرجانات الفاسدة المفسدة في المواسم المختلفة، وينفقون عليها الأموال الطائلة بدل إنفاقها نصرة للمجاهدين وإغاثة للمستضعفين، فقال تعالى في أمثالهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[التوبة 81]
وأما ثالث المفضوحين في هذه المعركة الكاشفة، فهم تلك الفئة من علماء السلاطين والدعاة الفاسدين، ومن النُّخب الفكرية والثقافية في بلاد المسلمين، الذين اقتفوا آثار من قبلهم في الاغتناء بأكل الأموال بالباطل، فنالوا أرقى الوظائف، وشغلوا أعلى المناصب؛ من خلال نفاقهم لأسيادهم وتزلفهم لأعداء أمتهم؛ بصدهم عن سبيل الله ، فقال فيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ[التوبة: 34].
إن هذه الفئة من العلماء والدعاة والنُّخب التي استخدمت منابرهاومواقعها، فجعلت منها "مسجداً ضراراً" لإيقاع الوقيعة بين المسلمين، وتشويه صورة المجاهدين والمخلصين من أبناء هذه الأمة، وتأييداً لمن يحاربون دعوة الله ، فكانت أقوالهم وفتاواهم وخطبهم التي ألبسوها لبوس الدين والعلم؛ أدلة يستند إليها أعداء الإسلام ومرضى النفوس، ففضحهم الله بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة: 107].
هذه بعض الصفات لبعض الفئات التي فضحها الله I بهذا الطوفان المبارك، كما فضحتهم وأمثالهم سورة التوبة "الفاضحة" من قبل، وكما أنّ هذه السورة بيّنت استحالة إطفاء نور الله ، حيث قال فيهم: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[التوبة: 32]، كذلك طوفان الأقصى فإننا نزداد يقيناً يوما بعد يوم بانتصار هذه الثلة من المجاهدين المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم لرب العالمين ولن يكون نصيبهم إلا إحدى الحسنيين، ولن يكون نصيب أعدائهم إلا العذاب والهزيمة والخزي في الدنيا والآخرة.{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ[}التوبة: 52]