كنت أستمع إلى محاضرة مسجلة للداعية الإسلامي الأمريكي والناشط الحقوقي مالكولم إكس "Malcolm X" أو الحاج مالك الشهباز (1925-1965م) ، وكان يتكلم عن أصناف العبيد أيام عهد العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، هؤلاء الذين انتزعوا من أوطانهم في إفريقيا، وجيء بهم إلى أسواق النخاسة في أمريكا، وبيعوا إلى أصحاب المزارع وغيرهم، حيث يقول مالكولم إكس: "كان هناك نوعين من العبيد، وهما: زنجى المنزل وزنجى الحقل، أما زنوج المنازل، فقد كانوا يعيشون مع سيدهم بنفس البيت في العليّة أو في القبو، وكانوا يلبسون ملابس جيدة، ويأكلون طعاماً جيداً هو طعام السيد نفسه أو ما يتبقى منه، ولكنهم كانوا دائماً بالقرب من سيدهم، وكانوا على استعداد للتضحية بحياتهم لإنقاذ سيدهم، ويحرصون عليه وعلى بيته أكثر من حرص السيد نفسه، ولا يريدون أن يصيب سيدهم أي مكروه، وحينما يحترق بيت سيد الواحد منهم فإنه يحاول إطفاء الحريق حتى لا يحترق بيت سيّده، ولا تهدد ممتلكاته، وكان يدافع عن ممتلكات سيده أكثر مما يدافع عنها سيّده نفسه، إذا قلت لزنجى المنزل: هيا نهرب، يقول لك: ويحك يا رجل! هل أنت مجنون؟ أين نجد بيتاً أفضل من هذا؟ أين يمكننى أن ألبس ملابس أفضل من هذه؟ وأين أستطيع أن آكل طعاماً أفضل من هذا؟، وكان هناك زنجي الحقل الذي يعيش في كوخ، وليس لديه ما يخسره، فهو يرتدي أسوأ الملابس، ويأكل أردأ الطعام، ويذوق الجحيم ولسع السياط، وإذا هرب زنجي الحقل أو أظهر التمرد لم يقتلوه، بل يرسلون خلفه زنجي البيت كي يجبره على العودة إلى سيّده وطاعته بأي وسيلة كانت"، ثمّ يعلّق السيد إكس فيقول: "وللأسف ما زال بيننا عبيد من نفس نوع "زنجي المنزل" حتى الآن"([1]).
كما كنت قد شاهدت فيلم جانغو الحر (Django Unchained)والذي يحكي قصة جانغو الذي استُعبد ولكنه رفض العبودية، وناضل حتى نال حريته، ولفت انتباهي في الفيلم ذلك العبد ستيفين "زنجي المنزل" - بحسب تسمية "مالكولم إكس"- والذي كان أكثر إخلاصاً لسيده من السيّد نفسه، وكان يعذب العبيد والإماء من جنسه بأقسى وسائل التعذيب من أجل مصلحة سيّده حتى لو أدى ذلك إلى قتلهم، وكان يعتبر أن العبد الذي يحاول الهرب من السيد المستعبِد لاكتساب حريته يستحق القتل، وكان ينطلق في ذلك من منطق الحفاظ على ما منّ به عليه سيده من رفاهية ما كان يحلم بها لو كان حراً.
إن الواقع الذي نعيشه اليوم يكشف لنا صحة ما قاله "مالكولم إكس" عن وجود الكثير من عبيد المنازل في حياتنا اليوم، قد لا يكون "زنجي المنزل" في أيامنا أسود البشرة كما هي غالبية
([1]) بتصرف عن https://www.youtube.com/watch?v=MK-A2gfH0HQ
العبيد في تلك الفترة، ولا عبداً بالمعنى الخاص للرقيق في تلك الأيام، ممن اشتري من سوق النخاسة التي أحضر إليها من بلاد إفريقيا التي تركها هرباً من الجوع والفقر وبحثاً عن حياة كريمة، ثم تم الاحتيال عليه واسترقاقه([1])، بل إننا اليوم نجد "زنوج المنازل" وُلدوا في الأصل أحراراً، ولم يباعوا في سوق النخاسة، وقد يكونون في فترة ما من حياتهم مثل "زنوج الحقول" قد ثاروا على الظلم والاستبداد، وسجنوا سنوات طويلة بسبب ذلك، ولكنهم تم تدجينهم بمنطق اتفاقيات السلام أو القرارات الأممية ووجوب الالتزام ببنود هذه الاتفاقيات والقرارات للمحافظة على المصالح والمكتسبات، وتراهم اليوم يلبسون من أجود الملابس، ويسكنون أرقى القصور، ويأكلون أحسن الطعام مثل أسيادهم.
إنّ "زنوج المنازل" اليوم قد يكونون ممن يتقلد أرقى المناصب السياسية في الدول، أو من الموظفين العاديين، أو ما بين ذلك من المراكز، وقد يكونوا من الملحدين أو العلمانيين أو حتى من يوصفون بأنهم رجال دين، ولكنّ الرابط بينهم أنهم جميعاً يُرجعون الفضل مما هم فيه إلى السيّد الذي أنعم عليهم بهذا الأمن والاستقرار مقابل رضوخهم وقبولهم للاستعباد، وعدم مطالبتهم بحقهم الذي اغتصبه السيّد من أجدادهم وآبائهم عبر عشرات السنين، المهم أن يعيشوا على فتات ما يقدمه لهم سيدهم من أموالهم التي اقتطع منها ما يمكن أن يحرك فيهم معاني العزة والكرامة، ويحذرهم من مغبة التقليل من انحناء ظهورهم له.
إن "زنوج المنازل" اليوم يرفضون ما يقوم به "زنوج الحقول" من التمرد على واقعهم المرير، ورفضهم الاستعباد والاحتلال، والمطالبة بحريتهم، واستعادة أرضهم وأوطانهم، لذلك فإنهم يصمتون صمت القبور على ما يلاقيه إخوانهم "زنوج الحقل" من قتل وإبادة وتهجير، ويحملونهم مسؤولية ما يحصل لهم من تذوق صنوف وألوان العذاب بسبب مقاومتهم له، بل ويرفعون الصوت مطالبين بمحاسبتهم على ما جروه على أنفسهم وعلى أهلهم من القتل والدمار، كما يرفضون أن ينتقل هذا التمرد على الاحتلال إلى "زنوج المنازل"، فينغص عليهم ما هم فيه من رفاهية الاستعباد، رغم أنهم ليسوا بمنأى من العذاب الذي يصل أحياناً إلى القتل لأتفه مكدّر لمزاج "السيّد"، ولكنهم مقتنعون – أو في أحسن أحوالهم لا يصرّحون- أن هذا القتل والتعذيب لبعضهم هو ثمن النوم والطعام واللباس الجيد.
إن "زنوج المنازل" اليوم يحاولون جرّ "زنوج الحقول" إلى مربعهم من الإذعان للسيّد، والقبول بما ينعم عليهم من عمل في مزارعه ومستوطناته، ويرفضون المنطق الذي يطرحه أولئك إلا
أن يكون بالوسائل السلمية التي لا تؤذي مشاعر "السيّد"، ويعلنون القطيعة معهم أن أصروا على
([1]) كما في رواية "الجذور" للكاتب "أليكس هايلي"، والتي تحكي القصة الحقيقية عن"كونتا كِنتي"، والذي أحضر من جامبيا غرب أفريقيا واستُعبد في أمريكا.
تمردهم ورفضهم للاستعباد، وإذا حاول أحدهم أن يتمرد مثل "زنوج الحقول" فإنهم يقومون بسجنه وتعذيبه حتى يعود إلى جادة صوابهم، أو يذعن لأوامر "السيّد" ولو كان كارهاً، كما أنهم يتآمرون مع أسيادهم للقضاء سراً أو جهراً على زنجي الحقل، ويفرضون الحصار والتجويع والتضييق على كل من يرفض الاستعباد أو التبعية وأن يكون "زنجي منزل"، كما يحصل اليوم مع المقاومة الفلسطينية.
إن "مالكولم إكس" عبّر عن نفسه مجازاً أنه "زنجي حقل" لأنه رفض الخضوع والاستعباد للسيّد الأبيض الأمريكي، وإذا صح المجاز فيمكننا أن نقول إن كل فلسطيني حرّ اليوم هو "زنجي حقل"، لأنه يرفض الاحتلال ويقاومه، أما "زنوج المنازل" فقد اتضحت صورتهم لكل ذي بصر وبصيرة.
وختاماً فإنه بعد معاناة وقهر من قتل وتعذيب وسجن وقطع للأيدي والأرجل([1]) فقد استطاع "زنوج الحقول" من نيل حريتهم، وإلغاء قوانين الرق في أمريكا، وقد استفاد من هذا أيضاً "زنوج المنازل" فنالوا حريتهم تبعاً لذلك، ولكن على حساب معاناة غيرهم، وقد كانوا هم سابقاً جزءاً من هذه المعاناة، وسبباً في تأخير التحرر، فهل يعقل "زنوج المنازل" في أيامنا هذا؟
([1]) مثل "كونتا كِنتي"، فقد قطعت رجله، وبيعت ابنته "كيزي" واغتصبت.