تقدير استراتيجي
سؤال يرفض "نتنياهو" التطرق اليه، لان اجابته صعبة ومؤلمة وقطعاُ بعد ثمانية أشهر من القتال والتدمير في غزة بات يعلم اجابته يقيناً ولكنه لا يستطيع تقبلها كونه يُدرك نتائج الإقرار بها
لقد أصبحت الحرب على غزة عبثية وبلا أهداف حقيقية وبلا استراتيجية وفقاً لما ذكره "يورام حيمو" - مسؤول السياسات الأمنية والتخطيط الاستراتيجي بمجلس الأمن القومي الاسرائيلي في كتاب استقالته احتجاجاً على استمرار الحرب بهذه الطريقة العبثية.
ويُشاركه في هذا التصور العديد من الجنرالات المُتقاعدين أبرزهم "إسحاق بريك" الذي يرى بأن استمرار الحرب أصبح هدفاً بحدِ ذاته "لنتنياهو" وليست أداة لتحقيق الأهداف السياسية للدولة. كما لا يمكن إغفال تصور قيادة الاركان التي تعتقد أن بقاء الجيش في غزة بدون أفق سياسي سيؤدي إلى تآكل إنجازاته العسكرية وسيُدخله في حرب استنزاف صعبة. وهو ما أبرز الخلاف بين المستويات السياسية والعسكرية نتيجة لرفض "نتنياهو" طرح مسار سياسي لليوم التالي للحرب ويُصرُ على استمرار القتال.
يعتقد بعض المُتابعين للشأن السياسي أن "نتنياهو" يرفض انهاء الحرب نتيجة للضغط الذي يتعرض له من شركائه المتطرفين في الحكومة "بتسليئيل سموترتش"و "إيتمار بن غفير" والذين يرفضان فكرة وقف الحرب وابرام صفقة مع ح.م.ا.س لاعتبارات دينية، ولكن هذه ليست الحقيقة فقط، فنتنياهو لديه أهدافه الخاصة اضافة الى اعتقاداته الدينية التي تتقاطع في كثير من الاحيان مع شركائه مع اليمين المتطرف. وبرغم كفاءته السياسية والقيادية الا أن نتنياهو يُعتبر الانتهازي الأخطر على اسرائيل كما وصفه استاذه "إسحاق شامير" - زعيم حزب الليكود ورئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق في عقد الثمانينات - الذي قدمه إلى عالم السياسة.
وبقراءة موضوعية للمشهد الاسرائيلي ولحالة التمزق الداخلي التي تعيشها الدولة يمكن فهم أسباب رفض نتنياهو للإجابة عن سؤال اليوم التالي للحرب على غزة والتي يمكن اجمالها على النحو التالي:-
١- فشل الجيش الاسرائيلي في تحقيق الأهداف غير العقلانية التي وضعتها القيادة السياسية الغاضبة والمُستفزة لحربها على غزة بعد ٧ أكتوبر.
٢- الضغط الدولي المُتصاعد الذي قد يُجبره على الإقرار بالحقوق الفلسطينية التي أنكرها على مدار ثلاثين عاما من عمر اتفاقية أوسلو وانكشاف زيف الادعاءات الاسرائيلية بالسلام مع الفلسطينيين وعمله الدؤوم على منع اقامة دولة فلسطينية.
٣- بقاء ح.م.ا.س في غزة كقوة عسكرية وحكومية بشكل منفرد أو بالمشاركة مع السلطة ورُبما دخولها في النظام الرسمي الفلسطيني بموافقة عربية ودولية اذا ما استمر ثبات مقاومتها في الميدان كما هو مُتوقع وأجبرت اسرائيل على ابرام صفقة تبادل.
٤- إحتمالية تفكك حكومة "نتنياهو" وانتهاء مستقبله السياسي وذهابه للمحاكمة في قضايا الفساد التي تُلاحقه والتي قد تُدخله السجن. لقد بات العالم بحاجة للاجابة على السؤال الأكثر إلحاحاً لهذه الحرب، والمُتمثّل في مدى قدرة "نتنياهو" على الاستمرار في المراوغة والمماطلة لوقف حربه على غزة التي يعلم هو شخصياً أنه لا طائل منها
أعتقد أن قدرة "نتنياهو" على المراوغة والتمسح بالمصلحة الوطنية العليا للدولة باتت محدودة ولا يمكن أن تستمر كثيرا ورُبما نكون أقرب من أي وقتٍ مضى لانتهاء الحرب الاجرامية على غزة وذلك للأسباب التالية:-
١- عجز الجيش الاسرائيلي في القضاء على ح.م.ا.س أو تقويض حّكمها أو الالتفاف عليها بمشاريع سياسية أفشلها الشعب الفلسطيني .
٢- عدم تمكن الجيش الاسرائيلي من تحرير أسراه لدى المقاومة الفلسطينية بالضغط العسكري واقراره بتراجع الروح المعنوية للجنود وعدم الرغبة في التوجه للقتال في غزة.
٣- حالة الاستنزاف الصعبة التي يعيشها سكان شمال اسرائيل نتيجة لضربات ح.ز.ب الله التي باتت تطال الاهداف العسكرية الاستراتيجية وتمنع أكثر من (١٠٠) ألف مستوطن من العودة إلى بيوتهم منذ اندلاع الحرب وتجرؤ ح.ز.ب الله الخطير كما يعتقد الاسرائيليون على ضرب أهداف حيوية وصلت إلى عمق (٤٠) كم بمدينة طبريا وكمية ونوعية الصواريخ التي يُطلقها يومياً والتي وصلت في بعض الاحيان إلى(٧٥) صارخ في اليوم دون أن يتمكن الجيش الاسرائيلي من ردعه أو فتح حرب جديدة على لبنان، ولن تتوقف حالة الاستنزاف في الشمال الا بوقف الحرب على غزة تنفيذاً للمعادلة التي فرضها ح.ز.ب الله.
٤- الوضع السياسي المُتفجر في الداخل الاسرائيلي والمظاهرات العارمة التي باتت تجتاح شوارع المدن الكُبرى والدعوات المُتكررة لوقف الحرب وابرام صفقة تبادل مع حماس أو الإطاحة بحكومة "نتنياهو" والذهاب إلى انتخابات جديدة.
وهو الامر الذي سيقوده عضو مجلس الحرب "بيني غانتس" الذي هدد بالانسحاب من الحكومة حتى موعد أقصاه ٨ يونيو القادم اذا لم يوافق "نتنياهو" على ابرام صفقة مع حماس لاستعادة الاسرى الاسرائيلين حتى لو كلف ذلك وقف الحرب على غزة.
٥- استمرار وارتفاع وتيرة المظاهرات الشعبية في الدول الغربية الرافضة لجرائم الابادة الجماعية التي ترتكبها اسرائيل في غزة، حيث أصبحت تلك المظاهرات تُشكل ضغطاً كبيرا على المستويات السياسية مما جعل بعض الدول الغريية تُحرك مواقفها السياسية بما لا يتوافق مع مطالب اسرائيل، بل وبدأت اسبانيا وايرلندا حملة أوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال شهر يونيو القادم.
٦- الضغط القانوني الدولي المُتمثل بمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية التي طلب مُدعيها العام "كريم خان" من الدائرة التمهيدية بالمحكمة اصدار مذكرات اعتقال بحق "نتنياهو" ووزير دفاعه "غالنت" وهو ما أحدث زلزالاً سياسياً في اسرائيل لما لهذا الامر من تداعيات على صورة اسرائيل التقليدية في العالم وما يشكله ذلك من كسر لسردية المظلومية التي فرضتها الصهيونية على الشعوب الاوروبية.
٧- الضغط الأمريكي باتجاه وقف الحرب مدفوعا بثلاث اعتبارات أساسية:- - تصاعد الاحتجاجات الداخلية وخصوصا حراك طلاب جامعات النخبة الأمريكية ضد الدعم الامريكي اللا محدود لاسرائيل في حربها على غزة، هذا بالإضافة إلى دخول الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مرحلة حاسمة بداية يوليو وهو ما قد يؤدي إلى خسارة بايدن وحزبه للانتخابات كما هو متوقع.
- تأزم حركة التجارة الدولية في البحر الأحمر بسبب العمليات العسكرية التي تُنفذها حركة أنصارالله اليمنية ضد السفن الاسرائيلية والامريكية والبريطانية او السفن المتجهة إلى اسرائيل مما أحدث حالة من الارباك في حركة التجارة الدولية وارتفاع أسعار النقل البحري بشكل كبير.
- حرص الولايات المتحدة على استكمال مسار التطبيع السعودي مع اسرائيل مع ما يتطلب ذلك من استجابة للمطالب السعودية والتي يتمثل أحدها في الموافقة الاسرائيلية على منح الفلسطينيين دولة وهو ما يتوافق مع رأي الدولة العميقة في اسرائيل التي تدرك اهمية هذه الخطوة ومخاطر فقدانها في ظل الغليان الذي يجتاح شعوب الإقليم بسبب حرب غزة والذي قد يُطيح بكل مشاريع التطبيع مع الدول العربية ويُعيد الصراع العربي الاسرائيلي إلى المربع الأول. وهو ما سيضُر قطعا بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
لذلك رُبما سيجد "نتنياهو" نفسه مُضطراً للموافقة على إبرام صفقة تبادل مع خماس وفقاُ لبنود الورقة المصرية القطرية الأمريكية التي سبق أن رفضها وذلك في موعد أقصاه نهاية شهر يونيو القادم، والتي تعني ببساطة بقاء حماس في حكم غزة في كل السياقات المطروحة لليوم التالي للحرب وهو ما باتت الولايات المتحدة مقتنعة به كما صرح بذلك مستشار الامن القومي الامريكي "جاك سوليفان" في زيارته الاخيرة لاسرائيل.