منذ احتلال فلسطين في الرابع من حزيران من العام 1967، شكلت عمليات الاعتقال إحدى أبرز السياسات التي انتهجتها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، واستناداً لما يتوفر من معطيات، فإن عدد الفلسطينيين الذين تعرضوا للاعتقال منذ سنوات الإحتلال بلغ أكثر من مليون حالة اعتقال، شملت كافة شرائح المجتمع الفلسطيني من النساء، والأطفال، وكبار السّن، والأكاديميين، والمثقفين، والصحفيين، ونشطاء العمل السياسي والإجتماعي، والمقاومين، والمناضلين الباحثين عن حرية الوطن - الأرض والإنسان.
ولم تبد دولة الإحتلال في أي مرحلة من مراحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أي قيمة لقواعد المنظومة الحقوقية الدولية وما صدر عنها من معاهدات واتفاقيات وقوانين، بل سعت لترسيخ المزيد من الجرائم الممنهجة، مستندة إلى تشريعات وقوانين عنصرية تمس جوهر الحقوق الإنسانية، وتجاوزت بذلك كل القرارات الأممية بشكل واضح، ولم يقتصر ذلك على مرحلة دون أخرى، بل انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتتالية ذلك، وعملت على تطوير المزيد من الأدوات لفرض المزيد من مستويات الرقابة والسيطرة على الفلسطينيين عبر نظام الفصل العنصري (نظام الأبارتهايد الإسرائيلي)، وشمل ذلك كل مناحي الحياة الفلسطينية، وشكلت قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، أبرز القضايا التي عكست مستوى الانتهاكات والجرائم الممنهجة التي عملت دولة الاحتلال على ترسيخها، من خلال منظومة السّجون.
وعلى مدار عقود استخدمت دولة الإحتلال قضية الأسرى الفلسطينيين كأداة مركزية لصراعات سياسية داخلية، من خلال عملية تسابق ممنهجة في فرض المزيد من الجرائم والتضييقات بحقّهم، وقد برز ذلك في الدعايات الإنتخابية للأحزاب الإسرائيلية، وأوقات الحروب والتفاعلات السياسية، حيث ترتفع أصوات التحريض في سبيل الانتقام من الأسرى والأسيرات، وذلك لتجنيد المناصرين وزيادة المؤيدين والناخبين.
وينفذ جيش الاحتلال يومياً عمليات اعتقال في مختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة بطريقة وحشية، حتى تحوّلت عمليات الاعتقال إلى جزء من حياة الفلسطيني، وتبدأ بتحديد البيت المستهدف، واقتحام وتفجير أبوابه، وغالباً ما يكون ذلك في منتصف الليل، والعمل على ترهيب كل من بداخله، مستخدمة بذلك كل أدوات العنف، من خلال الضرب المبرح، والاعتداء عليهم، وإجبارهم على التجمع في مكان معين، وتبدأ عمليات التفتيش، والتخريب، وتدمير الممتلكات بطريقة استفزازية انتقامية وقد يستغرق ذلك عدة ساعات. ويتم نقل المعتقل في السيارات العسكرية لأحد نقاط الجيش، ومنها الى مركز التّوقيف أو التّحقيق، ثم إلى أحد السّجون المركزية، وتبدأ المحاكمات الشّكلية التي تستند في عملها إلى أوامر عسكرية عنصرية وقوانين الهدف منها فقط قهر الفلسطيني والإنتقام منه، وعبر تلك المراحل التي يمر بها المعتقل، فإنه يتعرض لكل أشكال التّعذيب والتنكيل والإذلال، لتشكل عملية اعتقاله، بكل تفاصيلها جريمة مركبة مخالفة للقوانين الدولية والحقوقية والإنسانية.
وعلى مدار عقود نضال الأسرى الفلسطينيين للحصول على حقوقهم المشروعة، ومواجهة محاولات السلب، قد استطاعوا فرض نظام وظروف حياة اعتقالية خاصّة بهم، عبر خطوات نضالية استشهد خلالها العديد من الأسرى، وكانت أدواتهم النضالية الإضرابات المفتوحة عن الطعام، وأصبح الأسرى قادرين على امتلاك الحد الأدنى من حقوقهم، ما مكنهم من التغلب على قوانين الاحتلال العنصرية وسياساته.
وكما ذكرنا سابقاً، فإن كل شيء حققه الأسرى كان له ثمنه باهظاً، بدءاً من سعيهم للحصول على القلم، والدفتر مروراً بالحصول على الصحف، والمجلات، وامتلاك أجهزة التلفاز، والراديو، والتعليم والعلاج بالحد الأدنى، والطبخ داخل الغرف، وتحديد شكل ووقت الفورة (الخروج إلى ساحة السجن) وفتح (الكانتينا)، وزيارات الأهل،والمحامين، وغيرها من العديد من الحقوق البسيطة، واستمرت حالة المواجهة بين المد والجزر داخل السجون.
بعد تاريخ السابع من أكتوبر من العام 2023، بدأت إدارة السّجون بعمليات قمع ممنهجة وجماعية بحقّ الأسرى من خلال وحدات خاصة تابعة لإدارة السجون، وسلبت الأسرى أبسط تلك الحقوق التي تمكنوا من تحقيقها على مدار عقود من الزمن، ومع بدء حرب الإبادة الجماعية في غزة، شنت إدارة السجون حربا موازية، داخل السّجون والمعتقلات بقيادة وزير الأمن القومي المتطرف (ايتمار بن غفير) وحكومة المستوطنين التي تقود إسرائيل اليوم، وتمثلت شكل تلك الحرب، باقتحام الأقسام والغرف، وحولت لزنازين، ومورس الاعتداء والتنكيل بأبشع صوره، وصودرت كافة الممتلكات الشخصية والعامة للأسرى والأسيرات، بالإضافة الى الملابس والأغطية، ولم يتبق لكل أسير إلا فرشة رقيقة وغطاء خفيف والملابس التي يرتديها فقط. وأغلقت الكانتينا بالكامل وألغيت الفورة (الخروج إلى ساحة السجن)، ورافق عمليات القمع والاقتحامات من قبل وحدات مدججة بالسلاح، وتعرض الأسرى لعمليات ضرب مبرح -غير مسبوقة- بمستواها، والتي أدت إلى التسبب بكسور في أطرافهم وفي منطقة الصدر بشكل أساسي، كما أن بعض الممرات والغرف امتلأت بالدماء، وجراء ذلك ارتقى (40)أسيراً من الشهداء، ممن توفرت أسمائهم وبياناتهم، فيما أعلنت وسائل إعلام الإحتلال عن عشرات الشهداء في صفوف أسرى غزة لا نعلم عنهم شيئاً.
وفُرض على الأسرى والأسيرات سياسات انتقامية علنية منها جرائم ضد الإنسانية، وكان أبرزها جريمة التعذيب، الإخفاء القسري،والتجويع، والحرمان من العلاج، والأدوية، وإلغاء زيارات الأهل بالكامل، وزيارات المحامين لفترة معينة، ثم استؤنفت ضمن قيود وضوابط ومعيقات، علاوة على الاكتظاظ جراء الاعتقالات اليومية العالية، وفعلياً تحوّلت السجون إلى ساحات للتعذيب، وتفردت إدارة السّجون بهم، حتى وصل الأمر إلى التحكم بمدة توفير الماء لهم وكذلك الكهرباء.
وهنا لا بد من إبراز حجم الخطورة التي طرأت على قضية الأسرى من خلال التحولات الرقمية، فمع نهاية الأسبوع الأول من أكتوبر من العام المنصرم كان العدد الإجمالي للأسرى ( 5250 )، منهم (40) إمرأة، و (170) طفلاً قاصراً، و (700) مريضاً، و (1320) معتقلاً إدارياً، وهو اعتقال احترازي، بلا تهم ولا محاكمات. وبعد هذا التاريخ، وتحديداً بعد السابع من أكتوبر الماضي، فُرضت تحولات كبيرة على قضية الأسرى، وعمليات الاعتقال، وبدأت المعطيات تتسارع في ضوء عمليات الاعتقال اليومية، حيث وصل عدد الأسرى اليوم في سجون الاحتلال إلى نحو10100 أسير ومعتقل، منهم نحو (3398) معتقل إدارياً، ليشكل عدد المعتقلين الإداريين الأعلى تاريخيا منذ الانتفاضة الأولى، فيما بلغ عدد الأسيرات أكثر من (95)، والأطفال ما لا يقل عن (270).
فيما بلغ عدد من تعرضوا للاعتقال في الضّفة على مدار الأحد عشر شهراً الماضية ( 11.100 ) حالة اعتقال من الضّفة الغربية والقدس، وكان من بين المعتقلين (420) إمرأة على الأقل، و(740) طفلاً على الأقل، فيما وصل عدد قرارات الاعتقال الإداري الصادرة عن المحاكم العسكرية الاسرائيلية بين قرار جديد او تجديد اعتقال إلى نحو(9000) قرار، بالإضافة إلى الآلاف من قطاع غزة من كافة الفئات منهم الأطفال والنساء، وهذا المعطى يصعب تحديده، حيث نجد صعوبة في الوصول إلى البيانات الدقيقة حولهم نتيجةً سياسة الإخفاء القسري التي فرضها الاحتلال بحقّهم، علماً أن الغالبية منهم معتقل تحت تصنيف قانون (المقاتل غير الشرعي) وهو شكل آخر للاعتقال الإداري المعمول به في الضّفة.
وقد تمكنا خلال الشهور الماضية من توثيق المئات من الشهادات لمعتقلين أفرج عنهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، وشهادات لأسرى ومعتقلين جرت زيارتهم في السجون والمعسكرات من قبل الطواقم القانونية التابعة لنا، وحملت هذه الشهادات حقائق صادمة ومروعة، حيث تضمنت بشكل أساسي تفاصيل عن عمليات التّعذيب، والضرب المبرح، والإغتصاب من قبل الجنود والكلاب البوليسية، عدا عن الأساليب التي اتبعتها باستخدام عائلات المعتقلين، ومنهم الأمهات والزوجات، والآباء، والأبناء رهائناً، ودروعاً بشرية، بالإضافة الى عمليات الإذلال والسب والشتم والإهانات المستمرة على مدار الوقت.
وحوّلت إدارة سجون الاحتلال هذه الجرائم والإجراءات إلى واقع دائم وممنهج، نموذجا على ذلك جريمة التجويع التي أفقدت كل أسير بالحد الأدنى 25 كيلوغرام من وزنه وتسببت بمشاكل صحية دائمة لهم، وتحوّلت هذه الجريمة إلى عاملاً أساسياً يهدد مصير الأسرى، كما وتركزت سياسات إدارة السّجون، على انتهاج أساليب لإذلال وإهانة الأسرى، وتحطيم روح الإنسان الفلسطيني، بإنكار إنسانيته واستباحتها، إضافة إلى الجرائم الطبية الممنهجة التي شكّلت العامل الأبرز لاستشهاد الأسرى والمعتقلين، وهناك جملة وسلسلة طويلة من الجرائم التي مسّت بكل التفاصيل الإنسانية للأسير الفلسطيني.
وهنا لا بد من من تسليط الضوء على سياسة الإخفاء القسري بحق المواطنين من قطاع غزة، إذ أنه منذ اندلاع الحرب، اعتقل جيش الاحتلال الآف المواطنين من غزة، منهم العمال الذين كانوا يقيمون في الداخل بهدف العمل، إضافة إلى المدنيين خلال عمليات الاجتياح البري، وقد شاهدنا المئات من المواطنين المكدسين في سيارات كبيرة وفي أماكن مفتوحة وهم عراة وفي أوضاع مذلة، حيث جرى اقتيادهم لمعسكرات تابعة لجيش الاحتلال، وعلى مدار تلك الفترة رفض الاحتلال الإفصاح عن أية معلومات وبيانات واضحة عن هويات وأعداد المعتقلين من غزة، حتى تمكنّا من الحصول على فتات معطيات من قبل الأسرى المفرج عنهم، كما ومنع الاحتلال اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة الأسرى، وبدا دور العجز واضحاً على عمل كافة المؤسسات الحقوقية الدولية أمام الجرائم المرعبة.
ولم تقتصر الجريمة على سياسة الإخفاء القسري، فما تعرض له معتقلي غزة لم تشهده السجون والمعتقلات على إمتداد التاريخ، حيث كشف الجنود الإسرائيليين عن وحشيتهم، ومارسوا كل ما يندرج تحت إطار الجريمة في التعامل معهم، ووثقوا جرائمهم بأنفسهم من خلال تصوير التعذيب والتنكيل بأجهزتهم الخلوية وكاميراتهم، وبدا ذلك أنهم يتحدون العالم في ممارساتهم اللا أخلاقية واللا إنسانية، ولا زلنا ندفع ثمن هذه السياسة، ولا زلنا نعيش حالة من القلق والخوف على الآف الفلسطينيين من قطاع غزة لا نعلم عنهم شيئاً. وهناك الكثير من الشّهادات لمعتقلين من قطاع غزة ممن تم تحررهم مؤخراً أو ممن تمكن المحامين من زيارتهم داخل السّجون والمعتقلات يتحدثون عن قتل وإعدامات نُفذت أمام أعينهم، علماً أنه من بين الآلاف الذين اختطفهم الاحتلال من قطاع غزة إعترف بوجود ( 1618 ) معتقلاً صنفهم (مقاتلين غير شرعيين).
وعطفاً على كل ما ذكرناه، نؤكّد على أنّ كل تلك الجرائم طالت النساء والأطفال وكبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وكل ما سبق من معطيات مكثفة عن واقع السجون والمعتقلات الإسرائيلية، والتحولات التي فرضت على واقع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، فإن هذه الجرائم ترتقي في أغلبها الى أن تكون جرائم حرب ضد الإنسانية، وقد تعجز اللغة عن توصيف ونقل ما سمعناه من شهادات وروايات من الأسرى والمعتقلين، وكل ذلك يجري أمام حالة من العجز المرعبة التي تطال المجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية، في ضوء الجرائم المهولة التي تنفذ بحق شعبنا في غزة، والعداون على كافة قطاعات شعبنا في الأراضي المحتلة، وكذلك بحقّ الأسرى والأسيرات في سجون ومعسكرات الاحتلال الإسرائيليّ.