هل تضحي موسكو بعلاقاتها الاستراتيجية مع أنقرة من أجل إدلب ؟
نقلا عن الأناضول
حَشدُ روسيا جميع أنواع الميليشيات الموجودة في سورية، في معركة كسر عظم تشهدها إدلب وريف حلب الغربي، بإشراف غرفة عمليات يقودها ضباط روس، مع غطاء جوي كامل من سلاح الجو الروسي وقاعدة حميميم، حيث تمَّ اختبار أنواع جديدة من السلاح الروسي خلال العمليات الحربية، واستهدافُ القوات التركية بشكل مباشر ومتعمد من قبل الطيران الروسي..
كل هذه رسائلُ قوية ومؤشرات واضحة، تريد موسكو من خلالها أن تقول لأنقرة، بأنها لن تتراجع خطوة للوراء، ولن تسمح لنظام الأسد أن يتراجع إلى حدود سوتشي كما تطالب أنقرة، وأنها مستعدة لجميع الخيارات بما فيها التدابير العسكرية.
روسيا دفعت إيران أيضا، للزج بقوات الحرس الثوري، وحزب االله اللبناني، والميليشيا العراقية، عصائب أهل الحق وحركة النجباء ولواء أبو الفضل العباس، ومرتزقة لواء زينبيون الباكستاني، ولواء فاطميون الأفغاني، إضافة لميليشيات أخرى تعمل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني.
جميعُ هذه الميليشيات، التي اشتهرت بشراستها وجرائمها وسرقاتها، شاركت بقوة في معارك ريف حلب، كما شارك في الهجوم، القوات والميليشيات المحسوبة على الروس (الفيلق الخامس، الفرقة ٢٥ /مهام خاصة التابعة لسهيل النمر)، والقوات المدعومة إيرانياً (الفرقة الرابعة والحرس
الجمهوري)، إلى جانب ميليشيا الدفاع الوطني وميليشيات أخرى تعمل ضد تركيــا، مثل ميليشيات الإرهابي علي كيالي الملقب بمعراج أورال.
من الواضح أن الروس من خلال هذه الحشود قد استنفروا جميع القوى البشرية، والإمكانات الحربية، من أجل الحسم العسكري في إدلب.
في الجهة المقابلة، هناك عاملان أساسيان يجعلان تركيا تتمسك بإدلب حتى النهاية ..
العامل الأول، هو الجانب الأمني الذي يمس أمن المناطق الحدودية المتاخمة لإدلب، التي كانت تتعرض باستمرار لهجمات إرهابية، تسببت في مقتل مواطنين أتراك، ونشرت حالة من الرعب والقلق وعدم الاستقرار في حياة سكان تلك المناطق، حيث كانت القنابل وقذائف الهاون تستهدف المدارس والأسواق والشوارع والأماكن العامة.
العامل الثاني، اللاجئون السوريون، حيث تكتظ إدلب بأربعة ملايين إنسان يبحثون عن مكان آمن يلجؤون إليه. وفي حال أحكمت قوات الروس والنظام سيطرتها على إدلب، فإن هؤلاء سيتجهون نحو تركيا لا محالة، مما يشكل حالة إنسانية تفوق قدرة تركيا الاستيعابية بأضعاف.
** إدلب حجر أساس الأمن الاستراتيجي لتركيا
تقع إدلب، في شمال غربي سوريا مقابل ولاية هطاي جنوبي تركيا، ويحدها من الشمال الغربي ولاية هطاي، ومن الشرق محافظة حلب السورية، ومن الشمال الشرقي مدينة عفرين، ومن الجنوب محافظة حماة، ومن الجنوب الغربي محافظة اللاذقية.
تشترك إدلب مع تركيا بـ 130 كم من الحدود البرية، وتسود حالة من القلق، خشية أن تسفر حملات النظام المستمرة على إدلب، عن موجة نزوح مئات الآلاف من المدنيين، تجاه تركيا وأوروبا.
تتمتع إدلب بموقع استراتيجي مهم بالنسبة إلى تركيا، فهي تتشارك سلسلة جبال الأمانوس الممتدة داخل تركيا، وهي الجبال التي كانت عناصر PKK الإرهابي تتسلل من إدلب إليها في الماضي وتنفذ عمليات إرهابية في منطقة هاتاي.
يشكل الموقع الجغرافي الاستراتيجي والتركيبة السكانية لإدلب، عوامل تجعلها خاصرة رخوة لأمن تركيا القومي، ومِن ثَم فهي معنية بإدلب بشكل كبير للحفاظ على أمنها الاستراتيجي. بمعنى أوضح، إدلب مسألة أمن قومي بالنسبة لتركيا، وليست على الاطلاق مطامع توسعية، كما هو الأمر بالنسبة لروسيا وغيرها.
** أهمّية إدلب لروسيا
من لدن تدخلها العسكري في سورية عام 2015 ، وضعت موسكو نصب عينيها هدف الاستحواذ الكامل على سورية، دون شراكة مع أحد. لكن حاجتها للعامل البشري، للقتال على الأرض، دفعها للشراكة مع إيران شراكة مرحلية.
أما شراكة روسيا مع تركيا، فقد كانت بهدف سحب البساط من تحت عملية جنيف، التي تديرها الأمم المتحدة بإشراف أمريكا. أي إلغاء العملية السياسية، أي إبطال الحل السياسي للمسألة السورية!.
نعم تم سد قنوات العملية السياسية، عن سابق عمد، وأعطي الروس المهلة تلو الأخرى للقيام بالحسم العسكري، بالشراكة مع الإيرانيين، ففشلوا أمام صمود الشعب السوري، الذي يسطر ملحمة بطولية قل نظيرها في التاريخ.
كل هذا تم بموافقة أمريكية، وضوء أخضر أوربي، وصمت مريب من طرف منظمة الأمم المتحدة.
أسست روسيا عملية أستانا بحجة وقف الأعمال القتالية بين الأطراف المتحاربة، ومراقبة مناطق خفض التصعيد، التي تم تحديدها والاتفاق عليها بين الدول الضامنة لعملية أستانا، روسيا وتركيا ثم التحقت بهما إيران.
لم يكن بإمكان الروس الذهاب بعيدا في مفاوضات أستانا، لولا انسحاب الأمريكيين، وتخليهم عن عملية جنيف، وتركهم الميدان خاليا للروس بشكل تام، مما يدل على صفقة ما جرت بين الروس والأمريكيين، تقضي بأن تكون سورية بكاملها منطقة نفوذ روسية.
** ردود الفعل الدولية على الهجوم الروسي الإيراني
من الملاحظ بجلاء، أن رد الفعل الإقليمي والدولي على الهجوم الروسي الإيراني، في مرحلته الأولى التي شملت السيطرة على الطرق الدولية السورية M4 وM5 ، جاء خافتا وخجولا ولا يتناسب مع حجم المعاناة الانسانية لأربعة مليون لاجئ، حيث لم تبدأ ردود الفعل بالظهور إلا بعد تفاقم وتعاظم المأساة الإنسانية، والتحرك التركي من خلال الدفع بحشود عسكرية متتالية نحو إدلب.
ظهرت مطالبة لتركيا بتطبيق اتفاق سوتشي 2018، مقابل المطالبة بانسحاب قوات النظام والميليشيا الحليفة إلى ما بعد النقـاط التركية التي تمت محاصرتها (11 نقطة مراقبة)، في مقابل سعي روسي لطرح اتفاق جديد يثبت الوضع الراهن ويضع قيوداً على ما تبقى من مناطق محررة.
شاهدنا تنسيقا تركيا أمريكيا، تمثلت بزيارة المبعوث الأمريكي جيمس جفري وسلسلة من الاتصالات الثنائية بين الطرفين، تبعها تنسيق تركي مع الناتو، تجلى في زيـارة مسؤولي الحلف لأنقرة، وسعي القيادة التركية لضمان موقف مساند لها في حال قيام عملية عسكرية محدودة أو واسعة، أو تطــور الصراع إلى احتكاك/مواجهة تركية- روسية.
لم يظهر موقف عربي واضح حتى الآن، عدا مواقف إعلامية معادية للتدخل التركي، دون أن تصل إلى حد الاصطفاف المباشر مع النظام.
البطء في استجابة المجتمع الدولي للكارثة الإنسانية في إدلب، مرده إخفاق مجلس الأمن في
تثبيت وقف لإطلاق النار بسبب الفيتو الروسي، وعدم قدرة الأمم المتحدة على تفعيل الآلية الإنسانية.
** سيناريوهات محتملة
* سيناريو العملية العسكرية الواسعة:
يتمثل بانتهاء المهلة دون اتفاق، في هذه الحالة تشنُّ القوات التركية والجيش الحر هجوماً واسعاً على عدة جبهات قد يؤدي إلى نشوب احتكاك مع الجانب الروسي الذي يوفر تغطية جوية ومدفعية للقوات التابعة له (الفرقة ٢٥ والفيلق الخامس)، بما يعني انطلاق العملية العسكرية التركية التي توعدت بها أنقرة، مع إمكانية الصدام مع روسيا إذا قررت المشاركة في حماية قوات الأسد التي تمركزت مؤخَّراً داخل منطقة خفض التصعيد.
هذا السيناريو كان مستبعَدا لاعتبارات عديدة، فمصالحُ البلدين متعددة الاتجاهات، وهي قائمة في مجالات متنوعة ومختلفة، ومن الصعب إن لم يكُن من المستحيل أن يتخلى الطرفان عن هذه المصالح من أجل إدلب.
لكن في ظل إصرار أنقرة على تحمل تكلفة خيار إجبار النظام على التراجع، وتعنت روسيا التي لم تقدّم أي تنازل على طاولة المفاوضات حتى الآن، لن تدع تركيا تحشرها أمام خيارين، إما تركيا وإما النظام، بل ستذهب لجهة التصعيد حتى نهاية المطاف، آخذة بعين الاعتبار خيار / احتمال الصدام مع تركيا.
* سيناريو العملية المحدودة:
تقوم خلاله القوات التركية مع فصائل المعارضة السورية بعملية محدودة من عدة محاور تُرغم قوات العدو على التراجع، مع فتح نافذة للتفاوض مع الروس، من اجل الوصول إلى شروط أفضل، وفي حال إخفاق الحلِّ التفاوضي يتم استئناف العملية العسكرية.
صحيح أن روسيا ملتزمة بالنظام السوري منذ اليوم الأول للثورة السورية ولن تتخلى عنه، فإنها من جهة أخرى ترتبط مع تركيا، بعلاقات اقتصادية وتعاون عسكري، وعلاقات استراتيجية في مجال الطاقة والغاز والسياحة، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا إلى أكثر من 35 مليار دولار، وبالتالي لن يذهب المسؤولون الروس والأتراك إلى حد التضحية هذه العلاقات، ولن يسمحوا للملف السوري بأن يكون سبباً لتدهور العلاقات بين البلدين.
* سيناريو العودة للتفاوض:
يتم خلاله استئناف المفاوضات بين تركيا وروسيا مع تأجيل العملية العسكرية، وهو غير مرجح في الظرف الراهن، ما لم يطرأ تعديل في الموقف الروسي، وإبدائه الاستعداد لتقديم تنازلات جوهرية في مقابل التصعيد التركي.
* تنفيذ التهديد التركي
من المؤكد أن تركيا لن تتراجع عن تنفيذ تهديدها بإبعاد قوات النظام إلى حدود اتفاق سوتشي. ومن الواضح أن ذلك سوف يكون من خلال عملية عسكرية، بسبب تعنت الروس.
تدرك تركيا أن المشاركة في رسم خارطة النفوذ مرتبط بشكل مباشر بحجم قوة الدول، وبما أن تركيا لا تريد أن تكون دولة متفرجة في المسألة السورية، وهذا ما يؤكده الرئيس أردوغان والمسؤولون الأتراك في كل مناسبة، لذلك لا يمكن أن نتوقع تراجعا تركيا إلى الوراء في موضوع إدلب.
من الملاحظ أن القوى الموجودة على الساحة السورية، ترجح سياسة حافة الهاوية. وهي استراتيجية يتبعها الروس باستمرار، فهم يضغطون على تركيا بشتى الوسائل من أجل دفعها للتراجع، لكي يفرضوا سياسة الأمر الواقع.
مقابل ذلك تتحلى تركيا بسياسة النفس الطويل، كما رأيناها في العمليات السابقة، في درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، حيث كانت تعطي الدبلوماسية الوقت الأكبر، لتأخذ مداها، فما يتحقق بالدبلوماسية لا داعي لتحقيقه بالعنف. لكن عندما تصل إلى نهاية الطريق السلمي، تذهب لجهة تنفيذ تهديداتها، بعد أن يظنّ الجميع أنها لن تفعل شيئا.
** القمة الرباعية
تعتزم تركيا، روسيا، ألمانيا وفرنسا عقد قمّة رباعية بشأن سورية في 5 آذار/ مارس 2020، وهي النسخة الثانية؛ فقد سبق أن عُقِدت قمّة مماثلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 عقب انطلاق الحملة العسكرية على إدلب.
تأتي القمة الرباعية بعد تعثر المباحثات بين تركيا روسيا، حتى على مستوى الرؤساء، حيث لم ينجح الاتصال الهاتفي المطول بين الرئيسين أردوغان وبوتين في إحداث اختراق يجسر الهوة بين الطرفين.
إنّ انعقاد القمّة الرباعية يعكس وجود رغبة في ترجيح الخيار السياسي لدى جميع الفاعلين، لكنّ ذلك لا يعني التخلي عن الخيار العسكري من قبل روسيا، أو حتى عدم لجوء تركيا لاستخدامه كوسيلة في دعم موقفها ومطالبها، في حين تُسيطر حالة من الترقّب على موقف واشنطن وعواصم أوروبا من الخيار العسكري.
** ختاما
إن استمرار الخيار العسكري، وتوسع رقعة الصراع، وتعدد المشاركين فيه، وانتقاله من الاشتباك بين العناصر المحلية الى صراع مباشر بين القوى الاقليمية والدولية، عوامل أصبحت تشكل خطرا كبيرا على السلم الاقليمي والدولي، عدا عن تصاعد الخطر الأمني على العواصم الأوروبية الرئيسية من ناحية حصول موجة جديدة من اللاجئين تهدد استقرار البيئة الداخلية للقارة العجوز، ولتصاعد نفوذ روسيا على الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي.
سوف تتمسك روسيا بسقف عالٍ من الشروط، وسترفض تركيا أي مقترح لا يتناسب مع سقف مصالحها ومخاوفها الأمنية، فأي تنازل غير مرضي لها حاليا، قد يؤدي إلى سلسلة من التنازلات مستقبلاً تمسّ أمنها القومي واستقرارها الداخلي