المؤامرة على جهود المصالحة
في مقابل هدايات "الحديد"
ما أعجب أقدار الله! وأمام طلاقة قدرته نسجد مسبحين! وكيف يجعل تدمير عدوه في تدبيره! ويسوقه لما يظنه عامل نصره فإذا هم مسوق إلى حتفه!
ظللت أقرأ تفسير المفسرين للآية الأخيرة في سورة الحديد، ثم لا أطمئن لما يقولون، ولا يقنعني تفسيرهم لكني بالمقابل لم أكن أجد الجواب الشافي! يقول الله عز وجل:" لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [ الحديد:29]. يقول معظم المفسرين أن (لا) في الآية زائدة للتوكيد. فتصير: لئلا بمعنى: لـ، أو لكيلا بمعنى لكي. فالمعنى على هذا أن الله عز وجل يريد أن يعلم أهل الكتاب أنهم غير قادرين على منع فضل الله بالرسالة والنبوة الذي خص به أمة محمد صلى الله عليه وسلم فليس حكراً على أهل الكتاب. حتى الذين قالوا إن لا غير زائدة من القدامى ظل تفسيرهم يدور في الحلقة ذاتها، حتى جاء ابن عاشور فقال: لا داعي للقول بزيادة لا، بل المعنى: يريد الله ألا يعلم أهل الكتاب أن الله خصكم بفضله فيظلوا مغرورين ومتمسكين بدينهم...( انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، 27/ 429-432) حيث عرض الآراء السابقة جميعا ثم أبدى رأيه المخالف. وكان هذا أقرب التفاسير إلى قلبي، لكن بقيت حلقة مفقودة حتى استمعت تفسير الآية من الشيخ بسام جرار حفظه الله، فانشرح صدري، وصارت ظلالها مختلفة! حيث بنى الشيخ على قول ابن عاشور وطوّره وجوّده. أولا: فضل الله غير محصور بالرسالة والنبوة فحسب بل هو عام وشامل، والسورة سورة الحديد وقبلها بآيات في رأس الصفحة آية الحديد المشهورة:"لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" [ الحديد:25]. فمعنى الآية إذاً: إن الله عز وجل خص هذه الأمة بفضله نبوةً ورسالة ومجاهدين ينصرونها على مر الزمان ويجاهدون (بالحديد) لإقامة (القسط) بشرع (الكتاب)، ويريد الله ألا يعلم أهل الكتاب أن الله لا محالة ناصرٌ هؤلاء المجاهدين ومتمُّ فضلِه عليهم بالنصر والتمكين في الأرض لنشر العدل بين الناس. ولكن لماذا يريدهم ألا يعلموا ذلك؟ يقول الشيخ: لو علم أعداؤنا أن القدرة الإلهية معنا، وأن فضل الله لا محالة لاحق بنا وسنناله، أي لو علموا نتيجة المعركة سلفا وأن جهودهم في حرب الإسلام والقضاء على المسلمين بلا جدوى ليئسوا من محاولة القضاء على المسلمين وليئسوا من المكر والتخطيط وإنفاق الأموال:" إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون..."[الأنفال:36].
إذاً: يريد الله لهم ألا ييأسوا ويريد لهم أن يواصلوا المكر، لأنهم لو يئسوا وعلموا النتيجة مسبقا لما مكروا وخططوا وأنفقوا من أموال!!!
إذاً يريد الله لهم أن يواصلوا المؤامرة، ولكن لماذا؟؟؟
يقول الشيخ: إذا كان لك حبيب غافل نائم عن خطر محدق به ( حريق، أو سقف المنزل سينهار عليه...) ثم تناديه فلا يرد، وتصرخ به ليفيق فلا يصحو، فإنه محتاج حينها ( كَفْ، بُكْسْ، شلّوط..." بتعبير الشيخ بالعامية") ليصحو. هذه الأمة المكرمة التي يريدها الله أن تسود الدنيا نائمةٌ وغافلة، وغفلتها وضعفها يغري أعداءها بها لمهاجمتها بهدف القضاء عليها، وبتوجيه الضربات لها، وعندئذ ستصحو، وسيفرض عليها هذا التحدي الاستئصالي أن تستجمع كل مكنون الطاقة من الإيمان والعمل والجهد لتواجه المؤامرة، وهذا ما يجعلها تتقدم فتنتصر. وسيظل ضعف الأمة ووجود المنافقين فيها عامل إغراء لأعدائها:" ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون" [ الحشر:11] سيظل هذا الإغراء النفاقي لأعداء الأمة كيلا يعلموا أن فضل الله بالنصر والتمكين هو قدره لهذه الأمة، " والله متم نوره ولو كره الكافرون" [الصف:8]. فيواصلوا مخططاتهم ممنين أنفسهم بأن سحق هذه الأمة الضعيفة النائمة قد بات في متناول اليد:" فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال: كلا إن معي ربي سيهدين" [ الشعراء:60، 61]. سيظل أعداء الأمة على أمل أنهم سيدركونها للقضاء عليها، ها هم على بعد خطوات، لكن هيهات: إنها معية الله، وفضل الله" حتى إذا استيأس الرسل..."[ يوسف:110].
وبالعودة إلى آيات الحديد، في الآية قبل الأخيرة:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله..." [الحديد: 28، 29]. ولاحظ معية الله للمؤمنين:" ويجعل لكم نورا تمشون به" إنها الهدايات والتوفيق وقيادة الخطى وتسديد الرمي.
الكل في ظلام يتخبط، يكاد يجن لم كلما اقترب أو ظن أنه اقترب من الغاية بسحق الأمة بدا له عائق لم يكن في الحسبان فيواصل المكر وإنفاق الأموال، ولكن هيهات. وبالمقابل فإن هدايات الله تحوط المؤمنين وتحفهم، تقود خطاهم وتهديدم للتي هي أقوم." ويجعل لكم نورا تمشون به" المشي بنور الله، يا لها من معية!
وبعد كل ما تقدم، فها هي المعادلة:
يغريهم ضعفنا الفلسطيني: ( بالانقسام، وأن بعضا منا كسر سلاحه أملا في وعد زائف على طاولة تفاوض بغطاء شرعية دولية عرجاء وعمياء، وأن المجاهدين يحاصرهم القريب والجار) وضعف الأمة (بحكامها المنافقين الذين يسحقون شعوبهم ويسحقون أحرار الأمة وأنهم كشفوا أقنعة الزور نصرة للأعداء) فيغريهم ذلك كله ( مع معادلات داخلية تخصهم) للظن أنها مرحلة تصفية قضية الأمة، ومرحلة طي صفحة الصراع للأبد، فتكون صفقة القرن وتداعياتها ضما وتطبيعا و..و..و.. ومن يدري لعل هذه الضربة المؤلمة من الأعداء هي التي ستوقظ كل نائم وتستفز فينا كل طاقة لننهض.
لم يعد ثمة متسع من الوقت لنضيعه، هذه فرصتنا، لنجعل من التحدي الكبير الفرصة الأكبر:" وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى" [ طه:69].
ومن لا يريد أن يقرأ أن هذه هي فرصتنا لا فرصتهم، وظل مترددا أو مراهنا على سراب فسيفوته قطار النصر والعزة المنطلق بإذن الله والأقرب مما يظن أعداء الأمة، ولات حين مندم. فلا نحب لأحد من شعبنا أن يقول في قادم الأيام:" يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما" [ النساء:73].
وعودة إلى سورة الحديد وما أدراك ما الحديد، لنختم بالذي هو خير:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [ الحديد:28، 29]