المرتكزات الرئيسية في اختراق الأفراد والمجتمعات والكيانات السياسية حديث في الأصول

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً: بين يدي الحديث: 

نعيش منذ ما يقارب العامين حالة حرب مع العدو الغاصب لفلسطين، وعلى جميع الصعد، ففي غزة هناك حربٌ على البشر والحجر، وفي لبنان انتهت جولة قتال، لتبدء جولة أخرى، تجبي كل يوم أرواحاً، وتأتي على ممتلكات، أما في إيران؛ فقد اعتدى عليها العدو في صبيحة يوم مستهدفاً ثلة من القادة والعلماء، وأغلق ملف حربها بعد أن تدخل الأصيل(الأمريكي)، لنجدة الوكيل(الصهيوني)، فأخرجه من(المغطس) الذي وضع نفسه فيه. إلّا أن اللافت في جميع الجولات هذه ما تكشف عن جهد استخباري وأمني، شغّل من خلاله العدو قدرات وإمكانيات راكمها على مدار سنين في مختلف الساحات التي خاض ويخوض فيها حروبه، وله مع أهلها عداوات. وقد كانت هذه القدرات من الجودة، والحرفية، والفاعلية، ما جعل كثير منا يقف مشدوهاً، حائراً، كيف استطاع هذه العدو أن يخترق هذه المجتمعات، وتلك الأحزاب والمنظمات، بحيث تمكن أن يوجه لها ضربات مؤثرة، وأن يلحق بها خسائر يُعتد به؟ وهنا يحضر السؤال المركزي الذي ستحاول هذه الورقة الإجابة عليه وبشكل مقتضب، وهو: كيف استطاع هذا العدو أن يخترق هذه المجتمعات والمنظمات، ويجند منها وفيها هذا الكم المُعتد به من الأفراد والمصادر؟ 

ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال، لابد أن نُذكّر بأنه ليس هناك مجتمعٌ معصموم من ( لغوصة ) العدو فيه، وليس هناك تجمع بشري يخلو من ضعاف النفس والمنافقين، ولو كان؛ لكان مجتمع المدينة المنورة الذي كان على رأسه خيرة خلق الله صلى الله عليه وسلم، ومن شهد لهم بالخيرية؛ فهم خير القرون، ومع ذلك فقد كان في هذا المجمع من الدخن ما فيه، إلى الدرجة التي أدت إلى هزيمة المسلمين في معركة أحد، وشهادة سبعين من خيرة الصحابة، ومن ضمنهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وعليه فظاهرة العمالة، وعمل بعض ضعاف النفوس لصالح عدوهم، ظاهرة كانت وما زالت وستبقى أحد خصائص التجمعات البشرية، ومرضٌ يجب البحث عن أسبابه، لاجتراح وسائل للوقاية منه وعلاجه. إن هذه الورقة سوف تتحدث عن المرتكزات التي يرتكز عليها العدو، ويبحث عنها ليجعل منها رؤوس جسور، يصل من خلالها إلى قلب عدوه، فيُعمل فيه خراباً، وتحطيماً، تحقيقاً لاهدافه وغاياته، والتي على رأسها تيئيسه ــ عدوه ــ من المقاومة، وفرض إراداه عليه.

ثانياً: المرتكزات الرئيسية: 

تحت هذا العنوان سوف نتحدث عن المرتكزات الرئيسية التي تجعل المجتمعات، والوحدات السياسية في حالة من الهشاشة، والضعف، وكثرة الثغرات التي يمكن من خلالها أن ينفذ العدو، إلى داخلها، ويزرع (أحصنة طروادة) فيها، ثم يُشغّليها، ويفعّلها، في الوقت الذي يريد، حيث من أهم هذه المرتكزات ما يأتي: 

  1. غياب العدالة الاجتماعية: 

وهي الحالة التي تكون فيها الحقوق، والفرص، والموارد، غير موزعة بشكل عادل بين مختلف أفراد المجتمع وشرائحه. وهي تتجاوز مُجرَّد المفهوم النظري لتشمل مجموعة من الممارسات والسياسات الهادفة إلى إزالة الحواجز التي تُعيق المشاركة الكاملة لبعض الفئات في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. فعندما ترى شريحة من المجتمع أنها غير مشمولة بما في المجتمع من فرص، وأنه لا يفطن لها إلا عند الواجبات، والمغارم، وتُنسى عند الحقوق والمغانم، فهذا يعني أننا وفرّنا فرصة، وفتحنا ثغرة للعدو، يلج منها إلى داخل المجتمع، ليفتته، وينقض عراه. 

  1. غياب المشاركة السياسية: 

المشاركة السياسية هي مفهوم عرفي قائم على الإعتراف بالحقوق المتساوية للجماعات والأفراد في إدارة شؤونهم والتحكم بمصائرهم، وعلى القبول بالآخر وإعتباره كامل الأهلية والإنسانية بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو العرق أو اللون. وهي ما تُمكن الناس من الحصول على حقوقهم ومصالحهم أو الدفاع عنها، والمساهمة في توجيه حياة المجتمع بشكل عام. لذلك عندما يصبح الحكم مقتصر على عائلة بذاتها، والمناصب موزعة على شريحة معينة من العوائل، والأحزاب عبارة عن ديكورات لتجميل الممارسة الدكتاتورية، والمجالس التشريعية والشورية، ما هي إلّا مجالس (تبصيم) وأختام (مطاطية) لقوى سياسية، فهذا يعني زرع بذور الشقاق والخلاف، والشعور بالظلم، المفضي إلى إضعاف النفوس، والحصانة المجتمعية، أمام هجمات الأعداء المُتسترين بزي الأصدقاء. 

  1. التوزيع غير العادل للثروة:

وليس يعني العدل هنا المساواة في القسمة والتوزيع، وإنما إعطاء كل ذي حقه حقه، وكل صاحب حاجة حاجته. كما أنه لا يعني المساواة الصورية في الملكية وحجم الثروة، ولكن العدالة في استهلاكها. فقد تفاوت أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام والأنبياء من قبلهم في الغنى والفقر. فمنهم الغني الواسع الغنى ومنهم الفقير المدقع. فعندما لا توزع الثروة بعدل؛ تنفتح أمام العدو الثغرات، وتكثر مكامن الضرر والإصابات.

هذه مرتكزات ثلاث، هي من أهم رؤوس الجسور التي ينفذ منها العدو، ويصل إلى داخل المجتمعات، فيعمل فيها تجنيداً، وتفتيتاً، وزرعاً ( لألغام ) يعمد إلى تشغيلها عند الحاجة. ففي الوقت الذي تكون الأعين شاخصة إلى الخارج لمراقبة التهديد والخطر، للتعامل معه، تأتي الضربة من الداخل، ومن حيث لا يُحتسب أو يُنتظر.   

ثالثاً: مرتكزات على صعيد الأفرد:

أما على صعيد الأفراد؛ فإن العدو يستخدم مجموعة من أدوات الفعل، التي تساعده على تجنيدهم ، مستغل بعضاً من الصفات والسجايا الشخصية التي تمكنه من إيقاعهم في مستنقع العمالة، التي تحولهم إلى معاول هدم، تدمرهم أولاً، ثم تأتي على محيطهم، القريب والبعيد، فتعيث فيه فساداً وتدميراً، ومن أهم هذه المرتكزات ما يأتي: 

  1. الأنا: 

الـ( أنا )، وهي من أخرجت إبليس من الجنة، أنا خير منه! أنا أفضل منه! أنا أعلم منه! أنا أحق منه! أنا أقدم منه! أنا، أنا...، إنها أم الخطايا، وبداية الإنحراف عن جادة الصواب، والدرب الموصل إلى الهلاك، وهي ما يبحث عنه العدو ليعززه عند من يتصف بها، فينفخ فيها وفيه، حتى لا يكاد يرى من الخلق غيره، ولا في الكون من أحد سواه. 

  1. النساء: 

وهو فخٌ معتاد ينصبه العدو (لفرائسه) فيقع فيه ضعاف النفوس، ومن يدعون القدرة على مواجهة هذا النوع من الأفخاخ! والذي يصطلح أهل الفن على تسميته بفخ ( العسل ). وهنا لا بأس من ذكر ما ورد في مختصر منهاج القاصدين في باب ذم الغضب والحقد والحسد من أن إبليس بدا لموسى عليه السلام،فقال يا موسى:إياك والحدّة، فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة، وإياك والنساء، فإني لم انصب فخاً هو أثبت في نفسي قط، من فخ أنصبه بامرأة! وإياك والشح، فإني أفسد على الشحيح الدنيا والآخرة.

  1. الانتقام: 

وهو باب يُفتح عندما لا يُغلق باب الظلم، ويُشرّع عندما تُغمط الناس حقوقها، وتغيب المسائلة الحقيقية، ولا تُرد المظالم، وعندما لا يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وعندما يسيس القضاء، ويُخل الويكل بما فوضه به الأصيل. عندها لا يبقى سوى الانتقام الذي يعمي البصائر، ويرى فيه العدو فرصة تُستثمر، ورأس جسر يمكن أن يولج منه. 

  1. المال:

وهو مما حُبب للنفوس، وهو ما لا يُشبع من الاستزادته منه! ودروبه صعبه، وعندما تُضّيع الحقوق، وتغيب العدالة والتكافل الاجتماعي، عندها سيبحث الناس عما يقيم أودهم، ويسد حاجتهم، ويسكت البطون الجائعة، ويداوي الأرواح والأبدان، فإن وجد الشخص، أو الجماعة ما يسدون به حاجتهم، ويستر عورتهم، وإلّا، فالعدو ينتظر عند المفترق، ناصبٌ أفخاخه، ملقياً بطعومه، منتظراً كل ذي حاجة.

  1. الضغط والابتزاز: 

يقال في المثل عند أهل القرى: "امشي عدل يحتار عدوك فيك"، ومُرتكز الضغط والابتزاز ومنشؤه؛ ضعف النفس، وقلة الثقة فها، والمسير في مسارات خاطئة، وعدم العمل على تقوية نقاط الضعف الذاتية، وستر مكان الضرر عن أعين الأعداء والمتربصين، كلها فرص يبحث العدو عنها ليحولها إلى أدوات ضغط وابتزاز، توصله إلى تحقيق أهدافه، ونيل مبتغاه.   

كانت هذه مجموعة من المرتكزات الكلية التي يستخدمها العدو في النفوذ إلى الأفراد والمجتمعات والكيانات السياسية، لتجنيد الأفراد، والعبث في النسيج الاجتماعي والسياسي للدول والوحدات السياسية، ليحقق أهدافه وغاياته. ويصنع طوابير خامسة وسادسة في المجتمعات، لتكون معاول هدم، و(عبوات) تفجير (تنعف) البيئة والمجتمع، والمعصوم من عصمه الله. وهو سبحانه غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يلعمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023