في آخر تصريحاته، أثنى الرئيس الأمريكي ترامب على الإسرائيليين، وقال: "الإسرائيليون مفاوضون بارعون" وهذه حقيقة لا ينكرها كل من تعامل مع اليهود، وكل من قرأ تاريخهم من خلال نصوصهم التوراتية، ليدرك أن اليهود بارعون في التفاوض، وبارعون في البيع والشراء، وبارعون في كسب المال، بل هم بارعون في شراء نفوس الضعفاء، وذلك يعني أنهم بارعون بالرشوة، وهم الذي قدموا الفتاة اليهودية الجميلة "إستر" رشوة للملك الفارسي كورش، كي يتخلصوا من وزيره هامان؛ الذي كان يكرههم، وذلك سنة 450 قبل الميلاد، لقد نجح اليهود في بلاد فارس بالقضاء على الوزير هامان، وتصفية مئة ألف من أتباعه، عقاباً له، لأنه كان يكرههم، وسعى إلى طردهم من بلاد فارس.
ويحدثنا التاريخ الراهن، أن الإسرائيليين البارعين في المفاوضات من وجه نظر ترامب، تنكروا لاتفاقية الأسرى التي تم التوصل إليها في شرم الشيخ قبل أيام، والتي تقضي بإطلاق سراح كل الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى غزة دفعة واحدة، مع كل الجثث، مقابل إطلاق سراح 250 أسير فلسطيني محكوم بالمؤبد، مع قرابة ألفي أسير بأحكام مخففة في السجون الإسرائيلية.
وبعد موافقة الحكومة الإسرائيلية على اتفاقية وقف إطلاق النار مع غزة، نشرت وزارة القضاء الإسرائيلي أسماء الأسرى الفلسطينيين الذين شملتهم صفقة تبادل الأسرى، دون ذكر لأسماء عدة شخصيات قيادية من الأسرى، وهم مروان البرغوثي وعباس السيد وأحمد سعدات وحسن سلامة وإبراهيم حامد وعبد الله البرغوثي وغيرهم، وهذا إخلال استراتيجي بالاتفاقية، تفرض على التنظيمات الفلسطينية الثلاثة التي فاوضت في شرم الشيخ أن تؤجل إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين الأسرى في غزة إلى حين الرضوخ الإسرائيلي للشروط الفلسطينية، وأكرر الجملة ثانية، إلى حين الرضوخ الإسرائيلي للشروط الفلسطينية، رغم ما تعنيه هذه الجملة من تبعيات قد تكون قاسية وأليمة.
إن إطلاق سراح قادة السجون الأبطال ضمن صفقة تبادل الأسرى الراهنة يمسح حبات العرق والحزن عن جبين أهل غزة، ويعطي ثمرة للتضحيات، ويرسل رسائله إلى العالم، والشعوب العربية بأهمية الأسرى الفلسطينيين، والتي لا تقل قيمة ومضمون عن الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى غزة.
وقد تكون صفقة تبادل الأسرى الراهنة هي الفرصة الأخيرة لتحريرهم، وما دون ذلك خروج الدود من أجسادهم ومن روح الشعب الفلسطيني الذي عجز عن تحرير أسراه.
وهنا تخطر على ذاكرتي تجربة تحرير الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة تبادل الأسرى التي تمت سنة 1985، وكيف تجلت براعة المفاوض الإسرائيلي، الذي أثنى على براعته ترامب بعد أربعين سنة.
ضمن صفقة تبادل الأسرى 1985، تم الاتفاق على أإطلاق سراح 1250 أسيراً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية، معظمهم محكوم بالمؤبد، مقابل إطلاق سراح ثلاثة جنود إسرائيليين أسرى في لبنان لدى تنظيم القيادة العامة.
وكان يفترض أن يتم تنفيذ الصفقة يوم الاثنين الموافق 20/5/1985، حيث وصل الصليب الأحمر الدولي إلى السجون الإسرائيلية، وجرى فرز الأسماء من قبل ممثلي الأسرى، واستكملت عملية الإفراج عن الأسرى متطلباتها، وخلع الأسرى المحررون ملابس السجن، وارتدوا ملابس خاصة، ليصير تحرير عدد منهم إلى الأراضي المحتلة، وعدد آخر تقرر أن يغادر إلى الدول العربية.
وبالفعل، وصلت مجموعة الأسرى الفلسطينيين المحررين إلى الدول العربية إلى مطار اللد، ومن هناك صعدوا إلى الطائرة، استعداداً للإقلاع، وتحركت بهم الطائرة، كما روي لي الحكاية الأسير المحرر كريم يونس في سجن نفحة الصحراوي سنة 1987.
ويعد أن تحركت الطائرة التي تقل الأسرى المحررين، توقفت قبل الإقلاع، وهنا ارتجف قلب الأسير كريم يونس، لماذا توقفت الطائرة؟
دقائق بعد توقف محركات الطائرة، صعد مدير امن سجن عسقلان إلى الطائرة، ووضع القيود في معصم مجموعة من الأسرى، وأنزلهم من الطائرة، وعاد بهم ثانية إلى سجن عسقلان.
وهنا تجلت براعة المفاوض الإسرائيلي الذي تحدث عنها ترامب بعد أربعين سنة.
لقد فكر المفاوض الإسرائيلي في إجراء مناورة تفاوضية، واعترض فجأة على الإفراج عن 36 أسيراً فلسطينياً بحجة انهم من القدس ومن فلسطيني 48، وأوقف تنفيذ الصفقة لعدة ساعات.
وهنا تدخل الوسطاء، وبدأت المفاوضات من جديد، ليتم التوصل إلى اتفاق بأن يطلق سراح نصف الأسرى الذي اعترض عليهم المفاوض الإسرائيلي، ويعود نصفهم 18 أسيراً إلى السجون الإسرائيلية، وتم تنفيذ الصفة على هذا الأساس، وكان كريم يونس من ضمن 18 أسيراً، ليعود إلى سجن عسقلان، ومن هناك تم نقله إلى سجن نفحة، ليظل أسيراً يتنقل بين السجون الإسرائيلية منذ أنزلوه من الطائرة سنة 1985 حتى سنة 2023، السنة التي تحرر فيها من الأسر بعد أن أمضى 40 سنة كاملة مكملة.
كريم يونس رسالة لمن يقود المفاوضات الفلسطينية بشأن تحرير قيادات الأسرى، إياكم والمناورات الإسرائيلية، إياكم وأنصاف الحلول فيما يتعلق بحرية الإنسان، اصمدوا