أكتوبر الذي كسر العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي

الاسير المحرر ربحي بشارات

روائي وكاتب مختص بالشأن السياسي

بقلم/ ربحي بشارات 

"أزمة تجنيد الحريديم تكشف تصدّع الكيان من الداخل"، منذ السابع من أكتوبر لم يعد المشهد الإسرائيلي كما كان، فالهزة التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية لم تقتصر على الجبهة العسكرية بل امتدت إلى أعماق المجتمع الإسرائيلي نفسه، فكسرت جدار الوهم الذي طالما رُسم بعناية منذ قيام الكيان، فقد كانت إسرائيل تتغنى بوحدتها وقت الحرب وبقدرتها على جمع أطيافها المتناقضة تحت راية واحدة عند الخطر، لكن ما كشفه الواقع بعد طوفان الأقصى أن هذا النسيج الاجتماعي لم يكن سوى قشرة هشة تُخفي تحتها صراعًا مريرًا بين تيارات لا يجمعها سوى الخوف من الزوال.

أزمة تجنيد الحريديم، المتدينين اليهود، التي تفجرت مجددًا مع استمرار الحرب على غزة، تمثل اليوم أحد أبرز مظاهر هذا الشرخ الداخلي العميق، فخروج أكثر من مئتي ألف متظاهر إلى شوارع القدس وتل أبيب رافعين شعار “لن نخدم في جيشكم” كان صرخة تمرد ضد قرارات المحكمة العليا التي ألغت الإعفاء التاريخي الممنوح لطلاب المعاهد الدينية، فيما يصرّ العلمانيون على أن المساواة تقتضي أن يتحمل الجميع عبء القتال، خصوصًا في ظل اعتراف الجيش نفسه بأن هناك نقصًا يتجاوز عشرة آلاف جندي مقاتل في وحداته القتالية، لتتحول القضية من جدل قانوني إلى معركة هوية تمزق الكيان من الداخل: من هو اليهودي الجيد؟ المقاتل في الجبهة أم الحريدي المنغلق في مدرسته التوراتية؟ ومن الذي يحدد شكل الدولة: السيف أم التوراة؟ لقد قامت المؤسسة الصهيونية منذ نشأتها على معادلة دقيقة تجمع بين جيش قوي يحمي دولة يهودية حديثة، وتسامح محدود مع الحريديم الذين يشكلون اليوم نحو ثلاثة عشر بالمئة من السكان، غير أن هذا التوازن بدأ ينهار مع تضخم وزنهم الديموغرافي والسياسي حتى أصبحوا رقمًا حاسمًا في الائتلافات الحاكمة يفرضون شروطهم على كل حكومة مقابل دعمها في الكنيست.

الاعتراف الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت بأن الجيش يعاني نقصًا خطيرًا في المقاتلين ليس تفصيلًا ثانويًا بل مؤشرًا استراتيجيًا على أزمة هوية وطنية عميقة، فالجيش الذي طالما تباهى بأنه جيش الشعب لم يعد كذلك، والنخبة العلمانية التي كانت عماد وحداته القتالية تتقلص، بينما تتزايد الفئات التي ترفض الخدمة لأسباب دينية أو أيديولوجية أو نفسية بعد صدمة السابع من أكتوبر. ما يفاقم الأزمة أن هذا النقص يأتي في لحظة تحتاج فيها إسرائيل إلى كل طاقاتها العسكرية، فالجبهات مفتوحة على أكثر من محور، من غزة إلى الشمال إلى الضفة، بينما يقف الحريديم ككتلة صلبة رافضة للتجنيد بل يرى بعضهم أن الانشغال بالحرب الدنيوية معصية تؤخر مجيء المشيخ المنتظر.

وهذه المفارقة تكشف حجم الهوة بين الدولة وجماعاتها الدينية، فبينما يموت الجنود في غزة يعيش عشرات آلاف الحريديم في أحياء مغلقة لا يعرفون شيئًا عن الحرب سوى عبر الأخبار، يدرسون التوراة ويتلقون إعانات حكومية من ضرائب من يخاطرون بأرواحهم في الميدان، ما أشعل غضبًا علمانيًا متزايدًا يرى فيهم طفيليين يعيشون على حساب الدولة. والانعكاسات الاقتصادية لهذه الأزمة لا تقل خطورة، فالحريديم بامتناعهم عن التجنيد يظلون أيضًا خارج سوق العمل في كثير من الأحيان، وتشير التقديرات إلى أن مشاركتهم الاقتصادية ضعيفة وأن نصف الرجال الحريديم تقريبًا لا يعملون عملًا منتظمًا، ومع تزايد نسبتهم السكانية يصبح العبء المالي على الدولة هائلًا، بينما يضطر الجيش لتعويض النقص بتمديد الخدمة الإلزامية واستدعاء الاحتياط لفترات أطول، وهو ما خلق استنزافًا نفسيًا ومجتمعيًا غير مسبوق، حتى إن أحد الضباط المتقاعدين قال في مقابلة مع صحيفة هآرتس: “لم نعرف يومًا أزمة ثقة كهذه بين الجيش والمجتمع، لقد اهتزت صورة الجيش بشكل لم يحدث من قبل”.

كل هذه التناقضات لم تنشأ فجأة، لكنها كانت مكبوتة خلف جدار الخوف المشترك من العدو الخارجي، فالمجتمع الإسرائيلي عاش حالة إنكار مستمرة، وصراعاته الداخلية كانت مؤجلة لأن “الخطر العربي” يوحّد الجميع، لكن السابع من أكتوبر دمّر هذه المعادلة، فقد أظهر أن الجيش الذي يُفترض أنه الأقوى في المنطقة يمكن أن يُخترق بسهولة، وأن العقيدة الأمنية التي قامت عليها الدولة كانت أكذوبة.

حين انهار الخط الدفاعي في غلاف غزة لم تكن الخسارة مادية فقط، بل أصيب المجتمع بانكسار نفسي عميق، وبدأ كثيرون يراجعون إيمانهم بالدولة نفسها، فكيف لكيان بُني على فكرة الحماية والأمان أن يفشل في حماية مستوطنيه داخل حدود محصنة؟ ومن هنا بدأ الانقسام يأخذ منحًى وجوديًا، فالمتدينون رأوا في الكارثة عقابًا إلهيًا على انحراف الدولة عن الشريعة، والعلمانيون رأوا فيها نتيجة لهيمنة الحريديم والمستوطنين على القرار السياسي والعسكري، وهكذا دخل الكيان في دوامة اتهامات متبادلة تنخر بنيته من الداخل.

أزمة التجنيد ليست سوى وجه واحد لأزمة سياسية أعمق تضرب إسرائيل منذ سنوات، فحكومة نتنياهو الحالية هي الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان، تجمع بين الصهيونية الدينية والحريدية اليمينية وتعيش على توازن هش، غير أن السابع من أكتوبر نسف الثقة الشعبية بهذه الحكومة وفتح الباب أمام موجة غضب غير مسبوقة، خصوصًا من عائلات القتلى والأسرى، إذ يتهمون نتنياهو بأنه يحتجز الدولة رهينة بيد الأحزاب الحريدية التي تشترط بقاء الإعفاء من التجنيد مقابل بقاء الحكومة، ومع تصاعد الاحتجاجات تحولت القضية إلى معركة دستورية حول طبيعة الدولة نفسها، بل إن بعض الإسرائيليين بدأ يتحدث صراحة عن حرب أهلية باردة بين التيارين الديني والعلماني لأن كل طرف يرى في الآخر تهديدًا لوجوده. الجيش الإسرائيلي يخوض حربًا طويلة ومكلفة في غزة لكنه يفقد بالتوازي عمقه المجتمعي الداخلي، فكل جندي يُقتل يفتح نقاشًا جديدًا حول جدوى الحرب، وحول من يدفع الثمن ومن يتهرب منه.

ومع تراجع التجنيد بدأت المؤسسة الأمنية تفكر في حلول مؤقتة كتجنيد النساء لفترات أطول أو رفع سن الاحتياط إلى ما فوق الأربعين، وهي إجراءات تكشف حجم المأزق الذي وصلت إليه المنظومة العسكرية. وعلى صعيد الجبهة الداخلية تراجعت الثقة بين المواطنين والمؤسسات، فالمجتمع الذي عاش على شعار “نحن جميعًا في القارب ذاته” بات مقسومًا إلى طبقات من الامتياز، هناك من يقاتل ويدفن أبناءه وهناك من يعيش في عزلة عن الواقع، وهذا الانقسام يضعف قدرة الدولة على الصمود في الحروب الطويلة، لأن أي حرب تحتاج إلى وحدة مجتمعية وشرعية أخلاقية تبرر استمرارها، واليوم لم يعد لدى إسرائيل أي منهما. الأزمة الراهنة ليست أزمة مؤسسات فحسب بل أزمة معنى، فالكِيان الذي تأسس على فكرة “الشعب المختار” و”الجيش الذي لا يُقهر” يجد نفسه أمام مرآة تكشف هشاشته الأخلاقية، وجرائم الحرب في غزة وعمليات القتل الجماعي لم تعُد تمنح ردعًا ولا شرعية، بل زادت من عزلة إسرائيل وأضعفت قناعتها الداخلية بأنها الضحية، في الوقت الذي تتفاقم فيه الخسائر العسكرية والاقتصادية وتتزايد الاستقالات داخل الجيش وتتراجع الروح القتالية لأن الجنود أنفسهم فقدوا الإيمان بالقضية التي يقاتلون من أجلها.

أمام هذا المشهد يبرز سؤال مصيري: إسرائيل إلى أين؟ لم يعد السؤال كيف ننتصر في غزة بل من نحن وما الذي يجعلنا نُسمّى شعبًا واحدًا، فبين الحريديم والعلمانيين والمستوطنين وسكان تل أبيب والأشكناز والشرقيين تتعمق الشقوق، وما يزيد الطين بلّة أن القيادة السياسية تُصرّ على إدارة الصراع الداخلي بالتحريض والخوف لا بالحوار، حتى داخل المؤسسة الأمنية هناك قناعة متزايدة بأن استمرار الانقسام يُضعف الجيش ويهدد بقاء الدولة.

فكيف لجيشٍ يحتاج إلى آلاف الجنود أن يتوسع في حرب استنزاف على أكثر من جبهة؟ وكيف لقيادة غارقة في الفساد أن تحافظ على تماسك مجتمع يعيش على الحافة؟ السابع من أكتوبر لم يكن مجرد اختراق أمني بل انهيار بنيوي للثقة الداخلية، فالاحتلال قد يتحمل ضربة عسكرية لكنه لا يعيش طويلًا مع انهيار إيمانه بوحدته الداخلية، لقد كشفت المقاومة في ذلك اليوم أن العدو الذي يتفاخر بتماسكه هو في الحقيقة كيان مهزوز من الداخل، وأن الخطر الأكبر عليه ليس من صواريخ غزة بل من تناقضاته الوجودية، فكلما طالت الحرب زاد الشرخ وكلما ارتفعت فاتورة الدم تآكلت شرعية الدولة من داخلها.

أزمة تجنيد الحريديم ليست إلا مرآة تعكس مأزقًا أعمق، فإسرائيل اليوم تقاتل نفسها أكثر مما تقاتل أعداءها، والصراع بين السيف والتوراة وبين العلمانية والدين وبين المركز والمستوطنات هو الذي سيحدد مصيرها في السنوات القادمة، لقد أراد الصهاينة أن يصنعوا دولة تجمع يهود العالم فإذا بهم يصنعون فسيفساء متناقضة لا رابط بينها إلا الخوف، واليوم حين تراجعت هيبة الجيش وتهاوت أسطورة الردع لم يعد الخوف يكفي لربط هذا الكيان الهش، إن ما فعله السابع من أكتوبر أنه أزال الغطاء عن جرح قديم وفضح حقيقة أن إسرائيل لم تكن يومًا مجتمعًا متماسكًا بل مشروعًا سياسيًا مصطنعًا يعيش على القهر والدعاية، ومع كل أزمة داخلية جديدة يتأكد أن ساعة الانفجار الداخلي تقترب، وقد لا ينهار الكيان غدًا أو بعد عام، لكنه يسير حتمًا في طريق التآكل الذاتي، فالمجتمع الذي يتقاتل على من يحمل السلاح لا يمكن أن ينتصر في حرب وجودية طويلة، وهكذا يصبح أكتوبر ليس مجرد حدث في التاريخ بل بداية النهاية لمجتمع كُتب عليه أن يسقط من داخله قبل أن يهزمه أحد من خارجه.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025