اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان .. المضمون والسياقات والتحديات
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 5\3\2020
وقعت الولايات المتحدة الأميركية وحركة طالبان الأفغانية، في العاصمة القطرية الدوحة، في 29 شباط/ فبراير 2020، اتفاقًا يمهد الطريق أمام الانسحاب الكامل للقوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أفغانستان، بعد أكثر من 18 عامًا من الحرب والاحتلال. وجاء الاتفاق بعد مرور فترة أسبوع لـ "خفض العنف"، كان متفقًا عليها بين الطرفين. ووقع الاتفاق عن الجانب الأميركي مبعوثها الخاص إلى أفغانستان، السفير زلماي خليل زاد، بحضور وزير الخارجية، مايك بومبيو، في حين وقعه عن "طالبان" مسؤولها السياسي الملا عبد الغني برادار. في حين غابت الحكومة الأفغانية المدعومة من واشنطن عن المفاوضات وعن مراسم التوقيع.
توقيت الاتفاق
جرى التوصل إلى اتفاق السلام بين حركة طالبان وواشنطن، بعد أن تعثر توقيعه أكثر من مرة. ففي مطلع أيلول/ سبتمبر 2019، وقع الطرفان بالأحرف الأولى على مسودة اتفاق مبدئية، بعد تسع جولات من المفاوضات، لتخفيض الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان مقابل التزامات على "طالبان"، أهمها عدم توفير ملاذ آمن لتنظيماتٍ تعدّها الولايات المتحدة إرهابية كـ "القاعدة". ولكن الرئيس دونالد ترامب أعلن فجأة، في 9 أيلول/ سبتمبر 2019، إلغاء محادثاتٍ سرّيةٍ كان ينوي أن يجريها شخصيًا مع "طالبان" والرئيس الأفغاني أشرف غني، في منتجع كامب ديفيد الرئاسي، متذرّعًا بهجوم شنته الحركة قبل ذلك بيومين في كابول، أودى بحياة 12 شخصًا، أحدهم جندي أميركي. وبعد زيارةٍ مفاجئةٍ، قام بها إلى أفغانستان في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أعلن ترامب استئناف المفاوضات بين الطرفين، وذلك بعد أن أطلقت "طالبان" سراح أسيرين، أميركي وأسترالي، مقابل إفراج الحكومة الأفغانية عن ثلاثة من معتقليها. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2019، أعلنت الخارجية الأميركية استئناف المحادثات في الدوحة، غير أن المحادثات ما لبثت أن توقفت مرة أخرى في الشهر نفسه، بعد هجوم آخر شنته "طالبان"، إلى أن قرّر الطرفان أخيرًا توقيع الاتفاق في 29 شباط/ فبراير 2020.
مضمون الاتفاق
جاء اتفاق إحلال السلام في أفغانستان بين "إمارة أفغانستان الإسلامية" التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة بطالبان، وحكومة الولايات المتحدة، في أربع صفحات، واشتمل على أربعة أجزاء رئيسة، تحدّد شروطًا والتزاماتٍ متبادلة، تتعلق بجدولة سحب القوات الأجنبية، وقطع العلاقات مع التنظيمات التي تعتبرها واشنطن إرهابية، وتشكل تهديدًا لأمنها وأمن حلفائها، فضلًا عن إطلاق حوار أفغاني – أفغاني، للتوصل إلى حل سياسي، وتحقيق "وقف دائم وشامل لإطلاق النار". وقد أقرّت إدارة ترامب بأن ثمّة أجزاء غير معلنة في هذا الاتفاق، تتضمن "بعض الإجراءات السرية" لضمان تنفيذه والتحقق من ذلك. وتصر واشنطن على أنها ستوقف تنفيذ الاتفاق، في حال إخلال "طالبان" بأيٍّ من شروطه.
أما بنود (أجزاء) الاتفاق فهي كما يلي:
الأول، يشمل ضمانات وآليات إنفاذ الاتفاق التي من شأنها منع أي "مجموعة أو فرد" من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها.
الثاني، يعالج ضمانات وآليات سحب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان، والإعلان عن جدول زمني لذلك.
الثالث، يتعلق بالمفاوضات الأفغانية – الأفغانية، والتي ينبغي أن تنطلق في 10 آذار/ مارس 2020، بعد الإعلان عن البندين الأول والثاني.
الرابع، يشير إلى أن وقفًا دائمًا وشاملًا لإطلاق النار سيكون على جدول أعمال الحوار والمفاوضات بين الأفغان. ووفقًا لهذا البند، سيناقش المشاركون في المفاوضات موعد وقف إطلاق النار الدائم والشامل وأشكاله، بما في ذلك آليات التنفيذ المشتركة، والتي سيتم الإعلان عنها عند الاتفاق على خريطة الطريق السياسية المستقبلية لأفغانستان.
ويؤكد الاتفاق أن الأجزاء الأربعة مترابطة، وسيتم تنفيذ كل واحد منها وفقًا للجدول الزمني المحدد والشروط المتفق عليها. كما يشدّد الاتفاق على أن الجزأين، الأول والثاني، يمهدان الطريق للجزأين الثالث والرابع. وعلى الرغم من أن الاتفاق حدد أجزاءه الأربعة وعرّفها، فإنه يكتفي بإيراد تفاصيل حول كيفية تنفيذ الجزأين الأول والثاني فقط.
وفيما يخص تنفيذ الجزء الثاني، المتعلق بضمانات وآليات الإنفاذ والجدول الزمني لسحب القوات الأجنبية من أفغانستان، يشير الاتفاق إلى أن الولايات المتحدة تلتزم سحب كل قواتها العسكرية من أفغانستان وقوات حلفائها، "بما في ذلك جميع الموظفين المدنيين غير الدبلوماسيين، والمتعاقدين الأمنيين الخاصين، والمدربين والمستشارين وموظفي الخدمات الإسنادية في غضون 14 شهرًا من يوم الإعلان عن هذه الاتفاقية"، وفق الترتيبات التالية:
• تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها، خلال 135 يومًا، بتخفيض عدد القوات الأميركية في أفغانستان إلى 8600 جندي (من حوالي 13000 حاليًا)، وتخفيض عدد قوات التحالف بشكل متناسب. كما ستسحب الولايات المتحدة ودول التحالف كل قواتها من خمس قواعد عسكرية.
• تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها، بالتوازي مع تنفيذ طالبان التزاماتها المشار إليها في هذا الاتفاق، باستكمال سحب كل القوات المتبقية في أفغانستان، خلال الأشهر التسعة والنصف التالية من كل القواعد العسكرية المتبقية.
• تلتزم الولايات المتحدة البدء فورًا بالعمل مع كل الأطراف المعنية على خطةٍ للإفراج بسرعة عن المقاتلين والسجناء السياسيين، كأحد تدابير بناء الثقة. ويشير الاتفاق إلى أنه سيتم إطلاق سراح ما يصل إلى 5000 أسير من "طالبان" تعتقلهم الحكومة الأفغانية، وتطلق "طالبان" ما يصل إلى 1000 أسير للحكومة بحلول 10 آذار/ مارس 2020، والذي يفترض أن يكون يوم انطلاق المفاوضات الأفغانية - الأفغانية، على أن يتم الإفراج عن كل السجناء المتبقين خلال الأشهر الثلاثة التالية. ويشدد الاتفاق على أن "طالبان" ملزمة بأن لا يشكل سجناؤها المفرج عنهم تهديدًا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها.
• مع بدء المفاوضات الأفغانية - الأفغانية، تشرع الولايات المتحدة في مراجعة عقوباتها الحالية وقائمة المكافآت التي تعرضها مقابل الإدلاء بمعلومات عن أعضاء في طالبان. وسيكون يوم 27 آب/ أغسطس 2020 هو اليوم المفترض لإزالة هذه العقوبات.
• تمتنع الولايات المتحدة وحلفاؤها عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأفغانستان أو التدخل في شؤونها الداخلية.
أما عن تطبيق الجزء الأول، المتعلق بضمانات وآليات إنفاذ الاتفاق التي من شأنها منع أي "مجموعة أو فرد" من استخدام الأراضي الأفغانية في تهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها، فإن الخطة تحدد النقاط التالية:
• تلتزم "طالبان" عدم السماح لأي من أعضائها أو "لأفراد وجماعات أخرى، بما في ذلك تنظيم القاعدة"، من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها.
• ترسل "طالبان" رسالة واضحة مفادها بأن أولئك الذين يشكلون تهديدًا لأمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها ليس لهم مكان في أفغانستان. وستأمر "طالبان" أعضاءها بعدم التعاون مع هؤلاء الأفراد والجماعات.
• تمنع "طالبان" أي مجموعة أو فرد في أفغانستان من تهديد الأمن الأميركي وأمن الحلفاء، كما تمنعهم من التجنيد والتدريب وجمع الأموال، وتمنع توفير ملاذ آمن لهم، وفقًا للالتزامات الواردة في هذا الاتفاق.
• تلتزم "طالبان" التعامل مع طالبي اللجوء أو الإقامة في أفغانستان، وفقًا لقانون الهجرة الدولي والتزامات هذا الاتفاق، بحيث لا يشكل هؤلاء تهديدًا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها.
• تمتنع "طالبان" عن إعطاء تأشيرات أو جوازات سفر أو أي مستندات قانونية لمن يشكلون تهديدًا لأمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها.
وينتهي الاتفاق بتأكيد النقاط التالية:
• ستطلب الولايات المتحدة من مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة الاعتراف بهذا الاتفاق ودعمه.
• ستسعى الولايات المتحدة وحركة طالبان إلى إقامة علاقات مشتركة إيجابية، كما تتوقعان أن تكون العلاقة بين الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية التي ستُشكّل بعد التسوية بين الأطراف الأفغانية إيجابية كذلك.
• ستتعاون الولايات المتحدة اقتصاديًا مع الحكومة الأفغانية الجديدة، من أجل إعادة البناء، وستمتنع عن التدخل في شؤون البلاد الداخلية.
أسباب الحماسة الأميركية
مثلت أفغانستان مصدر قلق دائم للولايات المتحدة، منذ غزتها إدارة جورج بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. فمع نهاية حكم بوش مطلع عام 2009، كان ثمّة حوالى 68000 جندي أميركي على الأرض الأفغانية. وفي عام 2010، اضطر الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي كان وعد في حملته الانتخابية بإنهاء التورط الأميركي في حروبٍ خارجيةٍ مكلفة، إلى رفع العدد إلى 100000، من جرّاء تصاعد عمليات طالبان. وفي العام نفسه، بدأت إدارة أوباما اتصالات مع قادة في الحركة استمرت طوال عامي 2011 و2012، ولكن لم ينجم عنها اتفاق. وفي عام 2011، بدأت إدارة أوباما في تخفيض القوات الأميركية هناك، بحيث وصل عددها بحلول عام 2017 إلى 8400 جندي. ولكن إدارة ترامب أرسلت تعزيزات من 3000 جندي في العام نفسه جرّاء تصاعد العنف. كما أنه من أصل 3500 جندي من قوات حلف الناتو قتلوا في أفغانستان ثمة 2400 جندي أميركي. وكلفت الحرب الولايات المتحدة قرابة تريليوني دولار. وبعد أكثر من 18 عامًا من الحرب، تسيطر "طالبان" على نحو 40% من مساحة البلاد، في حين أن الحكومة الأفغانية، المدعومة أميركيًا والمعترف بها دوليًا، ما زالت عاجزة عن حماية نفسها في غياب الوجود العسكري الغربي. ووفقًا لمسؤول أميركي، فإن الصراع في أفغانستان الذي وصل إلى "حالة من الجمود الاستراتيجي"، يستنزف الولايات المتحدة.
ولم يخف الرئيس ترامب، منذ كان مرشحًا للرئاسة عام 2016، رغبته في سحب القوات الأميركية مما أسماها "الحرب بلا نهاية" في أفغانستان. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية أواخر العام الجاري، يجد نفسه مضطرًا إلى أن يثبت أنه يفي بوعوده والتزاماته؛ وهو ما انعكس في بيان البيت الأبيض بعد توقيع الاتفاق من أن "الرئيس ترامب يفي بوعده بإعادة قواتنا إلى الوطن من الحروب التي لا تنتهي في الخارج من خلال العمل من أجل السلام في أفغانستان". وعلاوة على ذلك، يبحث ترامب عن إنجاز يستطيع أن يدعيه في السياسة الخارجية، وخصوصًا أنه فشل في تحقيق ذلك في كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران، وغير ذلك من الملفات.
عقبات في طريق الاتفاق
طبع التفاؤل تصريحات الطرفين خلال مراسم التوقيع على الاتفاق، ولكن العقبات التي تعترض طريقه كثيرة، أهمها فجوة الثقة الواسعة بين "طالبان" والحكومة الأفغانية، وخشية المجتمع المدني في أفغانستان على منجزاتٍ تحققت في ظل الاحتلال، إضافة إلى إصرار "طالبان" على استخدام تسمية "إمارة أفغانستان الإسلامية" حتى في الاتفاق، ولذلك أصر الطرف الأميركي على إضافة عبارة "التي لا تعترف بها الولايات المتحدة".
وقد تنصل الرئيس غني من أي تعهد بالإفراج عن 5000 سجين لحركة طالبان، قبل بداية المفاوضات بين الطرفين. كما أن الحكومة الأفغانية ليست طرفًا في المفاوضات بين واشنطن و"طالبان"، ولا في الاتفاق. ولتجاوز هذا التعقيد، حرصت واشنطن على إيفاد وزير الدفاع مارك إسبر إلى كابول للقاء الرئيس الأفغاني، وأصدر الطرفان بالتزامن مع التوقيع على اتفاق الدوحة "الإعلان المشترك بين جمهورية أفغانستان الإسلامية والولايات المتحدة الأميركية لإحلال السلام في أفغانستان". وأكد "الإعلان"، من حيث المبدأ، بنود الاتفاق مع طالبان نفسها، مع التشديد على "التزام الولايات المتحدة بدعم قوات الأمن الأفغانية والمؤسسات الحكومية الأخرى، بما في ذلك من خلال الجهود المستمرة لتعزيز قدرة قوات الأمن الأفغانية على التصدّي للتهديدات الداخلية والخارجية والاستجابة لها".
ويتمثل التحدّي الثاني، الذي قد يعوق تطبيق الاتفاق، في الأزمة السياسية التي تواجهها كابول حاليًا؛ إذ يرفض عبد الله عبد الله، النائب السابق للرئيس أشرف غني ومنافسه في انتخابات أيلول/ سبتمبر 2019، إلى الآن، الاعتراف بهزيمته في الانتخابات، ويصرّ على أنه الرئيس الشرعي. أما التحدّي الثالث، فيتعلق بحركة طالبان نفسها، إذ يبدو أن ثمّة أطرافًا في الحركة ترفض الاتفاق، وغير مستعدّة للتخلي عن تحالفها مع القاعدة. والتحدّي الرابع أميركي؛ إذ ينص الاتفاق، في أحد بنوده، على أن تعمل الولايات المتحدة على رفع العقوبات عن حركة طالبان وأعضائها، ولكن قيادة "طالبان" الحالية تضم شبكة حقاني، المصنفة أميركيًا مجموعةً إرهابية، ويشغل زعيم الشبكة، سراج الدين حقاني، منصب نائب زعيم "طالبان".
ولكن كل هذه العقبات قد لا تكون كافية لإفشال الاتفاق؛ ذلك أن للطرفين مصالح معتبرة تجنيها من نجاحه، فالولايات المتحدة باتت تريد الخروج من مأزق أفغانستان بكل السبل، في حين أن من شأن خروج القوات الأجنبية جعل "طالبان" القوة الأولى في البلاد، وربما يمكنها العودة إلى حكمها من جديد.