الشهيد كمال أبو وعر والشرشف الأبيض
هل هناك في مدفن الاحياء من ينتظر هذا الشرشف؟! ( شهادة حيّة )
لي قصة كشاهد حيّ على مدفن الأحياء أودّ أن أدلي بشهادتي في هذه العجالة، فالغارقون في بحر الألم والمدفونون في مدفن الاحياء، لا يمكن أن نرسم صورتهم أو ننقل للناس صوت آلامهم وآمالهم، بحروف الكلم مهما وصلت درجة بلاغته.
كانت بداية قصتي عندما ظفرت بصورة أشعة بعد سنتين من الانتظار، حمّلوني كبضاعة بشرية في بوسطة العذاب الى مدفن الاحياء المسمّى ظلما وزورا مشفى الرملة، توقّعت أن أرى مشفيا ولو بالشكل ولكني صدمت عندما وجدت سجنا بكلّ أركانه، غرف ضيقة مكتظة مغلقة، أغلال وإيقاع بطيء للحركة، وتفتيشات وممارسة عادة العدد سيء الصيت والسمعة وإجراءات أمنية مشدّدة وقاسية حسب متطلبات هوسهم الأمني القاتل، والادهى وأمرّ أن هذا الذي يقدّم حبّة الدواء هو ذاته الذي يأتي مدججا بأدوات القمع من غاز وعصي كهربائية وهو الذي يُدعى:" حوفيش: سجّان محترف عادة ما يجمع بين دور الاستخبارات ومهمة الممرّض معا" ، في حينها شكى لي سكان هذا المدفن أن ما تكتبه الصحافة عنهم معلومات وأخبار مجرّدة من ان يشعر من يقرؤها أن صاحبها انسان يمتلك مشاعر وطموح وآمال وله عائلة وأبناء وأم وزوجة تنبض قلوبهم مع قلب ابنهم او ابنتهم المريض أو المريضة في السجون.
فكتبت كتابا اسميته مدفن الاحياء وقد شكّل صدمة في حينها، أن يعلم الناس أن هناك بشر بكل هذه القسوة يتعاملون مع مرضى بعيدا عن كل الانسانيات وأخلاق المهنة، من خلال شواهد حية كانت في حينها هناك، تكلمت باسمها، بلحمها ودمها وبعض مشاعرها التي تمكّنت من اصطيادها بقلمي الصغير، كان ذلك قبل واحد وعشرين عاما سنة 1999 وكان الشاهد الاوّل هو المعتقل المؤبد الذي سار الى شهادته من هناك، الشهيد محمد أبو هدوان، ومن غرائب الأمور أني فيما بعد وبعد أن أطلق سراحي عام 2002 وفي أوّل زيارة تمكنت بها من الوصول الى المسجد الأقصى في أول رمضان بعد حبسة قوامها 12 سنة ، كنت أغذّ السير وأشواقي تسابقني بعد هذا الحرمان الطويل من هذا المسجد العشيق، صدمتني صورة بوستر معلّق على الجدران في طريق باب الواد، أمعنت النظر في الصورة فإذا بها صورة الشاهد الأول من مدفن الاحياء محمد أبو هدوان، ظننت أنهم قد أطلقوا سراحه ليعانق الموت خارج السجن بين بنيه من كثرة الامراض المستوطنة في جسده المنهك، اقتربت من البوستر فإذا به الإعلان عن الشهادة لأسير قد عانق الشهادة داخل السجن، توقّفت وقطعت مشاعر أشواقي للمسجد الأقصى وعرّجت على بيتهم القريب من المسجد، سلّمت وجلست وكانت المفاجأة الثانية أن وجدت كتاب مدفن الاحياء بين أيدي الناس وعلى الطاولات في بيت العزاء، عرفت على نفسي ككاتب لهذا الكتاب وكاخ وصديق ورفيق السجن للشهيد رحمه الله، انهالت الأسئلة علي لأدرك كم هو مهم أن يقف الناس على حجم الجريمة التي يمارسها السجان الصهيوني على أسرانا بكل أبعادها. ومن ثم قمنا بتحويل هذا الكتاب الى فيلم سينمائي قصير( فاز في مسابقة جائزة الحرية عام 2016) وقد ترجم الى الإنجليزية ليعرض في دول كثيرة وليسهم في إيصال رسالة الاسرى المرضى وحقيقة معاناتهم وأن له أن يزن ولو قليلا من وزن آلامهم الثقيل.
وقد ثبت بأدلّة قاطعة أن هناك شركات أدوية إسرائيلية تجعل من أسرانا المرضى مختبر تجارب لأدويتهم وقد شرعنت ذلك محكمتهم التي تسمّى عليا ضاربة بعرض الحائط كلّ القوانين الدولية التي لا تسمح بإجراء اية تجربة الّا بمواقفة المجرّب عليه، وطالبت عضو حزب العمل "داليا ايتسيك" في الكنيست باجراء تحقيق بهذا الخصوص، وثبت أيضا أن تشخيص المرض في السجون يستغرق وقتا طويلا مما يسمح بتفشّيه واستعصائه على العلاج، وكذلك فإن الأوضاع المعيشية بيئة خصبة لانتشار الأوبئة والامراض منها:
• الاكتظاظ والحرمان من التهوية المناسبة.
• الحرمان من الاكل الصحي من حيث النوع والكمّ حيث يأتون بزبالة الخضروات واللحوم المجمّدة الفاسدة، وكثير منها ما يصل السجون والعفن ظاهر عليه.
• والحجز في أماكن تتعرض للبرد الشديد في الشتاء دون وجود وسائل تدفئة كما في نفحة والنقب والحرارة الشديدة في الصيف.
• وما يتعرض اليه الاسرى من قمع يستخدم فيه الغاز بكميات مبالغ فيها عدا عن النوع القاتل منها مما ولّد أمراض صدرية مزمنة .
• وكذلك أجهزة التشويش المنتشرة في السجون والتي ضاعفت مرضى السرطان.
• وكذلك الإهمال المتعمّد بخصوص الإجراءات الأخيرة لوباء الكورونا مما أدى الى إصابة كمال أبو وعر رغم أنه مريض بالسرطان والمفترض ان يكون في غاية الاحتياطات اللازمة وعلى الرغم أيضا انه والاسرى في مكان محصور ومحجور اصلا بحكم الوجود في السجن.
• وهناك أيضا من تسبّب قمعهم بأمراض وعاهات مزمنة نتيجة توحشّهم وافراطهم في التنكيل وافراغ أحقادهم في أسرى عزّل ومقيّدين بالأيدي والارجل والذي تجلّى على صعيد المثال في قمع قسم 3 في النقب عام 2019 حيث سالت الدماء غزيرة في ساحة السجن وفتحت الاخاديد في رؤوس المعتقلين وتركوا تشوهات في الوجوه وتكسير الاسنان بطريقة غير مسبوقة.
• هذا كله مقدمات تضرب كل شكل من أشكال الوقاية أو المناعة للامراض أما إذا وقع الأسير في مرض عندها تبدأ رحلة الالام المرّة من بطء شديد في التشخيص ثم تجربة عدة أدوية قبل الوصول الى الدواء المناسب وهنا نذكر مرمرة من يحتاج مرضهم الى عمليات جراحية وفتح غرفة عمليات كساحة تدريب وهناك شهادة موثقة بعملية دودة زائدة من غير تخدير.
• وهنا لا بدّ وأن نذكر كيف تستخدم مخابراتهم الضغط على آلام الأسير الجريح وابتزازه بمبادلة العلاج وإعطاء مسكنات الألم مقابل الاعتراف.
• كذلك من يقع ضحية تعذيبهم القاسي في أقبية التحقيق ثم لا يسعفه علاجهم فيرتقي شهيدا مثل خالد الشيخ وعبد الصمد حريزات والقائمة طويلة.
• وهناك من استشهدوا في الاضراب المفتوح عن الطعام بالقتل المتعمد بإدخال الطعام القسري وتركهم يموتون دون علاج مثل راسم أبو حلاوة وعلي الجعفري.
الشهيد كمال أبو وعر تعرّض لكل هذا كمعتقل، ومن المنطقي جدا (بناء على هذه الخلفية الواقعية) هنا أن تُفتح أسئلة كثيرة حول مرضه بالسرطان أوّلا كيف كان، أسبابه الحقيقية، وعن طريقة تشخيصه ثم السبيل الذي سلكوه في علاجه، ثم تاتي الأسئلة حول وصول وباء الكورونا اليه وهو مريض يلفّه الخطر من كل جانب فلماذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة لوقايته منه؟ إن فتح تحقيق من جهة محايدة سيكشف حجم الجريمة، وسنجد أن كثيرا من مرضى الحركة الاسيرة الشهداء دفنوا ودفنت أسرارهم معهم:
هناك مشهد جنائزي في غاية الالم مكرّر يعهده الاسرى القدامى جيّدا عندما يخرج الأسير الى العيادة ثم يُطلب منهم شرشفا أبيضا فيعلم الاسرى بذلك أن أسيرهم قد ارتقى شهيدا، شهدت ذلك عندما خرج يحيى الناطور الى العيادة وقد كانوا يشيعون أن آلامه التي يشكوا منها هي وهم وانعكاس لمرض نفسي ولكنهم في المرّة الأخيرة عادوا ليطلبوا الشرشف الأبيض، المسن رزق العرعير الذي تبقى من حبسته السبع وعشرين سنة ستة شهور فأبوا الى أن يعملوا له عملية قلب مفتوح بعد سنوات طويلة من المعاناة، عاد وقد نجحت العملية ثم خرج الى العيادة في اليوم التالي ليطلبوا الشرشف الأبيض بعد دقائق، هناك 225 اسيرا ارتقوا شهداء وهم في الاسر قد ألبسوهم هذا الشرشف، وهناك من ينتظر دوره لاستلام هذا الشرشف، تلفّهم أسئلة كثيرة لا يستطيع الاحتلال الإجابة عنها سوى التوحّش والانتهاك الصارخ لمعاهدة جنيف الخاصة بالاسرى والتي تضربها دولة الاحتلال بعرض الحائط بصورة مستمرة ومتواصلة منذ قام هذا الاحتلال.
ما الحل وكيف يواجه الفلسطينيون هذه المأساة المفتوحة وهذا التوحش الذي يبدو أنه لا حدود له ولا نهاية ؟
لقد عُقدت لقاءات ثقافية بهدف تحريك الاهتمام بأسرانا المرضى وتم عقد ورشات عمل ومؤتمرات وكانت التوصيات هامة للغاية منها متابعة هذه الجريمة في الاعلام الدولي الخارجي وطرق بوابات المحاكم الجنائية الدولية والإنتاج الفني الذي يخترق الفضاء العالمي وعالم الشعور الإنساني وللأسف لغاية اليوم لم تحدث المتابعة اللازمة الا في حدود متواضعة لا تبلغ عشر ما يروّج أعداؤنا لباطلهم الذي يجعلوا منه قضية مركزية عالمية تنال مساحات واسعة من الاهتمام العالمي.
لم تتابع لغاية الان أية حالة وفاة واحدة حتى النهاية نتيجة هذا الإهمال الطبي المتعمد مما دفع الشهيد ليقول: لا تقولوا أني من ضحايا الإهمال الطبي بل قولوا من ضحايا الإهمال الوطني، لقد علقنا الجرس وبقينا نراوح مكاننا دون أن نخطوا خطوات جوهرية نحو عالمية هذا الاجرام، لقد شيطنوا داعش عالميا خلال أيام معدودة، وإن فعل هؤلاء هو اشدّ توحشا من داعش، فقط نحتاج الى خطاب عالمي يرتقي لمستوى هذه الجرائم مع جهود حقوقية على الساحة الدولية وهذا أضعف الايمان ونحتاج أيضا الى ما يجعل لإنساننا وزنا أكثر من وزنهم لإنسانهم في عنصريتهم السوداء.