التراكيبُ الاجتماعية في الظواهر الثقافية تُمثِّل أنظمةً جَوهريةً إنسانيةً، تستطيع تفسيرَ الطبيعة الرمزية لمصادر المعرفة، وتَقْدِر على تحليل الإدراك والوَعْي، ورَبْطهما بالتجارب الحياتية التي تقوم على التَّأمُّل في ماهيَّةِ الأشياء، وطبيعةِ النَّفْس البشرية، مِن أجل اكتشافِ المعاني المجهولة في الأشياء، والتنقيبِ عن الأحلام المدفونة في الذات.
وإذا كان الفردُ يكتسب خِبرته الوجودية من الواقع المُتَشَكِّل شُعوريًّا وماديًّا، ويُعبِّر عن فلسفته الشخصية مِن خلال تاريخه المُتَشَكِّل زمنيًّا ومكانيًّا، فإنَّ المجتمع يكتسب شرعيته الحضارية مِن قُدرته على صياغة المعرفة، وبناءِ مسار منطقي يَصِل بين الذات والموضوع مِن جِهة، وبين مُكوَّنات الوَعْي ومُعطيات الشُّعور مِن جِهة أُخرى، وهذا يَمنح المجتمعَ القُدرةَ على التعبيرِ عن السلوك الإنساني، واشتقاقِ القوانين التي تتحكَّم بطبيعته اعتمادًا على الظواهر الثقافية والتجارب الوجدانية والدَّلالات اللغوية.
وفي هذا السياق، يجب التفريق بين قواعد المنهج الاجتماعي التي تُوضِّح الروابطَ القائمة بين الظواهر الثقافية وأسبابها، وبين قواعد السلوك الإنساني التي تُبيِّن طريقةَ التفكير في الظواهر الثقافية، وضرورةَ التَّأمُّل في أسبابها الباطنية. وهذا التفريق مِن شأنه تسهيل عملية توظيف الأنساق الثقافية في البناء الاجتماعي، وتحديد أبعاد المكانة الأخلاقية المركزية للفرد في الفلسفة الحياتية، لَيس باعتبارها محاولة لمعرفة العَالَم وتفسير المجتمع فَحَسْب، بَلْ أيضًا باعتبارها آلِيَّةً لتفكيك انعكاسات المعرفة من أجل فَهْمها، وأداةً لإعادة صَهْر العناصر الإبداعية المنسية في نسيج المجتمع مِن أجل النهوض به .
الرابطةُ المصيرية بين البُنية الاجتماعية والبُنية الثقافية لا يُمكن أن تظل مُتماسكةً وفَعَّالَةً إلا إذا نَجَحَ الفردُ في رَدْم الفَجْوة المعرفية بين الواقع والوَعْي. ولا يَكفي أن يكون هناك وَعْي بالواقع، لأنَّ العِبرة تتجلَّى بوجود وَعْي بأهمية تغيير الواقع. وإذا كان الفردُ لا يَستطيع تغييرَ الوقائعِ التاريخية والأحداثِ اليومية، فإنَّه يَستطيع الاستفادةَ مِنها في صناعة نظام عقلاني يُوازن بين مسار الفرد في الحياة، ومصيرِ المجتمع في التاريخ.
وأهميةُ النظام العقلاني في المجتمع والتاريخ تتَّضح في عملية بناء الإرادة الحُرَّة على قاعدة المسؤولية الأخلاقية. وغيابُ الإرادة يَعني انهٍيارَ كَينونة الفرد، وغيابُ الحُرِّية يَعني انهيارَ كِيَان المُجتمع، وغِيابُ الأخلاق يَعني انهيارَ ماهيَّة الحضارة. وهذه الانهياراتُ تَمنع الفردَ مِن اكتساب المعرفة، وتَمنع المجتمعَ مِن حُرِّية التعبير، وتَمنع الحضارةَ مِن تجديد ذاتها. وبذلك تَفقد اللغةُ قُدرتها على صناعة بُنية تواصلية فعَّالة، فتموت الأفكارُ في مَهْدها، ولا تنتشر المعرفةُ داخل النسيج الاجتماعي. ومِن أجل حماية شرعية الوجود الإنساني من هذه الانهيارات، لا بُد مِن تطوير المعرفة بحيث تُحقِّق المصلحةَ الشخصية والمنفعةَ العَامَّة. وعندئذٍ، سَيُدَافِع الفردُ والمجتمعُ عن المعرفة باعتبارها نظامًا وجوديًّا شرعيًّا، ولَيس ترفًا فكريًّا زائدًا عن الحاجة. والنظامُ الوجودي لا يكون شرعيًّا إلا إذا قام على الحياة والحُرِّية معًا .
إذا صارت الثقافةُ مُجتمعًا معرفيًّا ودَلالةً وُجوديةً، وصار المُجتمعُ نظامًا ثقافيًّا ودَليلًا إبداعيًّا، فإنَّ الأحداث اليومية سَتَقُود الفردَ إلى صناعة المعرفة، وتَوظيفها معنويًّا وماديًّا للتغلُّب على الحواجز الزمنية والقُيود المكانية، وهذا يعني وجود خِيارات حياتية مُتَنَوِّعَة أمام الفرد، فلا يَنحصر في الزاوية الضَّيقة، ووجود طُرُق فِكرية مُتَعَدِّدَة أمام المجتمع، فلا يُحَاصَر في الطريق المسدود.
والفردُ الحُرُّ هو الوُجودُ الحَيُّ الذي نَجَحَ في الانعتاق مِن أَسْرِ اللحظة الآنِيَّة، والإفلاتِ مِن العُقَد النَّفْسِيَّة المُسيطرة على الفِعل الاجتماعي. والمُجتمعُ الحُرُّ هو التاريخُ الحَيُّ الذي نَجَحَ في الانعتاق مِن سَيطرةِ الوَعْي الزائف ، والإفلاتِ مِن المُسلَّمات الافتراضية المُهيمنة على الفاعلية التنظيمية.
وإذا تكرَّست الحياةُ كأساس للحُرِّية، وتكرَّست الحريةُ كتأسيس للحياة، فإنَّ الوَعْي الاجتماعي سَيُصبح وسيلةً لنقلِ الأفكار وتبادلها، وتنظيمِ المعرفة وتَوظيفها. وهذا التَّوظيفُ يتطلَّب إعادةَ تَكوين المفاهيم المُسْتَخْدَمَة في سِياقات الهُوِيَّة الإبداعية، التي تنتقل مِن الدَّلالة إلى المَدلول، ومِن المعرفة إلى الابتكار.