1
المعنى الحقيقي للكَينونة الإنسانية يتجلَّى في الرموز اللغوية التي تنعكس على الأنساق الاجتماعية، ويتحدَّد في الإشارات الفكرية التي تمتد في الوَعْي والإدراك وظواهر التاريخ.
وإذا كانت ظواهرُ التاريخِ معاييرَ قَصْدِيَّةً قائمةً على سياسة الفِعل الاجتماعي، فإنَّ الكَينونةَ الإنسانيةَ منظومةٌ معرفيةٌ قائمةٌ على إفرازات الهُوِيَّة الوجودية. والمعاييرُ القصدية والمنظومةُ المعرفية تُشَكِّلان معًا طبيعةَ سُلطةِ المجتمع وتحوُّلاتها في الأنظمةِ الثقافية، والعلاقاتِ الاجتماعية، والمصالحِ الشخصية، والمنافعِ العَامَّة.
وكما أنَّ سُلطة المُجتمع ترتبط باللغة معنًى ومبنًى، كذلك سُلطة اللغة ترتبط بالمجتمع نظامًا ومنظومةً.
ووفق هذه العلاقة التبادلية تتحدَّد التأثيراتُ الاجتماعية في اللغة، وتتشكَّل التفاعلاتُ اللغوية في المجتمع.
والكَينونةُ الإنسانيةُ لا تُولَد في الفراغ، ولا تتكوَّن مِن عناصر اجتماعية مُتنافرة، وإنَّما تُولَد في البُنية المعرفية العابرة لحدود الزمان والمكان، وتتكوَّن مِن مجموعة الروابط العقلانية بين الكِيَاناتِ الاجتماعيةِ المُتجانسةِ في الأنظمة الثقافية، والفاعلةِ في الأحداث اليومية، والمُتفاعلةِ مَعَ النسيج المُعَقَّد مِن الأدواتِ المعرفية وآلِيَّاتِ تأويلها وتوظيفها.
وهذا النسيجُ المُعَقَّد يتغيَّر بشكل دائم اعتمادًا على العوامل الاجتماعية التي تَستنبط القوانينَ الوجوديةَ التي تَحْكُم علاقةَ الفرد بالجماعة، وعلاقةَ الجماعة بالطبيعة، وتتحكَّم بالروابط المنطقية التي تُعزِّز حيويةَ الأنساق الوجودية، وتُطوِّر الإحساسَ بالمصير المشترك، الذي يَدفع الأفرادَ إلى تشكيلِ شخصية المُجتمع، وتَكوينِ هُويته، وبناءِ كِيَانه، وترسيخِ سُلطته.
وهذه السُّلطة غَير مُستمدة مِن سياسةِ الأمر الواقع، والنتائجِ المُعَدَّة سَلَفًا، وإنَّما مُستمدةٌ مِن العقلِ الجَمْعي باعتباره مشروعًا للخَلاص، وناتجةٌ عَن الثقافة الشاملة باعتبارها مشروعيةً لتجذيرِ التجانس في البُنى الوظيفية الاجتماعية، ومنعِ التعارض بين هُوية المجتمع المعرفية وماهية الفرد الأخلاقية.
2
المسارُ الواصلُ بين الكَينونة الإنسانية وسُلطة المجتمع له امتدادات في ظواهر التاريخ، التي يُعاد تشكيلها باستمرار، ويتم توظيفها في الأنساق الفكرية التي تَكشف مراحلَ التَّطوُّر الثقافي، ومصادرَ المعرفة، والتسلسلَ الهَرَمي الاجتماعي.
والتاريخُ لَيس كُتلةً جامدةً، أوْ مُعطى نهائيًّا، بَلْ هو تُراث فِكري ونَفْسِي يتولَّد مِن الأسئلة المصيرية، ويتكاثر في الثقافات الإنسانية، ويتماهى معَ آلِيَّات التأويل المُختلفة.
وكُلُّ عُنصر اجتماعي له تاريخُه الخاص، وكُلُّ بُنية معرفية زمكانية ( زمنية _ مكانية ) لها تاريخُها الخاص، وهذا يعني أنَّ التاريخ عبارة عن تواريخ مُتعدِّدة، والزمان والمكان عبارة عن أحلام فردية مُتَشَظِّيَة، وطُموحات جماعية مُبعثرة.
والنظامُ العقلاني في بُنية التاريخ المركزية يقوم على ثلاثة أركان: إلغاء الفَوضى الفكرية، واستئصال المصالح الشخصية الضَّيقة، واجتثاث الاضطرابات النَّفْسِيَّة. فالفَوضى الفكرية تَجعل التاريخَ فلسفةً جَبْرِيَّةً لا رابط بين عناصرها، والمصالحُ الشخصية الضَّيقة تَجعل التاريخَ كِيَانات عبثية لا أسباب لقيامها، والاضطراباتُ النَّفْسِيَّة تَجعل التاريخَ متاهةً مِن المرايا المُتعاكسة التي تُظْهِر صُوَرَ الأفراد والجماعات بعيدًا عن الأصل.
ولا يَخفى أنَّ صُورة الإنسان في المِرْآة لَيْسَتْ هي حقيقةَ الإنسان.
3
الرموزُ اللغويةُ هي القُوَّة الدافعة للتَّطوُّر الثقافي الذي يُؤَثِّر في أساليب الحياة، والمُحتوى المعلوماتي، وتَنَوُّعِ الهُوِيَّات الوجودية، وأنماطِ الحياة الواقعية.ومعَ هذا، فالرموز اللغوية لا تقوم بذاتها، ولا تستقل بحقيقتها، وإنَّما تقوم بالفِعل الاجتماعي، وتستمد حقيقتها مِنه، وهذا يُساهم في تحرير الواقع المُعَاش مِن حسابات الهَيْمَنة والمصلحة. وبالتالي، تنبثق سياسةٌ جديدة تتعلَّق باللغة في تَجَلِّياتها الاجتماعية، وتأثيراتها الواقعية، وانعكاساتها التاريخية.
ودَلالةُ السياسةِ اللغويةِ -منطوقًا ومفهومًا- تَكمُن في العلاقة بين الفِعل الاجتماعي المحكوم والإنسان الحاكم على ماهيَّة هذا الفِعل.
وكما أنَّه لا تُوجَد سياسة لُغوية بلا دَلالة، كذلك لا تُوجَد سُلطة اجتماعية بلا فِعل.
وثُبُوتُ الفِكر العقلاني في المجتمع يَعني ثُبوتَ لوازمه، والدَّليلُ لا يَنفصل عَن الدَّلالة، والطريقُ لا يَفترق عن الطريقة. وهذا يعني أنَّ اللغة مُتداخلة مع طبيعة الفِعل الاجتماعي الواعي، ومُندمجة معَ السلوك الإنساني القَصْدِي، وأنَّ اللغة هي التجسيد الشرعي للكَينونة الإنسانية في ظواهر التاريخ والأنظمة الثقافية.