بقلم: إبراهيم أبو عواد
التحولاتُ التاريخية في البُنى الاجتماعية لا تنفصل عن التغيُّرات في السلوك الإنساني، الذي يتداخل معَ الأحداثِ اليومية، والظواهرِ الثقافية، وهذا التداخلُ يُؤَسِّس رُؤيةً فلسفيةً تَكشِف مصادرَ المعرفة داخل طبيعة اللغة التي تنعكس على علاقة الفرد بالجماعة، وتَكشِف أبعادَ السُّلطة الحياتية في تاريخ المجتمع، باعتباره وَعْيًا يتجسَّد في سياسة البناء الحضاري. وإذا كانت السِّياساتُ تُولَد مِن رَحِم السُّلطة، فإنَّ العلاقات تُولَد مِن رَحِم اللغة. والوجودُ الإنساني هو القادر على دَمْجِ السُّلطة باللغة، وإنتاجِ الأفكار التي تَعمل على توليدِ السِّياسات والعلاقات بشكل مُستمر، وتحديدِ المسار الفاصل بين جَوهر الذات وماهيَّة الصِّفَات، أي: بَين الكِيَان الإنساني وحالاته المُختلفة في الوَعْي والشُّعور والإدراك، وهذا يعني أنَّ الكِيَان الإنساني لَيس شيئًا ثابتًا لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وإنَّما هو كِيَانات مُتَعَدِّدَة تشتمل على هُوِيَّات اجتماعية مُتَنَوِّعَة، وكُلُّ فِكرةٍ تُنتِج هُوِيَّتَها الوجودية الخاصَّة بها، وكُلُّ حالةٍ تَصنع إطارَها المعرفي المُتَعَلِّق بها. وينبغي أن يكون الحُكْمُ على الفرد والمجتمع قائمًا على اللحظة الزمنية الآنِيَّة، والشرطِ التاريخي الحالي، فلا يُحكَم على الماضي بمقاييس الحاضر، ولا يُحكَم على الحاضر بمعايير المُستقبل، والفردُ ابنُ وقته وبيئته (الطبيعة الزمنية والمكانية)، والمُجتمعُ نَتَاجُ تاريخه (الطبيعة الوجودية والشرعية).
لا يُمكن تحليل السياسات المُتَحَكِّمَة بمصير المُجتمع إلا بفصل الفكر الإنساني عَن النَّزْعَة المثالية الخيالية، ولا يُمكن تفكيك العلاقات المُسيطرة على مصلحة الفرد إلا بفصل حاجات الجسد عن حاجات الروح. وهذه الثنائيةُ (تحليل السياسات/ تفكيك العلاقات) هي القاعدة الأساسية التي يقوم عليها المنهجُ الاجتماعي في النَّقْد والنَّقْض، ومِن شأنها أن تَستحضر الصَّيرورةَ التاريخية في الخِطَاب والمُمَارَسَة، وتُؤكِّد على الرابطة الوثيقة بين العَقْلِ الجَمْعي والعناصرِ المَكبوتة فيه. ووظيفةُ الظواهر الثقافية هي رَصْدُ آثار الكَبْت المعنوي في فلسفة المجتمع، باعتبارها طريقًا للخَلاص الواقعي، وطريقةً للتأويل اللغوي، وتحريرُ هذه الآثار مِن سُلطة العلاقات الاجتماعية، كي يُعبِّر الفردُ عن أفكاره ومشاعره بِكُلِّ حُرِّية وتلقائية، وبالتالي، يَظهر الوَعْيُ الحقيقي بلا تراكيب زائفة، ويَبْرُز الإدراكُ العقلاني بلا عناصر مَكبوتة، وتتَّضح مصادرُ المعرفة بلا مُكَوِّنات مَسكوت عنها، والوَعْيُ له سُلطته، والمعرفةُ لها تاريخُها، ومَن لا وَعْي له، لا تاريخَ له.
لَن يستطيع الفردُ تحليلَ طبيعة المجتمع، إلا إذا استوعبَ كيفيةَ دُخول الظواهر الثقافية إلى الأحداث اليومية، وأدركَ آلِيَّةَ تحرير الفِكر الإنساني مِن ضَغْط المصلحة الشخصية، بوصفها أداة للسيطرةِ على السِّيَاق الحياتي، والسِّيَادَةِ على النَّسَق التاريخي، يتم توظيفها اجتماعيًّا ضِمن إفرازات سُلطة المعرفة.
وهذه الإفرازاتُ لَيْسَتْ أرشيفًا لأحلام الفرد، أوْ واقعًا ماديًّا مُنْغَلِقًا على ذاته، وإنَّما هي نظام أخلاقي مُتَجَسِّد في الوَعْي الفردي، والعقلِ الجَمْعي، يعمل على تأكيدِ الوجود الحَي والحُر، وإعادةِ إنتاج البُنية التاريخية التي تُحيط بالأنساق الفكرية. وكما أنَّ الحياة والحرية لا تنفصلان في وجود الفرد، كذلك الزمن والمكان لا ينفصلان في البناء الاجتماعي، وهذا يُؤَدِّي إلى فَهْم دَوْرِ الفرد في تفسير التاريخ، ودَوْرِ التاريخ في تشكيل أبعاد سُلطة المعرفة. وأينما وُجِدَت المعرفةُ وُجِدَ التاريخ.
الإشكاليةُ في بُنية المجتمع الفكرية تتمثَّل في الانشغال بتعريف سُلطة المعرفة، معَ أنَّ المطلوب هو تحديد الآلِيَّات التي تقوم عليها هذه السُّلطة، وتعيين عناصرها، وكشف أدواتها؛ لذلك، ينبغي الانتقال من المَاهِيَّة إلى الوظيفة، ومِن إطار النَّفْس الإنسانية إلى فضاء الوَعْي بالذات والآخَر، ومِن الولاء للعلاقات الاجتماعية إلى الولاء للبناء الاجتماعي، وإذا كان منطقُ القُوَّة يُوجَد حَيث تُوجَد المصالحُ الشخصية، فإنَّ قُوَّة المنطق تُوجَد حَيث يُوجَد المَصِيرُ الجَمَاعي في التاريخ الثقافي الأخلاقي المُشْتَرَك، بِوَصْفِه طريقًا إلى حقيقة البناء الاجتماعي، وجَوهرًا للتأويل اللغوي الذي يَجْمَع زوايا الرؤية في المجتمع، ويُوظِّفها بشكل إنساني لفهم الذات، والانطلاق مِنها لفهم العناصر المُحيطة بها. وإذا كان الفردُ لا يستطيع فَهْمَ حَاضِره إلا إذا فَهِمَ ذَاتَه، فإنَّ المجتمع لا يستطيع فَهْمَ تاريخه إلا إذا فَهِمَ سُلطةَ المعرفة، التي تُساهم في التوفيق بين التَّصَوُّرات الذهنية عن الزمن والمكان، وبين الحاجات الأساسية للرُّوح والجسد.