بقلم الكاتب:
إبراهيم أبو عواد
الأنساقُ الفلسفية في البناء الاجتماعي نابعةٌ مِن الهُوِيَّة الوُجودية للفرد في رحلة بَحْثِه عن ذاته وحياته، ورحلةُ البحثِ لَيْسَتْ انتقالًا ميكانيكيًّا في الزمان والمكان، بَلْ هي انتقالٌ ديناميكي في تأثيرات سُلطة العقل الجَمْعي في مَصادرِ التاريخ وقَواعدِ المعرفة. وهذه التأثيراتُ مُرتبطة بجذور المشروع الحضاري للمُجتمع، وقُدرته على تَوحيد الذاتِ والمَوضوعِ في مَنطِق اللغة الرمزي الذي يتحكَّم بالعلاقاتِ الاجتماعية، وانعكاساتِها على الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية. وسُلطةُ المُجتمعِ المَعرفيةُ لا تتجذَّر في الإدراكِ الحِسِّي والوَعْيِ الفَعَّال، إلا باعتمادِ التفكير النَّقْدِي في الواقع المُعَاش، وتحريرِ الظواهر الثقافية مِن قُيود الأحكامِ المُسْبَقَة والقوالبِ الجاهزة.
وإذا كانت المعرفةُ تَكتسِب شرعيتها مِن صَيرورةِ التاريخ ومَركزيةِ الوُجود، فإنَّ الهُوِيَّة تَستمد سُلطتها مِن الترابط المصيري بين مَنطِقِ اللغة الرمزي وأشكالِ الحياة اليومية.
ولا يُمكِن أن تتحوَّل صَيرورةُ التاريخ إلى حالةِ خَلاصٍ مُستمرة في المُجتمع إلا بِصَهْرِ المعرفة في الهُوِيَّة، وتَذويبِ التجارب الشخصية في الأفكار الإبداعية الجَمَاعية.
وهذا مِن شَأنه تَطهيرُ البناءِ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف، وتحقيقُ التجانسِ بين المضمونِ العميق لشخصية الفرد الإنسانية، والبُنيةِ الجَذرية لعملية صِناعة الثقافة.
العقلُ الجَمْعي لا يَقْدِر على تَحويل مَنطِق اللغة الرمزي إلى هُوِيَّة مَعرفية للمُجتمعِ والتاريخِ، إلا بتوظيف الوَعْي الواقعي في بُنية الفِعْل الاجتماعي، لأنَّ الوَعْي هو القُوَّة الدافعة للفِعْل. والوَعْيُ والفِعْلُ مُرتبطان بالتَّغَيُّرات النَّفْسِيَّة التي تَطْرَأ على حياة الفرد الداخلية والخارجية. وجميعُ هذه العناصر مُجتمعةً تُشَكِّل النسيجَ المعرفي، والتكوينَ الشُّعوري، والتطبيقَ العملي.
وبالتالي، يُصبح المُجتمعُ شَبَكَةً مِن زوايا الرؤية المُتَنَوِّعَة والمُتكامِلة، وحاضنةً للظواهر الثقافية، والآلِيَّاتِ اللغوية القادرة على تفسيرها وتَوظيفها. وإذا صَارَ الواقعُ المُعَاش أداةً فِكرية للنهضة والإبداع، فإنَّ التاريخ سَيُصبح رافعةً للوَعْي بِكُلِّ أشكاله وانعكاساته، وهذا يُسَاهِم في السَّيطرة على المَعْنَى الوُجودي المُتَشَظِّي في العلاقاتِ الاجتماعية، والمعاييرِ الأخلاقية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحرير الإنسان مِن ضَغطِ الاغترابِ الذاتي، ومَأزِقِ الخَلاص الفَرْدي، وقُيودِ الاستهلاكية المادية، وهَيمنةِ الآلَة على الطبيعة.
تحريرُ الإنسانِ تَجسيدٌ للهُوِيَّة الوجودية في السُّلطة المعرفية، التي تُمثِّل مَنظومةً مِن الشُّروط الضرورية لإعادة إنتاج الأنساق الفلسفية في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الثقافية، مِن أجل بناء ماهيَّة الإنسانية على السِّيَاقات التاريخية القائمة على النَّقْد البَنَّاء، ولَيس التقديس المَصْلَحي. والتاريخُ الحقيقي هو الكِيَان الواقعي الذي يَستطيع الصُّمُودَ في رُوحِ الزمانِ وجَسَدِ المكانِ اعتمادًا على قُوَّته الذاتية بلا إسناد خارجي ومصالح مُغْرِضَة. وكُلُّ تاريخٍ يَستمد وُجوده مِن عوامل خارجية دخيلة، وأنماط تفكير استبدادية، سَوْفَ يَتفكَّك ويَنهار بسبب التناقضِ بين الإدراك الحِسِّي والوَعْي الفَعَّال، والتعارضِ بين الواقع المادي والتأويل اللغوي. ويجب أن يَكُون التاريخُ تَطَهُّرًا دائمًا مِن الأحلامِ المَكبوتة والأفكارِ المَقموعة، وتَطهيرًا مُستمرًّا للعلاقات الاجتماعية مِن الوَعْيِ الزائف والوَهْمِ النَّفْعِي المَصْلَحي الذي يُكَرِّر ذَاتَه، ويُعيد نَفْسَه وَفْق أشكال استهلاكية مادية تَضغط على ذاكرة الفرد، وتُضعِف شخصيته، وتَسْلُب حُرِّيته وإنسانيته، وتُحَطِّم مَركزيته في الطبيعة والوُجود.
البناءُ الاجتماعي لَيس كُتلةً اسمنتية جامدة، وإنَّما هو كَينونةٌ مُتماهية معَ مَنطِق اللغة الرمزي، ومنظومةٌ مُتفاعلة معَ السِّيَاق التاريخي للفرد والمُجتمع، ومنهجيةٌ مُندمِجة معَ عملية صناعة الوَعْي الفَعَّال. والبناءُ الاجتماعي يَمْزُج التجاربَ الشخصية بمصادر المعرفة،ويُحَوِّل العواملَ النَّفْسِيَّة إلى معايير أخلاقية قابلة للتطبيق على أرض الواقع، مِمَّا يُنتج بيئةً خِصْبَةً مُلائمة للأفكار الإبداعية، ويَدفَع باتِّجاه توليد ظواهر ثقافية مُلتصقة بتفاصيل الحياة، وغَير مُنفصلة عنها، ولا مُتعالية عليها، فَتَصِير الثقافةُ -الشَّعْبِيَّة والنُّخْبَوِيَّة- حَلًّا عمليًّا للواقع الإنساني المأزوم، ولَيْسَتْ جُزْءًا مِنه.
وهذا يَستلزم أن يَكُون البناءُ الاجتماعي قادرًا على تجاوُز ذاته، وتَجَاوُز عناصر البيئة المُحيطة به. وهذا التَّجَاوُزُ الدائم للذاتِ والمُحِيطِ يُؤَدِّي إلى تَوليد الأفكار الإبداعية بشكل مُستمر، وكُلَّمَا تَوَلَّدَتْ أفكارٌ إبداعية، انبثقتْ تأويلاتٌ جديدة للتاريخ، مُستقلة بذاتها، وغَير خَاضعة للأدلجة السِّيَاسية. وهذه التأويلاتُ لا تَخترع تاريخيًّا ذهنيًّا بعيدًا عن الواقع، وإنَّما تَقُوم بدمج الهوامش معَ المركز، لِتَكوين صُورة شاملة بكل الزوايا والأبعاد؛ مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل دور الفرد في التاريخ باعتباره إنسانًا فاعلًا في الزمان والمكان، وصانعًا للحَدَثِ، ومُكْتَشِفًا للحُلْم، ولَيْسَ شخصًا مَجهولًا بلا هُوِيَّة، وَمُسْتَلَبًا بلا شرعية، ومنسيًّا بلا ذاكرة. إنَّ الفردَ مِثْلُ التاريخ، كِلاهما يُجسِّد فلسفةَ الوجود في رحلة البحث عن المَعْنَى.