ماذا نقول بعد مرور ستة وسبعين عامًا على ميلاد نكبة فلسطين؟

حضارات

مؤسسة حضارات

المقال الأسبوعي لفضيلة الشيخ رائد صلاح

هي نكبة فلسطين التي مضى على ميلادها ستة وسبعون عامًا ولا تزال هي نكبة فلسطين ونحن في عام 2024، فهي نكبة بدأت منذ بدايات القرن العشرين ولا تزال هي النكبة عينها كما لو أنها بدأت قبل أيام وأشهر، وإلا ماذا نُسمي الكارثة الإنسانية بغزة؟! أليست هي استمرارا لنكبة فلسطين؟! وأليست مشاهد هذه الكارثة الإنسانية بغزة من قتل وهدم وتشريد وتجويع وترويع، هي المشاهد ذاتها التي قامت عليها نكبة فلسطين منذ بداياتها الأولى، وأليس الذين شُرِّدوا قبل ستة وسبعين عامًا عن بلداتهم الواقعة في قضاء يافا وبئر السبع وعسقلان ثم آوتهم مخيمات اللجوء بغزة هم ذاتهم الذين يشردون اليوم عن مخيماتهم بغزة، إلى مخيمات جديدة أقيمت لهم قبل أشهر؟! وهل هناك فرق بين مشهد تشرّيدهم بالأمس البعيد عن مشهد تشرّيدهم اليوم؟!

مما يعني أن نكبة فلسطين لا تزال مستمرة، ومما يعني أنها بدأت ولما تنتهي بعد، وكأن هناك إرادة دولية عالمية لا تزال تواصل الإبقاء على نكبة فلسطين، لدرجة أنه كلما قيل: انقضت هذه النكبة تمادت، وإلا ما معنى أن كل نكبات شعوب الأرض قد وجدت لها حلًا إلا نكبة فلسطين؟!، والأدهى والأمّر أن دول الاستكبار العالمي التي تحملت وزر نكبة فلسطين في بداياتها هي دول الاستكبار العالمي ذاتها التي لا تزال تطفئ كل بارقة أمل للوصول لحل حق وعادل وجاد لنكبة فلسطين، فهي بريطانيا التي لا تزال تسهم باستمرار نكبة فلسطين منذ عام 1900م فصاعدًا، وها هو دورها القبيح قد امتدّ ما بين وعد بلفور ووعد سوناك، وهي فرنسا التي لا تزال على خُطا بريطانيا ولا تزال يداها ملطختين بنكبة فلسطين ما بين رؤساء فرنسا الذين وقفوا من وراء المشروع الذري الإسرائيلي وما بين الرئيس ماكرون الذي لا يزال يدعم المؤسسة الإسرائيلية بالأسلحة الفرنسية والنشاط المخابراتي، وهي ألمانيا كذلك، وهي إيطاليا كذلك، وهي بعض الدول الأوروربية كذلك، لا تزال ترى في مواصلة دعم المؤسسة الإسرائيلية عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا دَيْنًا في أعناقها على حساب تواصل نكبة فلسطين حتى الآن!!

وأمّا أمريكا وما أدراك ما أمريكا، فهي التي تعتبر قيام دولة إسرائيل مشروعًا أمريكيًا وليس مشروعًا صهيونيًا فقط، ولذلك لا تزال تدافع عن هذا المشروع كما لو كانت تدافع عن واشنطن ونيويورك وشيكاغو وسائر الولايات الأمريكية، ومن يرجو غير ذلك من أمريكا فهو كمن يرجو أن يجني من الشوك العنب!!، ثم لي أن أتساءل بعد مرور ستة وسبعين عامًا على نكبة فلسطين عن جدلية العلاقة بين هذه النكبة منذ ميلادها وبين الأنظمة العربية؟! وهل حرصت هذه الأنظمة أن تدعم نكبة فلسطين أم حرص كل رئيس عربي أن يستغل نكبة فلسطين وأن يدعم نظامه بها، وأن يقوّي كرسيه بها، وأن يحافظ على بقائه بها؟!

إنها أسئلة صعبة، وقد تكون مُحرجة، وقد تجلب على صاحبها المتاعب، ولكن لا يمكن تغطية الحقيقة طوال الوقت، وفي ذلك قال مثلنا الشعبي: (الشمس لا تُغّطى بغربال)، ولذلك فإن الناظر إلى دالة العلاقة بين نكبة فلسطين والأنظمة العربية، يجد أنها قد ساءت مع مرور الأيام إلا من بعض المواقف النادرة المحدودة لبعض هذه الأنظمة العربية!!، فَرُوي عن الرئيس الحبيب بورقيبة أنه قال قبل عقود: نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، واليوم ونحن في عام 2024 نسمع لسان حال بعض الرؤساء العرب يقول: نحن مع المشروع الصهيوني ظالمًا أو مظلومًا!!، وقبل عقود حبس كل العالم أنفاسه عندما قام الملك فيصل رحمه الله تعالى بخطوته الجريئة وحبس النفط العربي عن أوروبا وأمريكا، وباتتا في خطر أن يُخيم عليهما ظلام أسود خلال كل ليلة تمر عليهما، لأن مبادرة الملك فيصل التي حبست عنهما النفط أدّت إلى شل الحياة في عيشهما، وباتتا في خطر العجز عن توفير الكهرباء لإضاءة ليل أوروبا وأمريكا، بل وباتتا في خطر العجز عن توفير الوقود لسيارات المرسيدس والبيجو والبونتياك والفورد والكادلاك، مما دفع أهالي القارتين الأوروبية والأمريكية أن يتنقلوا في دولهم ومدنهم وأريافهم بواسطة الدراجات الهوائية أو سيرًا على الأقدام، وكادوا أن يحتطبوا الحطب لمواجهة برد الشتاء القارص بعد مبادرة الملك فيصل رحمه الله تعالى، ثم لم تتكرر هذه المبادرة بعد موت الملك فيصل رحمه الله تعالى منذ عام 1973 وحتى هذا العام الذي نعيش فيه 2024!!

وهذا يعني أنه مضى قرابة الستين عامًا ولم يظهر رئيس واحد تجرأ على إحياء مبادرة الملك فيصل مرة ثانية علمًا أن نكبة فلسطين لا تزال ككرة الثلج تتدحرج ويكبر حجمها!!، ولو تجرأت الأنظمة العربية وأعلنت عن مبادرة الملك فيصل الثانية، ولو تجرأت الأنظمة العربية وجندت لهذه المبادرة كل الدول الإسلامية المُنتجة للنفط، وكل الدول غير العربية والإسلامية المنتجة للنفط والمُحبة للسلام والحق والعدل والعدالة، لو تجرأت الأنظمة العربية وأحيت هذه المبادرة اليوم، لغيّرت وجه العالم ولخنعت الإدارات الأوروبية  والإدارة الأمريكية للحق الفلسطيني، ولأقامت بسهولة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المحتلة، فلماذا لا تقوم مثل هذه المبادرة اليوم لإيقاف الكارثة الإنسانية بغزة على الأقل؟! وهل هناك تهديد عابر للقارات لا يزال يقع على هذه الأنظمة العربية، ولا يزال يمنعها من القيام بهذه المبادرة؟! وإذا كان الأمر كذلك، فأية قيمة لأنظمة عربية لا تزال ممنوعة من الإسناد الحقيقي لنكبة فلسطين؟! وأين يبرز دور هذه الأنظمة العربية ؟! هل يبرز فقط بقمع شعوبها والحيلولة دونها ودون حرية الكلمة وحق تقرير المصير وحقها الكامل بانتخاب رؤسائها الذين ترضى بهم أمناء على مصالحها وداعمين جادين لنكبة فلسطين؟!

ومتى لهذه الأنظمة العربية أن تحيل النفط إلى قوة سياسية إلى جانب استثماره كقوة اقتصادية؟! ومتى لها أن تحيل الممرات المائية العالمية التي تمتلكها والتي يمتلك البعض الآخر منها دول إسلامية، متى لها أن تحيلها إلى قوة سياسية إلى جانب استثمارها كقوة اقتصادية؟! لا سيما وأن أهم الممرات المائية في حركة الملاحة العالمية تقع تحت سيادة بعض الدول العربية والدول الإسلامية، فها هو البحر الأحمر وها هو باب المندب وها هي قناة السويس وها هو الخليج العربي وها هي قناة الدردنيل والبسفور كلها تقع تحت سيادة عربية أو إسلامية، فلو تصورنا أن الدول العربية والدول الإسلامية هددت بإغلاق هذه الممرات المائية العالمية في وجه الملاحة العالمية حتى ترتفع الكارثة الإنسانية عن غزة لشكّل ذلك وسيلة ضغط عالمية لا يمكن أن تقف في وجهها كل دول الاستكبار العالمي، ولسارعت فورًا للإذعان لمطلب رفع الكارثة الإنسانية عن غزة ثم لمطلب إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المحتلة.

وأنا لا ألوم الأنظمة العربية والإسلامية فقط، لأن الشعوب العربية والمسلمة تملك أدوات ضغط عالمية مؤثرة لا تقل عن الأدوات التي تملكها هذه الأنظمة!!، وعلى سبيل المثال لو أعلنت الشعوب العربية والمسلمة عن مقاطعتها لكل البضائع الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية، ولبضائع كل دولة غربية متورطة في إثم الكارثة الإنسانية بغزة، لو أعلنت الشعوب العربية والمسلمة هذا الإعلان، ولو التزمت به صادقة مع الله تعالى ثم صادقة مع نفسها، ثم صادقة مع غزة، ولو حافظت على الالتزام بهذا الإعلان لبضعة أشهر فقط لرضخت الإرادة الأمريكية الرسمية والإرادة الأوروبية الرسمية للحق الفلسطيني الأبدي والفطري والحي والذي لن يموت، ومن قال إن الشعوب العربية والمسلمة ستموت إذا لم تشرب الكوكا كولا؟! ومن قال إنها ستمرض إذا لم تأكل شوكولاتة سويسرية؟! ومن قال إنها ستعرى إذا لم تلبس لباسًا من تصميم بريطاني؟! ومن قال إنها ستحفى إذا لم تنتعل حذاء من تصميم إيطالي؟! ومن قال إنها ستُصاب بالجنون إذا لم تركب سيارات من تصميم ألماني؟! ومن قال إنها ستسوء رائحتها إذا لم تتعطر بعطور من تصميم فرنسي؟! نعم ستبقى هي الشعوب العربية والمسلمة بدون كل البضائع الأوروبية والأمريكية، وستبقى قادرة على تحريك العالم، ثم رفع الكارثة الإنسانية عن غزة، ثم فرض إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس المحتلة رغم أنف كل الدول الإمبريالية إن هي أعلنت إعلان المقاطعة وصدقت فيه مع الله، ثم مع نفسها ثم مع غزة ثم مع الشعب الفلسطيني الشقيق للأمة الإسلامية والعالم العربي، فهل من أحد فينا يسمع؟!.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023