وَهنُ القوة !!! 3/3

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

وهن القوة !!!

3/3




تحدثنا في الجزئين الأول والثاني عن القوة وما يوهنها ويضعفها؛ حيث بسطنا الحديث في الجزء الأول عن عامل الخلل في تعريف المهمة المطلوب القيام بها، الأمر الذي ينعكس سلباً على مجموعة من الإجراءات المترتبة على تعريف المهمة، من معرفة نوع الصنوف وتركيبها واستعدادها وطريقة انتشارها وإدارتها وإمدادها، كما تحدثنا في الجزء الثاني عن مجموعة أخرى من العوامل التي تجعل القوة غير ذات جدوى، وذكرنا منها الخلل في تعريف النصر، وهو أمر منوط بالمستوى السياسي، فإن قصر فيه ظهر الخلل في الخطط والأوامر التعبوية الصادرة عن المستويات العسكرية، وتحدثنا عن العدو ومعرفته، والأرض وطبوغرافيتها وما تحويه من تعدد ديموغرافي، ثم ختمنا الجزء الثاني من هذه السلسلة بالحديث عن التماسك، حيث أن القوة مركبة من عناصر مادية وغير مادية الأمر الذي يتطلب مزجها مع بعضها البعض لتكون مركباً واحداً متماسكاً ذو قوام وكتلة مرنة قابلة للحركة والتوجيه الصحيح في المكان والزمان المناسبين، وقد سقنا مجموعة من العوامل التي تساعد في تماسك هذا الخليط وترفع من مستوى تجانسه، والتي منها المركزية والتراتبية والانضباط والروح المعنوية والاكتفاء الذاتي والتدريب.

ونختم هذه السلسلة بآخر العوامل التي تفضي إلى وهن القوة والفتّ في عضدها وهو الخلل في معرفة القيود والمحددات والضوابط التي تضبط استخدام القوة وتحد من تفعّيلها وتشغيل مكوناتها، فتمنع استخدام نوع ما وتسمح بآخر، وتجيز استهداف هدف ما وترفض التصويب على آخر. 
فلا يمكن أن يتصور أن هناك شريعة سماوية تجيز استخدام الأسلحة النووية أو الكيماوية أو البيولوجية في استهداف البشر، مدنيين كانوا أو عسكريين، ولا يمكن أن تجد نصاً شرعياً يجيز لك قتل جموع المدنيين على اطلاقهم وبدون ضابط كون العدو تترس بهم، حتى أن فتوى التترس المنقولة عن ابن تيمية رحمه الله تؤخذ بقدرها ولا تسمح بقتل من تُتُرس بهم إلا بالقدر الذي يحقق الهدف ويقضي على التهديد.
هذا هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده، فقد أوصى وأوصوا بأن لا يقتل طفل أو شيخ ولا امرأة ولا متنسكاً في صومعته، بل أكثر من ذلك؛ فقد منع صلى الله عليه وسلم، ومنع خلفاؤه رضي الله عنهم قتل الدواب إلا للأكل والتزود بالطعام، ولم يبيحوا قتلها لمجرد القتل. ومن أهم السياسات والضوابط التي تحدد من القدرات وتمنع تفعيلها بكامل طاقتها، ما يأتي من الضوابط والسياسيات:



سياسية داخلية:

وقد تكون القيود التي تقيد استخدام القوة؛ قيود سياسية ناتجة عن قرار سياسي صادر عن القيادة العليا للدولة؛ ممثلة برئيسها أو رئيس وزرائها أو من يفوضون.
وعندما توضع مثل هذه المقيدات فإنما توضع تماشياً مع التزام الدولة بما يفرضه عليها القانون الدولي أو الدستور المحلي، وحتى لا تجد نفسها ــ الدولة ــ بعد الحرب ملاحقة في المحاكم الدولية؛ بوزرائها وقادتها العسكريين. ونحن نشاهد ونرى ونسمع أن قادة سياسيين وآخرين عسكريين من الكيان قد امتنعوا عن السفر إلى كثير من الدول كونهم مطلوبين في قضايا جنائية ناتجة عن الاستخدام المفرط للقوة وغير المتناسب مع التهديد.



قانونية دولية:

كما أن أحد مقيدات القدرة التي يمكن أن تقيد استخدامها كماً ونوعاً، تلك النصوص القانونية المقرة والملزمة للدول على مستوى المجتمع الدولي، فنصوص القانون المتعلقة بحقوق الانسان تقيد الاستخدام القوة غير المتناسبة ضد الانسان، كما أن نصوص القانون المقرة للمحافظة على التراث البشري الممثل بالمواقع الأثرية؛ تقيد استخدام القوة في أماكن جغرافية تشملها تلك النصوص وتحميها، وكذا النصوص المتعلقة بالمحافظة على المساحات الخضراء كرئتي تنفس للبشرية قد تحد من تفعيل قدرات قتالية معينة في أماكن الغابات والاحراش مثلاً.



جغرافية / مدايات وقدرة على الاستيعاب:

لا شك أن الجغرافيا تلقى بظلالها على القوة ومسار بنائها وطرق تشغيلها بشكل كبير جداً، فالجغرافيا هي التي تقول ما هو النوع وما هو الكم وأي صنف من صنوف القدرات القتالية التي يجب أن تمتلكها الدولة، فدولة بحرية لا بد أن يكون عماد قواتها المسلحة السفن والبوارج وحاملات الطائرات، وتملك تشكيلات بشرية متخصصة في مجالات العمل المائي من غوص وانقاذ وزراعة ألغام بحرية، كما لا يمكن أن يتصور أن بلداً لا تشاطئ ماءً وهي قارية بالكامل لا يكون عماد قواتها المشاة على صنوفها والدروع بأنواعها. كما لا يمكن أن نتخيل أن دولة بعيدة ــ إيران مثال ـ تعادي دولة لا تشاركها الحدود لا تمتلك سلاح صواريخ أرض ــ أرض قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه من الخطأ الفادح أن تراكم القدرات القتالية في بقعة جغرافية بكميات تزيد عن حاجتها أو قدرتها الاستيعابية، فكما أن لكل وعاء سعة معينة، فإن لكل بقعة جغرافية يراد أن تسلح أو تبنا فيه قدرات قتالية سعة محددة ــــ قد تقبل زيادة طفيفة غير مخلة ــــ أما إن زاد أمر مراكمة السلاح عن قدرة الجغرافيا على الاستيعاب؛ فإن الأمر ــ مراكمة القدرة ــ يتحول من نقطة قوة إلى نقطة ضعف ومقتل، وهذا بحث فني تفصيلي لا مجال لبسطه هنا.



فنية بشرية:

ومن محددات استخدام القوة، ما هو مرتبط بالبعد الفني والبشري؛ فما تشتريه الدول أو الحركات من أسلحة أو منظومات تسليح في البداية لا بد من التدرب عليها بشكل فردي من أجل التشغيل، وهذا أمر يستغرق وقتاً وجهداً ليس بالقليل، وهذا التدريب لا يمكن أن تكتمل اجزاؤه أو تغلق دائرته بمجرد الانتهاء من عمليات التدريب الفردي، وحيث أن ـــ السلاح ـــ  سيستخدم في عمليات عسكرية فيها من مختلف الصنوف والأنواع؛ كان لا بد من أن يمر في عمليات دمج وتوليف مع باقي القدرات والمنظومات التي توضع تحت تصرف القائد أثناء المعركة، لذلك فعمليات التدريب الفردي والجماعي والتخصصي على الأسلحة ومسار دمجها في منظومة القتال التي سوف تفعّل أثناء الحرب؛ تشكل أحد قيود استخدام القوة، طبعاً لا يغيب عن البال أيضاً عمليات النشر لتلك المنظومات في منطقة المسؤولية أو ساحة العمليات، فكلما كان التدريب والدمج والنشر عالي الكفاءة متناسب مع أصل الهدف من عمليات التشغيل؛ كانت القيود أقل والنتيجة أضمن، والعكس صحيح.

وفي نهاية هذه السلسلة، قد يتبادر إلى الذهن السؤال المنطقي التالي: إن كان ذاك ما يثبط ويوهن القوة ويفتٌّ في عضدها؛ فما الذي يزيد من قوتها ويضاعف من طاقتها ويجعلها مرنة الحركةعصية على الكسر فتنجز ما روكمت من أجله؟

إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في عكس ما قيل في عوامل الوهن والإضعاف، فتحديد المهمة بشكل دقيق وتعريف النصر ومتطلباته بشكل واضح، ومعرفة العدو والأرض كمعرفة الذات والنفس، وعدم المبالغة في توصيف الذات وتعريفها والثقة في النفس التي في محلها غير زائدة ولا ناقصة، ونفسٌ قادرةٌ متقبلةٌ لتحمل أكلاف العمل ومصاعبه وتدفع مغارمه رغبة في مغانمه، مع مزيج من عوامل التماسك والتلاحم والتجانس،كلها أمور تفضي إلى زيادة بأس القوة وإن قلت، ورفع المعنويات وإن ضعفت، ومكافأة قدرة العدو وإن كثرت، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.


عبد الله أمين

25 01 2021



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023