منذ أن تولت حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح) قيادة العمل الوطني عام 1968 باعتبارها العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها رئيس منظمة التحرير، مروراً بتأسيسها للسلطة الوطنية 1994 وقيادتها لها إلى اليوم، منذ ذلك التاريخ وهي مثار جدل ونقاش ما بين مدافع عنها؛ لأنها استطاعت الحفاظ على حيوية القضية الوطنية وتأسيس كيانية فلسطينية مستقلة ونقل القضية الوطنية للعالمية وجعلها محط اهتمام العالم بل وانتزعت اعترافاً دولياً بحق الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة، ورؤية أخرى تُحمل حركة فتح المسؤولية عن تقليص الأهداف الوطنية من كل فلسطين إلى المطالبة بدولة غير مضمونة في غزة والضفة وعدم قدرتها على منع الاستيطان والعدوان الصهيوني المتواصل في غزة والضفة وضياع القدس بل تحميلها المسؤولية عن الانقسام وكل ما صاحب السلطة من أشكال فساد ... ألخ.
مما لا شك فيه أن حركة فتح وطوال 53 سنة تقريباً وهي تتموقع كحزب السلطة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية مفهوم السلطة في الحالة الفلسطينية، وحزب السلطة دوماً وفي كل المجتمعات وخصوصاً العربية يكون مستهدفاً ومحل انتقاد شعبي، ولا شك أيضاً أن هناك أخطاء وتجاوزات كثيرة وقعت في الإدارة الداخلية والسياسة الخارجية، إلا أنه في المقابل يجب استحضار طبيعة العدو الذي تواجهه الحركة وكل الشعب الفلسطيني و أيضاً التحولات العربية والإقليمية التي لم تأتِ لصالح القضية الفلسطينية.
حركة فتح طوال هذا الوقت كانت تتحمل المسؤولية وتدفع الثمن من دماء أبنائها وقادتها الذين سقطوا في المواجهات مع جيش الاحتلال داخل الوطن وعلى الحدود وفي كل أماكن تواجدهم في الخارج وقافلة الشهداء والأسرى خير شاهد على ذلك، كما أن ريادتها للحركة الوطنية و(النظام السياسي) لا يعني أنها كانت مستبدة أو متفردة في رأيها بل كانت تُدير ما سماها الراحل أبو عمار (ديمقراطية غابة البنادق)، و يمكن أن نذهب أكثر من ذلك ونقول إن حركة فتح دفعت غالياً ثمن وطنيتها وديمقراطيتها وتقبلت كل الانتقادات التي توجه لها بل حتى اتهامات جائرة بالخيانة وجهها البعض لقيادات فتح حتى للرئيس الراحل أبو عمار ومن بعده أبو مازن دون أن تعلق المشانق لأحد.
لم ترفض حركة فتح أن يشاركها أحد في المسؤولية وفي السلطة سواء في إطار منظمة التحرير أو السلطة الوطنية حيث ناشد الراحل أبو عمار في بداية تأسيس السلطة الجميع المشاركة في السلطة، وشارك البعض وقاطع آخرون، ومن رفض المشاركة بداية لأنها سلطة أوسلو في رأيهم شاركوا لاحقاً في نفس السلطة بل وبسقف أقل، كما أن الرئيس أبو مازن الذي جاء عن طريق انتخابات لم يشكك أحد بنزاهتها هو الذي وافق على إجراء انتخابات تشريعية لاحقاً 2006، وهو يعلم بثقل وجود حركة حماس، وبعد فوز حماس تم تكليف السيد إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة وكان الرئيس مستعداً لاستكمال المسار الديمقراطي لولا الانقلاب الحمساوي.
نعم، حركة فتح تحتاج لاستنهاض نفسها وتجديد قياداتها وتصليب نهجها الوطني، كما يجب عدم السماح بمصادرة هذه الحركة العملاقة من طرف البعض ممن تسلقوا لمواقع قيادية دون وجه حق، ولا أن تتشرذم الحركة إلى تيارات متصارعة كما هو حاصل اليوم ونحن على أبواب الاستحقاق الانتخابي الذي بات الشغل الشاغل للجميع.
خلال مسيرتها الطويلة تعرضت الحركة لمحاولات انشقاق متعددة كما خرج منها قيادات وكوادر اشتقوا طريقا خاصاً بهم كما شهدت خلافات وصراعات خلال الانتخابات الداخلية –المؤتمر العام- في الحركة وما صاحب المؤتمرات الثلاثة الأخيرة من تشكيك بنزاهتها، أيضاً خلافات وتجاذبات حول الانتخابات التشريعية كما جرى عام 2006، وفي اعتقادنا أن ما تشهده الحركة اليوم من خلافات وصراعات داخلية هو الأكبر والأخطر في تاريخها .
خلافات وصرعات داخلية حتى داخل اللجنة المركزية للحركة خرجت للعلن، وغياب لأغلبية أعضاء اللجنة المركزية عن المشهد السياسي والتزامهم الصمت، صمت العاجز والمستسلم والمُحبط، أو صمت الرافض ولكنه خائف من التصادم العلني حرصاً على سمعة الحركة أو خوفاً على مصالحه الشخصية، بالإضافة إلى حلافات سابقة للاستحقاق الانتخابي.
هل ستشارك حركة فتح مع حركة حماس بقائمة مشتركة وهي مغامرة غير محمودة العواقب ومرفوضة من غالبية القاعدة الفتحاوية؟
وهل ستدخل الانتخابات بقائمة فتحاوية واحدة أم بعدة قوائم؟ وما إن كان مروان البرغوثي سيكون على رأس القائمة الفتحاوية الموحدة أم ستكون له قائمة خاصة به، وما إن كان سيتحالف مع محمد دحلان أم بدونه، وهل سيتنافس مع الرئيس أبو مازن في الانتخابات الرئاسية أم سيترشح للرئاسية في حالة عدم استنكاف الرئيس أبو مازن عن الترشح.
في اعتقادنا أن مرد هذا الاهتمام بما يجري داخل وحول حركة فتح يؤكد أنها ما زالت محل رهان الشعب وعليها تقع المسؤولية في كل ما يجري، وقلة فقط هم الذين يراهنون أو يتوقعون نظاماً سياسياً أو سلطة أو حكومة بدون حركة فتح في المقدمة، ليس لأن حركة فتح بدون أخطاء؛ بل لأن الساحة الفلسطينية لم تفرز حتى الآن حزباً أو حالة سياسية بديلة قادرة على تحمُل المسؤولية والتمسك بالحد الأدنى من الثوابت والحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، كما جرب الشعب حكم وسلطة حماس وما آل إليه الحال من تدهور في قطاع غزة وعلى المستوى الدولي.
حركة فتح اليوم ومع الاستحقاق الانتخابي أمام تحد كبير. ففي حالة نزولها بقائمة فتحاوبة وطنية فستضمن أغلبية مريحة في المجلس التشريعي كما ستكون أكثر قوة في الانتخابات الرئاسية وفي تركيبة المجلس الوطني حتى وإن أفرزت الانتخابات الرئاسية رئيساً من خارج فتح، أما إن خاضت الانتخابات التشريعية منقسمة فقد تتعرض لنكسة أو يكون تأثيرها محدوداً في المجلس التشريعي القادم، وفي حالة حدوث ذلك وبالرغم من أن المجلس التشريعي ليس مربط الفرس وليس مركز السلطة، إلا أن خسارة الحركة للانتخابات التشريعية سيكون مؤشراً خطيراً على إمكانية خسارتها حتى الانتخابات الرئاسية، مما سيطرح تساؤلات حول أحقيتها بقيادة النظام السياسي، كما أن خسارتها الانتخابات التشريعية سيجعل استكمال مسلسل الانتخابات - رئاسية ومنظمة تحرير- غير مؤكد أو مضمون.
في اعتقادنا أن التهديد الكبير الذي يواجه حركة فتح في الانتخابات في حالة إجرائها ليس المنافسين من الأحزاب الأخرى بل انقسامات فتح الداخلية، وخصوصاً إن نزل مروان البرغوثي على رأس قائمة خاصة به أو بمشاركة أطراف أخرى أو رشح نفسه للرئاسة في مواجهة الرئيس أبو مازن.
وفي هذا السياق يجب الإقرار بأن القائد الأسير مروان البرغوثي يحظى بالتقدير والاحترام عند الشعب الفلسطيني وخصوصاً عند حركة فتح، وإن كان لديه رغبة بالدخول بالمعترك السياسي فإنه يستحق أن يكون على رأس قائمة وطنية لحركة فتح، ووجوده فيها سيُحدث فرقاً كبيراً في نتائج الانتخابات ويقطع الطريق على من يريدون تشتيت حركة فتح.
وبالنسبة لقضية ترشحه للانتخابات الرئاسية فلا نعتقد وجود مشكلة في أن يرشح نفسه للرئاسة في حال إجراء انتخابات رئاسية، ولكن في هذه الحالة ولمصلحته ومصلحة حركة فتح عليه أن يضمن مسبقاً أغلبية مريحة في التشريعي، وهذا لن يتأتى إلا إذا نزل الانتخابات التشريعية بقائمة فتحاوية وطنية تضمن أغلبية مريحة لفتح في التشريعي.
قد تُطرح تساؤلات ذات طبيعة عملية ودستورية وسياسية حول ترشُح البرغوثي وفي حالة فوزه، لكونه داخل المعتقل وإسرائيل لن تسمح بإطلاق سراحه في حالة فوزه في الانتخابات إلا ضمن صفقة وشروط قد تسيء للبرغوثي نفسه، وفي حالة عدم خروجه من المعتقل سيكون فراع أو إشكال.
بالرغم من مشروعية هذه التساؤلات إلا أن وجِد توافق و إجماع فتحاوي وإرادة وطنية على ترشحه للرئاسة يمكنه تذليل جميع هذه العقبات، وفي اعتقادنا أن البرغوثي يُدرك كل هذه العقبات وقد يكون حديثه عن الترشح للرئاسة أو أن يكون على رأس قائمة منفصلة عن حركة فتح مجرد تهديد بدوافع وطنية؛ لحث القيادة لتشكيل قائمة وطنية تضم شخصيات محترمة وشابة وأن يتم التفكير بمرشح للرئاسة حتى يمكن القول بأن الانتخابات أحدثت تغييراً حقيقيا في النظام السياسي.
في اعتقادنا أن المشكلة تتجاوز هذا الجانب الدستوري والسياسي إلى الخلافات داخل حركة فتح والصراع على خلافة الرئيس أبو مازن، حيث هناك قيادات فتحاوية تتمسك بترشيح أبو مازن مرة أخرى للرئاسة، مع أننا لم نسمع من الرئيس رأياً حول الموضوع، وتمسكهم هذا يرجع لخلافات فتحاوية داخلية حول خلافة الرئيس وغياب قيادات وازنة في فتح عليها إجماع فتحاوي يمكنها أن تفوز في أية انتخابات رئاسية.
كل ذلك يتطلب تبصر وحكمة وتغليب المصلحة الوطنية العليا على حساب المصالح الضيقة، والأمر يبقى بيد الرئيس أبو مازن رئيس كل الشعب الفلسطيني فهو وحده القادر على مواجهة وحسم هذه الإشكالات كما أن الشعب الفلسطيني قادر على انتخاب رئيس جديد كما انتخب أبو عمار وأبو مازن من قبل.
وأخيراً، ودون تجاهل كل السلبيات والأخطاء التي صاحبت مسيرة حركة فتح التي تداخلت سياساتها وأدوارها مع سياسات وأدوار منظمة التحرير، وبالرغم من تعدد القضايا الخلافية الكبرى حول الانتخابات والمصالحة في الوقت الراهن، ومع تلمسنا لأهمية التوافق الوطني والبرنامج السياسي المشترك، فإن القضية مثار الاهتمام الوطني وحتى العربي والإقليمي تدور حول حركة فتح وما يجري داخلها بشان الانتخابات، وقليل هو الجدل والنقاش حول قائمة حماس أو قوائم المستقلين وحول مشاركة أو عدم مشاركة الفصائل في الانتخابات، فالكل يناقش ويترقب ما يجري داخل حركة فتح تحديداً، وهذا يدلل على أنها ما زالت محل رهان غالبية الشعب الفلسطيني كما يدلل على المكانة المتميزة للحركة عربياً وإقليمياً.