بعد أيام قليلة سيكون المسجد الأقصى على موعد جديد مع سلسلة من الانتهاكات الخطيرة التي تشهدها ساحاته ومحيطه، تزامنًا مع اقتراب موسم الأعياد اليهودية الأطول، والذي يمتد لثلاثة أسابيع. يبدأ هذا الموسم بعيد رأس السنة العبرية، يليه يوم "كيبور" (الغفران)، ويختتم بعيد "سوكوت" (العُرش أو المظلة).
وتبدأ السنة العبرية الجديدة في 23 سبتمبر/أيلول الجاري، بينما يحل يوم "الغفران" مع غروب شمس الأول من أكتوبر/تشرين الأول ليستمر حتى مغيب اليوم التالي. أما عيد "العُرش" فسيبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول ويستمر حتى 13 من الشهر ذاته، ليُختتم الموسم بعيد "بهجة التوراة" الذي يوافق يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول المقبل (الجزيرة، a2025).
حيث يشهد سلوك المستوطنين الإسرائيليين خلال اقتحامهم للمسجد الأقصى تطورًا متسارعًا وخطيرًا في السنوات الأخيرة، سواء من حيث ازدياد أعداد المشاركين، أو في طبيعة الطقوس والممارسات التي باتت تُنفذ بشكل علني داخل ساحات الحرم، وكذلك في الرموز الدينية والقومية التي يُجاهر بها علنًا. فقد تحوّلت هذه الاقتحامات إلى ممارسة شبه يومية، تتضاعف كثافتها خلال المناسبات والأعياد اليهودية، مثل عيد "الفصح العبري" و"يوم الاستقلال" و"رأس السنة العبرية"، حيث تُسجَّل أعداد غير مسبوقة، تصل أحيانًا إلى أكثر من ثلاثة آلاف مستوطن في اليوم الواحد، تحت حماية أمنية مشددة من قوات الاحتلال التي لا تتردد في تفريغ باحات المسجد من المصلين الفلسطينيين بالقوة لتسهيل مرور المستوطنين واقتحاماتهم الاستفزازية.
وقد بلغت تلك الإقتحامات ذروتها في الثالث من آب/أغسطس 2025 الماضي، حين اقتحم أكثر من ثلاثة آلاف مستوطن متطرف باحات المسجد الأقصى، في حدث وُصف بأنه أكبر اقتحام عددي يشهده المسجد المبارك في يوم واحد منذ احتلاله. وجاء ذلك في سياق تصعيد غير مسبوق لانتهاكات المستوطنين تزامنًا مع ما يُسمى بذكرى "خراب الهيكل"، وفي ظل إجراءات أمنية مشددة فُرضت في القدس ومحيط الأقصى. وقد تقدّم وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرفإيتمار بن غفير أفواج المقتحمين منذ ساعات الصباح الأولى يوم الأحد، محاطًا بحراسة مكثفة من قوات الاحتلال، كما شارك في هذه الاقتحامات عضوا الكنيست عن حزب الليكود عميت هليفي وشارين هاسكل، إلى جانب وزير "تطوير النقب والجليل" يتسحاق فاسرلاوف (الجزيرة، b2025).
ولم يعد الأمر مقتصرًا على عدد المقتحمين، بل طرأ تحوّل نوعي في طبيعة السلوك داخل الأقصى، إذ انتقل المستوطنون من مجرد جولات صامتة إلى أداء طقوس دينية تلمودية بشكل علني، كالسجود التوراتي والانبطاح الكامل، وتلاوة نصوص من التوراة بصوت مرتفع، كما حصل هذا اليوم حين اقتحم إيتمار بن غفير المسجد الأقصى برفقة أكثر من 3000 مستوطن، في مشهد ينتهك بشكل صارخ حرمة المكان. وقد تعدى الأمر ذلك إلى محاولات النفخ في "الشوفار"، البوق اليهودي التقليدي، في ساحات المسجد، في محاولة لفرض طقوس دينية داخل موقع إسلامي خالص، وهو ما يشكّل خطوة ضمن مشروع جماعات "الهيكل" المتطرفة التي تطمح لإضفاء طابع ديني يهودي دائم على الأقصى، وتدعو صراحة لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا بين المسلمين واليهود، كما حدث سابقًا في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
ومن بين المظاهر المتكررة التي تدعم هذا المسار الخطير، تكرار رفع الأعلام الإسرائيلية داخل ساحات المسجد (والذي كان ممنوعا حتى فترة قصيرة)، في مشهد استفزازي يتم بحماية الشرطة الإسرائيلية، رغم ما يمثّله من استفزاز مباشر لمشاعر الفلسطينيين والمسلمين عمومًا. وتتعامل السلطات الإسرائيلية مع هذه الممارسات إما بالتغاضي أو التبرير، بزعم "حرية التعبير"، متجاهلةً الطبيعة المقدسة والحصرية الإسلامية للمكان.
ولا يمكن إغفال حادثة اقتحام أريئيل شارون للمسجد الأقصى بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر 2000، والتي جرت بموافقة رئيس الحكومة آنذاك إيهود باراك ووزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي. فعلى الرغم من التحذيرات الفلسطينية المسبقة، أقدم رئيس حزب الليكود حينها على دخول الحرم الشريف برفقة قوة كبيرة من الشرطة الإسرائيلية، في خطوة هدفت إلى تكريس السيادة الإسرائيلية على المكان. وقد أشعلت هذه الزيارة موجة واسعة من الاحتجاجات داخل الحرم وفي محيطه، أسفرت عن إصابة 24 فلسطينياً، بينهم ثلاثة من أعضاء الكنيست الفلسطينيين إضافة إلى المرحوم فيصل الحسيني، جراء استخدام الشرطة الإسرائيلية للرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع. وسرعان ما امتدت هذه الاحتجاجات العنيفة لتعم القدس الشرقية ورام الله ومناطق أخرى، لتشكّل الشرارة الأولى لاندلاع الانتفاضة الثانية (الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، د.ت).
وفي يوليو/تموز 2017، أقدمت سلطات الاحتلال على إغلاق المسجد الأقصى بالكامل، في سابقة تاريخية منذ احتلال القدس، وذلك عقب عملية مسلحة نفذها ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم وأسفرت عن مقتل شرطيين إسرائيليين واستشهاد منفذيها. وقد حاولت شرطة الاحتلال استغلال الحادثة لفرض بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة على مداخل المسجد، إلا أن الحراس والمقدسيين رفضوا الدخول عبرها واعتصموا عند الأبواب مدة أسبوعين متواصلين، انتهت في 27 يوليو 2017 باضطرار الاحتلال إلى إزالة هذه الإجراءات. وقد عُرفت هذه الأحداث بـ هبّة باب الأسباط التي شكّلت محطة محورية في مسار الصراع على الأقصى، وأظهرت قدرة الفعل الشعبي على إفشال محاولات فرض التقسيم الزماني والمكاني. ومنذ ذلك الحين، فرضت الشرطة الإسرائيلية قيودًا إضافية على الحراس، فأبعدتهم عن المستوطنين المقتحمين مسافة 25 مترًا بعد أن كانوا يراقبونهم من مسافة مترين فقط (الجزيرة، 2021؛ معراج، 2025).
وهذا ليس الاحتلال الأول للقدس، فعلى امتداد التاريخ، تعرضت فلسطين عامة والقدس خاصة لسلسلة طويلة من الغزوات والاحتلالات. فمنذ تأسيسها على يد الكنعانيين اليبوسيين قبل ستة آلاف عام، توالت عليها القوى الغازية؛ من الفرس عام 539 ق.م، إلى الإسكندر المقدوني عام 333 ق.م، ثم الرومان عام 63 ق.م. وفي سنة 15هـ فتحها المسلمون بقيادة الخليفة عمر بن الخطاب، وظلت تحت الحكم الإسلامي ثلاثة عشر قرنًا حتى اجتاحها الصليبيون عام 492هـ/1099م، قبل أن يستعيدها صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م. وفي العصر الحديث، لم يتمكن المشروع الصهيوني من السيطرة عليها إلا عام 1948 بدعم غربي، ثم استكمل احتلال القدس عام 1967(البيتاوي، 2017).
وكما قال فضيلة الشيخ القرضاوي رحمه الله في مقدمة كتابه بعنوان: القدس قضية كل مسلم،"فالقدس في مهب الريح، في مواجهة الخطر الداهم، الخطر الصهيوني الذي بيت أمره، وحدد هدفه، وأحكم خطته، لإبتلاع القدس، وتهويدها وسلخها من جلدها العربي والإسلامي، وقد أعلن قراره ولم يخفه، وتحدى وتصدى وتعدى، ولم يجد من أمة الإسلام – على امتدادها واتساعها- من يصده ويرده" (القرضاوي، 2007).
فكل هذه التحركات تصب في اتجاه واضح يسعى إلى تفريغ الأقصى من طابعه الإسلامي، وفرض وقائع جديدة على الأرض، تمهيدًا لتقسيمه وربما تحويل أجزاء منه إلى معبد يهودي. ولا يستبعد أن يأتي يوم يقتحم فيه المسجد القبلي وقبة الصخرة، وتُقام فيهما الصلوات اليهودية، كما حصل في الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل. فإلى متى سيظل هذا الهوان؟ إلى متى ستبقى الأمة الإسلامية صامتة أمام هذا العدوان؟ الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى النبي محمد ﷺ ومعراجه إلى السماء. والدفاع عنه ليس خيارًا، بل واجب ديني وتاريخي وأخلاقي على كل مسلم.
د. هاشم رمضان
المراجع:
البيتاوي, جبر خضير. (2017). رؤية إسلامية لنهاية الاحتلال الإسرائيلي لبيت المقدس.
الجزيرة. (a2025، 17 سبتمبر). انتهاكات يتوقع أن تتجاوز الخطوط الحمراء مع حلول الأعياد اليهودية. الجزيرة.
الجزيرة. (b2025، 3 أغسطس). فوج متطرفين كل 10 دقائق.. بن غفير يقود أكبر اقتحام للأقصى. الجزيرة.
الجزيرة. (2021، 14 تموز/يوليو). هبّة البوابات الإلكترونية في ذاكرة حراس المسجد الأقصى. الجزيرة.
القرضاوي، يوسف. (2007). القدس قضية كل مسلم. Kotobarabia. com.
الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية. (د.ت). الجدول الزمني العام. تاريخ الاطلاع 17 سبتمبر/أيلول 2025، من https://www.palquest.org/ar/overallchronology?&sideid=13184
معراج. (2025، 14 يوليو). 8 أعوام على هبة باب الأسباط.. والأقصى في خطر داهم. https://m3raj.net/?p=21742