قواعد الاشتباك في المضمون .. الأهداف والوسائل

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


كثيراً ما يسمع المتابع للشؤون العسكرية مصطلحات وكلمات تحمل في مضمونها كثيراً من الإجراءات التعبوية التي لا يمكن أن يفسر كنهها إلا ذوو الاختصاص وأصحاب الشأن، الأمر الذي استدعى أن يضع بعض المختصين معجماً يعرف هذه المصطلحات حتى لا تحمل على غير محملها وليعرف ما هو المقصود منها على وجه التحديد، لاعتبار أن منها تشتق كثير من الإجراءات التعبوية التي تحمل في طياتها كثير من المخاطر والفرص والتهديدات.
ومن هذه المصطلحات والتي قد تعد من أهمها ــ لا نبالغ إن قلنا أنها أم المصطلحات ــ مصطلح قواعد الاشتباك، فما هي هذه القواعد وعلى ماذا يدل هذا المصطلح ؟ هل عندما يخرج القادة العسكريون أو السياسيون فيقولون: أننا نلتزم بقواعد الاشتباك ما التزم بها الطرف الآخر، يقصدون بذلك مجموعة من الإجراءات والسياسات المطلوب الالتزام بها والأهداف التي يرجون تحقيقها؟ أم أنه كما يظن البعض خطأ إن ما قيل إنما هو من باب الإنشاء اللغوي والتعابير اللفظية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إن الفرضية التي بنيت عليها هذه المقالة قائمة على أن قواعد الاشتباك إنما هي بيانٌ لفظيٌ يسنده عملٌ تعبوي يجبر الطرف الآخر على تغيير سلوكه وضبط تصرفاته، فإن لم تكن ــ القواعد ــكذلك؛ فإن التصريح بها والحديث عنها يضر أكثر مما ينفع ويفقد مصداقيته أكثر مما يردع عدواً؛ لذلك فإن هذه المقالة سوف تعرف قواعد الاشتباك ثم تتحدث عن أهم الأهداف المتوخاة منها والوسائل والمحددات المطلوبة لتضفي على هذه القواعد مصداقية تدفع طرفي النزاع للالتزام بها.
فما هو التعريف؟ وما هي الأهداف؟ وما هي الوسائل؟ 

تعريف قواعد الاشتباك: تعرف قواعد الاشتباك على أنها مجموعة من السياسات والضوابط، السياسية والتعبوية؛ الرسمية أو العرفية، التي تضبط السلوك القتالي لطرفي النزاع أو الحرب من حيث استخدامهم لقدراتهم القتالية، قبل وأثناء وبعد العمليات العسكرية التعبوية.

أهداف قواعد الاشتباك: وحيث أن أي عمل أو إجراء أو سياسة مقرة ومتبعة لا تتوخى تحقيق مجموعة أهداف تخدم مصلحة الطرف الذي يتبناها، لا تعدو كونها ضرباً من تبديد القدرات والمصداقيات، كان لا بد لقواعد الاشتباك قبل أن تقر أو يعلن عنها أو أن تُفصح هي بذاتها عن نفسها، كان لا بد لها من أن تحقق مجموعة من الأهداف؛ من أهمها:

  1. حماية الجبهة الداخلية للبلد: إن من أهم الأهداف التي تتوخى قواعد الاشتباك تحقيقها هو حماية الجبهة الداخلية للدولة والمجتمع من خلال الإظهار للعدو أنه في حال تعديه عليها ــ الجبهة الداخلية؛ فإنه سيواجه برد يجبي منه ثمناً أكبر بكثير مما حقق من مكاسب عندما استهدف جبهتنا الداخلية بالنار والدمار.
  2. تقصير المدى الزمني للحرب: كما أن من الأهداف التي يرجى تحقيقها من خلال الاعلان عن قواعد الاشتباك؛ تقصير المدى الزمني للحرب، فالحرب ـــ للمنتصر فيها والمهزوم ــــ أكلاف تجبى وأثمانٌ تدفع، وكلما طال زمنها زادت أكلافها، لذلك يحرص كلا طرفي الحرب على انجاز مهماتها وتحقيق أهدافها بأسرع وقت وبأقل الأثمان، الأمر الذي لقواعد الاشتباك فيه دور مهم وفعّال.
  3. تقييد القدرات الدفاعية والهجومية للعدو: ومما يتحقق من خلال التصريح عن قواعد الاشتباك؛ قولاً أو فعلاً؛ تقييد قدرات العدو الدفاعية والهجومية، فهو عندما يرى أنه إن صعّد في استخدام القدرات القتالية في حالتي الدفاع والهجوم، فإن الطرف المقابل له سوف يصعد هو الآخر من إجراءاته واستخدامه لقدراته، مما يعني زيادة الأكلاف وإطالة المدد، إن الطرف الآخر إن رأى هذا الأمر، دُفع بغريزة طلب تقليل الأكلافوالحد من الخسائر إلى الابطاء في الدفع بقدرات أكبر وأكثر دماراً في ساحة المعركة؛ الأمر المطلوب لذاته.
  4. تحديد إطار ضمني للمراحل التعبوية للعملية العسكرية،من حيث الأهداف والوسائط القتالية المستخدمة: من أهم الأمور التي يتوقف عليها مصير المعركة موضوع القيادة والسيطرة على الميدان والقوات المقاتلة في شقيها المناور والمساند، وهو أمر ــ السيطرة ــ يحرص كلا طرفي الحرب على منع غريمه وعدوه من كفاءة إعماله أثناء العمليات، من خلال تدمير وسائط ووسائل القيادة والسيطرة التي تدار من خلالها المعارك، وهنا يأتي دور قواعد الاشتباك لتقول للقوات المقاتلة في الميدان: أنه في حال قُطع التواصل معكم فإن تطور سلوككم القتالي وتحرككم التعبوي وانتقالكم من مرحلة إلى مرحلة مرهون بسلوك عدوكم وقواعد الاشتباك التي عندكم، فإن رأيتموه سلك سلوك معيناً؛ فليكن رد فعلكم على النحو التالي، الأمر الذي يشكل مساراً فعلياً للانتقال من مرحلة قتالية إلى مرحلة قتالية أخرى.
  5. تقييد جغرافيا العمليات العسكرية ومنع توسعها: ومن الأهداف أيضاً أن تمنع قواعد الاشتباك من تطور العمليات الميدانية واتساعها جغرافياً وحصر نارها ودمارها ضمن بقعة جغرافية معينة، فتقل بذلك الأضرار ولا يتسع الدمار، فالعدو عندما يعلم أن توسيع عمله التعبوي ليغطي مساحات جغرافية أوسع مما يتطلبه الموقف الميداني سيجر الطرف الآخر إلى توسيع النطاق الجغرافي لعملياته؛ سيرتدع ويحرص على عدم تطوير العمليات وتوسيع جغرافيتها.
  6. ضبط وتحديد أوامر القوات؛ المناورة منها والإسناد: في متون تقدير الموقف العملياتي فقرة معنية بتحديد أوامر القوات بمختلف صنوفها وتوصيفاتها القتالية، وهي أوامر يُنص عليها في متون محكمة غير حمالة أوجه ولا تترك لفهم المقاتل أو القائد، كما أنها واجبة الرعاية والإجراء ويحاسب من يخالفها، ما لم يفرض تطور الموقف الميداني على المقاتل النكوص عنها أو التحلل منها؛ بشكل دائم أو مؤقت، إن من أهم ما يحدد طبيعة وشكل هذه الأوامر مضافاً للمهمة؛ قواعد الاشتباك المنصوص عليها في ملحقات الخطط ومدونات السلوك.

كانت تلك أهم الأهداف التي يرجى أن تتحقق من خلال تبيان وتحديد والتصريح عن قواعد الاشتباك، ونأتي تالياً على ذكر أهم الوسائل والمحددات التي تفرض هذه القواعد وثبيتها وتمنحها مصداقية، فلا تخترق وتجبر الطرف الآخر على احترامها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه ما لم تتوفر هذه الوسائل وتلك المحددات، فإن تلك السياسات لن يُلتفت لها ولن يلتزم بها وستكون مقيدة لنا أكثر مما هي لعدونا، وعامل اعاقة أكثر منها وسيلة تسهيل وضبط سلوك وتخفيف أكلاف. 
وعليه فإن من أهم تلك الوسائل والمحددات ما يأتي:

  1. القرار السياسي: إن أهم ما يحدد قواعد الاشتباك هو: القرار السياسي؛ فالفعل العسكري إنما هو وسيلة سياسية استدعيت عندما عجزت الدبلوماسية عن تحقيق أهدافها، والفعل السياسي هو من سيحصد ما سيزرعه الفعل العسكري ويحول إنجازاته الميدانية إلى نصوص واتفاقات ومعاهدات سياسية، وهو ــ القرار السياسي ــ من سيتحمل مسؤوليات الفعل العسكري، داخلياً وإقليمياً ودولياً، وهو من يصادق على تلك القواعد ويعتمدها ويخرجها من حيز النصوص إلى الميدان والفعل التعبوي.
  2. قدرات قتالية دفاعية وهجومية مثبتة الصدقية: وقواعد الاشتباك لا يمكن أن تحقق ما هو مطلوب منها من أهداف جئنا على ذكرها سابقاً ما لم يقف خلفها قدرات قتالية؛ مادية وبشرية، مجربة كفوءة ومثبتة المصداقية، فالنص الإنشائي يبقى حبراً على ورق والتصريح السياسي يبقى صدىً في الأثير ما لم يُر له المتابعون والمراقبون أسناناً ومخالب، تخيف الطامعين وتضبط سلوك المتجاوزين.
  3. بنك أهداف معادي ذو مغزى: ومن متطلبات كسب المصداقية لقواعد الاشتباك المعلن عنها؛ توفر بنك أهداف في الجهة المقابلة يمثل التعرض له تهديداً ذو مصداقية تجبر العدو على التفكير في سلوكه وتحركه ألف مرة، فلا يقدم على أي خطأ وهو يعلم أنه سيجر عليه رد فعل مدمر يحيل حياته وحياة مواطنيه إلى كابوس طويل، أو قد يفقده رد الفعل ذلك قدرات قتالية؛ نارية أو إدارية، هو بأمس الحاجة لها في قادم الأيام لتشكل له درعاً واقية أو قوات صدمة إن تطور الموقف وخرجت الأمور عن السيطرة.
  4. جبهة داخلية محمية ومؤيدة: ومن لوازم صدقية قواعد الاشتباك؛ توفر جبهة داخالية محمية فكرياً وفيزيائياً من اعتداء المعتدين، فالعدو عندما يرسم قواعد اشتباكه فإنه يظهر لنا أنه يعلم كيف يوجعنا إن لم نلتزم بقواعد اشتباكه، وجزء من وسائل إيلامه لنا؛ التعرض لجبهتنا الداخلية بالتدمير والضغط عليها، فما لم تكن هذه الجبهة محمية ومؤيدة وداعمة لنا، فإنها ستتحول إلى أداة ضغط وعنصر قلق ونقطة قوة للعدو، يثّبت من خلال الضغط عليها ما يخدم أهدافه من قواعد اشتباك وإجراءات قتال.
  5. هشاشة داخلية عند الطرف الآخر، من حيث الشكل والمضمون: وفي نفس الوقت وبعكس ما قيل في النقطة السابقة، فإن هشاشة الجبهة الداخلية عند العدو؛ شكلاً ومضموناً، تشكل نقطة لصالحنا في تثبيت ما نريد وما يخدم أهدافنا من قواعد اشتباك تضبط سلوك العدو وردات فعله على فعلنا.
  6. رسائل متبادلة بين الطرفين، بشكل مباشر أو غير مباشر: بقي أن نقول إن ما قيل في السابق من وسائل ومحددات يبقى بلا فائدة ما لم تكن هناك قنوات اتصال مباشرة أو غير مباشرة بين طرفي النزاع، يوصل كل منهم للآخر ما يريد من رسائل، يفهمه من خلالها أن هذه هي قواعد الاشتباك التي تحكم الصراع، وأن هذا رد الفعل الذي ستواجه به مقابل كل فعل تقوم به، وأن ما سيجبى منك من أثمان هو أكبر بكثير مما ستحصل عليه من مكاسب، وأن مغارم فعلك أعظم من مغانمه، فارعوي وانضبط ولا تَشُط فَتُحَط.

الخلاصة والتوصية:

في الخلاصة والتوصية نقول: إن قواعد الاشتباك لا يجب أن تكون محل خلاف داخلي وعدم توافق مع جهات الاختصاص، ولا يجب أن يصرح عنها قبل أن يتم التأكد من امتلاك ما يثبت صدقيتها ويدفع للالتزام بها، وكل حرف فيها له معنىً وكل كلمة فيها من حيث الشكل والمضمون والترتيب في المتون؛ مقصودة بذاتها، ولم تورد من باب زيادة البيان الجمالي أو البلاغي، ولا يجب أن يُكثر من تكرارها في كل شاردة وواردة وعلى كل لسان، وهي ــ قواعد الاشتباك ــ من الكلام الذي لا ينطبق عليه قول العامة ( الكلام ما عليه جمرك ) بل هي الجمرك بعينه، وضريبة العبث فيها والتقليل من قيمتها والخفة في استخدامها وإفقادها مصداقيتها؛ دماء تسفك، وحواضر تدمر، وحريات تحتجز، والعاقل من اتعظ بغيره وعرفه حده فوقف عنده.

عبد الله أمين 

22 02 2021


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023