الأمن الحركي... الأهداف والمرتكزات 2/2

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


سنتحدث في هذا الجزء من المقال عن أهداف الأمن الحركي مشيرين هنا إلى أن هذه الأهداف الكلية قد يُشتق منها الكثير من الأهداف الجزئية والفرعية، هذه الأهداف هي: 

1. حفظ الأصول البشرية والمادية للحركة:

إن أهم ما تملكه أي حركة مقاومة أو تحرير أو حزب سياسي ــ سري أو علني ــ هو أصولها البشرية والمادية، فالكادر المدرب والمؤهل في مختلف المناصب والدرجات، يعد من أهم الأصول التي تمتلكها أي حركة، فهو من يخطط وهو من ينفذ وهو من يؤمن الدعم المادي والبشري، وهو الذي يشغل القدرات لتنفيذ الخطط، وعملية الوصول وتجنيد وتأهيل الكادر البشري في أي حركات مقاومة وكنتيجة طبيعية؛ لما تشهده هذه الحركات من تضييق ومطاردة وما تواجهه من تهديدات تعد من أعقد العمليات وأصعبها، حيث تخضع عملية الاختيار والتجنيد إلى كثير من الإجراءات وتسير في كثير من المسارات، المباشرة وغير المباشرة إلى حين تتم عملية المفاتحة وضم الكادر للعمل؛ لذلك فإن المحافظة عليه تعد من أوجب الواجبات وأهم المهمات التي تقع على عاتق قيادة الحركة ومؤسساتها، فإن كانت الدول المستقلة والمستقرة ومؤسسات العمل المدني فيها لديها فائض في الموارد البشرية تختار منهم متى شاءت بالقدر الذي تشاء، وتستبدلهم في الوقت الذي تريد، فإن حركات المقاومة لا تملك مثل هذا الترف لا في الوقت ولا في الموارد؛ لذلك تبذل قصارى جهدها في المحافظة عليه إلى الدرجة التي عُد فيها أصل حفظ الذات أهم أصل من أصول العمل المقاوم. 

كما أن حركات المقاومة لا تملك فائضاً في الأصول المادية من مقرات ومركبات وقدرات قتالية، فهي تحصل عليها بشق الأنفس وتطرق من أجل الحصول عليها كل باب، ولا تملك خطوطاً للإنتاج أو مصادر تمويل بحيث تنتج ما تشاء متى شاءت أو تحضر الكم الذي تريد متى نقص المخزون، لذلك عُد من أحد الأهداف الرئيسية للأمن الحركي المحافظة على أصولها المادية كما البشرية. 

2. حفظ الحاضنة الشعبية للحركة:

كما أن من أهداف الأمن الحركي المحافظة على الحاضنة الشعبية لهذه المقاومة، فما قامت الحركة إلا دفاعاً عن هذه الحاضنة ولتأمين أهدافها في الحرية والعيش الكريم، وهي ــ الحاضنة ــ علّة وجود المقاومة وسبب قوتها وعنصر ضعفها الرئيسي إن لم ينتبه لها وتراعى متطلباتها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحاضنة الشعبية قبل أن يطلب منها تأمين بعض متطلبات المقاومة من مال وعتاد ورجال، فإن حركة المقاومة مطلوب منها أن تؤمن ما يجعل هذه الحاضنة مؤمنة بهذه المقاومة وبعدالة قضيتها ونزاهة أهلها، وما لم تقدم المقاومة برجالها وسلوكها النموذج المطلوب والمثال الذي يحتذى، فإنه يصعب على الحاضنة ــ هذا إن لم يكن مستحيلاً ــ تأمين متطلبات صمود وبقاء المقاومة.

وَعُدَ هدف المحافظة على الحاضنة الشعبية أصل من أصول الأمن الحركية، كون هذه الحاضنة ببشرها وحجرها هي البيئة التي ستتحرك فيها المقاومة وستنمو وتراكم قدراتها فيها ومنها؛ لذلك ينطبق على وجوب تأمين أمنها ذاك الأصل الشرعي القائل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 

3. حفظ حرية العمل للحركة: 

ومن الأهداف التي يجب ملاحظتها عند الحديث عن الأمن الحركي، هدف تأمين وحفظ حرية العمل والحركة الآمنة لحركة المقاومة في بيئة عملها، فإن كان أصل المرونة من أهم أصول الحرب في العمليات العسكرية الكلاسيكية؛ فإنه لحرب العصابات وحروب التحرير أكثر أهمية، فمن خلاله  تتحول المقاومة إلى جسم غير قابل للتوقع أو الاستشراف، ومن خلاله تنجو المقاومة من كمائن العدو وغاراته، وبه تستنزف قدرات العدو المادي والبشرية والنفسية عندما تتحول ــ المقاومة ــ أمامه إلى شبح غير مرئي وكائن غير متوقع السلوك، يضرب حيث لا يُحتسب، لا يحكم سلوكه قانون ولا تحد تصرفاته قواعد، بمرونتها تحول نقاط ضعفها إلى قوة، ونقاط قوة عدوها إلى نقاط ضعف ومَقاتل. 

كانت تلك الأهداف الثلاثة الكلية التي تسعى المقاومة أوحركات التحرير لتحقيقها والدفاع عنها، وهي أثافي ثلاثة تجلس عليها المقاومة مستقرة مطمئنة أن لديها أصول بشرية ومادية محصنة تناور فيهم وبهم بحرية عمل في بيئة مساعدة حامية، فتحقق بذلك أهدافها وغاياتها الكلية وسبب وجودها وعلّة تكونها، إلى أن يحين موعد تحرير الأرض كل الأرض والإنسان كل الإنسان. 

أما ما يرتكز عليه الأمن الحركي فهي مجموعة مرتكزات، قد تختلف وجهات النظر فيها وتتعدد، كل من زاوية النظر التي ينظر لها من خلالها، سنأتي على أهمها بشيء من التفصيل، على أمل أن تكون مجال بحث وتدقيق وتطوير من قبل أهل الاختصاص والمهتمين. 

مرتكزات الأمن الحركي: 

  1. المنطلقات العقدية والأيدلوجية: إن أول قاعدة يرتكز عليها أمن حركة التحرر أو المقاومة، هي قاعدة العقيدة والأيدلوجيا التي انطلقت منها ولها تدعو وعليها تثقف كوادرها ومنتسبيها ومحبيها، ومنها تستمد منظومة قيمها التي تحكم سلوكها وسياساتها التي تضبط إجراءاتها، إنها الحصن الحصين والغلاف الواقي الذي يقي مكونات الحركة من أن ينفذ لها أو يوصل لها بالتخريب والعطب. إننا في زمن تحولت فيه عقول البشر إلى ساحات معارك وميادين مواجهة، وما لم تحصن هذه العقول بالأفكار والمبادئ والقيم الصلبة العصية على الضحد والتشويه، فإنها ــ العقول ــ ستتحول إلى رؤوس جسور يُنزل فيها العدو أولى بذور هجومه وتعرضه، بفكرة من هنا وقيمة من هناك، مشككاً هنا ومفنداً هناك، فتهتز الصورة الكلية لدى الكادر البشري وتضطرب نفسه ويختلط عليه عقله، فإن تم للعدو ذلك كنت أمام شجرة قد تظنها قائمة على جذع صلب وجذر راسخ، ولكن في الحقيقة في جوفها سوس ينخر وقوارض تقرض، ولا تلبث أن تسقط أمام أي هبة ريح وهزة أرض، دون اضطرار العدو لاستخدام بلطات الحطابين ومناجل الحاصدين. 
  2. الوحدة والانسجام القيادي: إن من أهم الأمور التي تشتق من المنطلق العقدي والأيدلوجي الذي تستمد منه حركة المقاومة أو التحرير رؤاها ومبادئها وأهدافها، ما يمكن أن نسميه الانسجام والتناغم القيادي، ولا نقصد هنا التطابق الكلي والتشابه التام، فهذا أمر دونه خرط القتاد، ولكن المقصود أن هذه القيادة التي تقود هذا المجموع البشري وتدير تلك الأصول المادية، تشترك في قواسم مشتركة كبرى وتتقاطع عند نقاط جامعة كبيرة تشكل مرجعية رؤيتها وتحليلها وحكمها على الأشياء إن ادلهمت الخطوب وارتفعت الأنواء، إن وحدة وانسجام القيادة مرتكزٌ مهم من مرتكزات الأمن الحركي كون هذه الطبقة من الناس هي التي تصوغ الرؤى وتضع الأهداف وتحدد المسارات وترتب الأولويات، وما لم تكن ــ القيادة ــ في رؤيتها للأمور الكلية منسجمة متفقة مرصوصة الصف ترمي عن قوس واحد، فإنها تحدث في الجهاز الدفاعي لحركة المقاومة شروخاً وثقوباً ــــ وإن صغر حجمها ودق ــــ إلا أنها تشكل نقاط ارتكاز لمعاول الهدم والتخريب تغرس فيها رؤوسها مرة بعد أخرى إلى حين هدم الجدار واستباحة الدار. 
  3. وحدة الصف والتماسك الداخلي: عندما تحدثنا عن الأيدلوجيا ووحدة القيادة وانسجامها ؛ لم نتحدث عنه كشيء مطلق غير مرتبط بعوامل أخرى، إنما تحدثنا عنهما كلازمة لغيرهما ألا وهو وحدة الصف والتماسك الداخلي بين أبناء حركة المقاومة أو الحزب السياسي، فهما ــ الأيدلوجيا والقيادة ــ  يعدان المادة اللاصقة الرئيسية التي تجمع الصف الداخلي على اختلاف مكوناته العمرية والجغرافية والجنسية، وهي من توحد رؤاهم وتعبئ طاقاتهم وتوجهها باتجاه الهدف، فالصف الداخلي ما لم يكن متماسكاً متعاضداً يتحرك بشكل منتظم باتجاه الهدف، فإنه سيولّد من خلال حركتة الداخلية غير المنتظمة وغير المنسجمة طاقة حرارية سترفع درجة حرارة الجسم إلى أن توصله إلى حالة الغليان فالليونة غير المطلوبة لجسم الأصل فيه الصلابة ليتمكن من مواجهة العوادي والأخطار، أو أنه مع الحصر الإجباري الناتج عن السياسات والضوابط، ستتحول طاقته الحرارية تلك إلى طاقة متفجرة تفجر الجسم وتشظيه وتعيده أثراً بعد عين، وهذا الانسجام لا يتأتى من نفسه ما لم يكن هناك عوامل ومساعدات توجده وتحافظ عليه، منها وعلى رأسها: العدل وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والتطوير والارتقاء المهني والوظيفي والتقدير الفردي للعاملين والمنتسبين وشعورهم بالأمن الوظيفي وأن هناك من سيخلفهم في أهلهم بعد غيابهم الدائم أو القصري بخير، فيتماسك الجسم ويصلب العود ويصعب الاختراق ويتحقق الأمن الحركي، الفردي والجماعي. 
  4. الحاضنة الشعبية:كما أن من الأمور التي تساعد على تحصيل الأمن الحركي، وجود حاضنة شعبية مقتنعة بالفكرة وبالأهداف التي يعمل على تحقيقها، وبالرجال الذين تجسدت فيهم هذه الأفكار ويعملون لتلك الأهداف، إن هذه الحاضنة هي التي ستتحرك فيها المقاومة وتنمي قدرتها مما توفره لها من إمكانات بشرية ومادية، وما لم تُحصّن هذه الحاضنة وينتبه لها من العبث والاختراق، فإنها ستتحول إلى نقطة ضعف لا يمكن السيطرة عليها أو سترها أو منع العدو من الاستفادة منها، إنها ــ الحاضنة ـ  ستتحول إلى حقل ألغام عشوائي غير معروف العدد أو النوع والخريطة، فيتوقع الانفجار فيه مع كل خطوة وكل حركة. إن أهم ما يمكن أن يقدم للحاضنة الشعبية من أمور تقويها وتجعل من الصعب اختراقها هو: تقديم النموذج الحسن المقبول لها من خلال سلوك المقاومة، رؤساءً ومرؤوسين. 
  5. تقديم النموذج للأتباع والمرؤوسين: نختم بعمود خيمة هذه المرتكزات ألا وهو تقديم القادة والمسؤولين لمرؤوسيهم النموذج الحسن والقدوة الصالحة، للأفكار والمعتقدات والسلوكيات والمواقف التي يطالبونهم بها ويحثونهم عليها، وقديماً قيل: "إن أردت أن تكون إمامي فكن أمامي"، يجب أن يقدم المسؤولون القدوة الحسنة والنموذج الذي يحتذى لجنودهم في التضحية والإيثار والشجاعة والإقدام وتحمل المسؤولية وعدم الهروب منها والعدل بين الرعية، وأن يقولوا الحق ولو على أنفسهم وأن يجروا المقررات والقوانين ولو على ذواتهم ومن يحبون. 

كانت هذه أهداف الأمن الحركي ومرتكزاته ذكرناها بعد أن عرّفنا الأمن الحركي والمخاطر التي تواجه أبناء حركات المقاومة والتحرير أو منتسبي الأحزاب السياسية، والثغرات التي يمكن أن تشكل مداخل للعدو يصل منها وعبرها إلى جسم حركة المقاومة أو التحرير، فيبطئ من سيرها أو يحرفها عن أهدافها أو يسقطها في نظر شعبها وبنيها، متحيناً الفرصة المناسبة ليسدد لها الضربة القاضية التي تطوي صفتحها وتغلق ملفها. 

عبد الله أمين 

29 03 2021


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023