مسار التحرير... بين الواقع والتنظير 2/3

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

مسار التحرير... بين الواقع والتنظير

2/3

تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة حول مسار التحرير وبعض متطلبات بنائه، حيث تحدثنا عن ثلاثة مكونات من مكونات هذه المسار هي: 

أولاً: تحديد الهدف. 

ثانياً: تعريف العدو أو الأعداء. 

ثالثاً: تعريف الحليف أو الحفاء. 

ونستكمل في هذا الجزء بعضاً من تلك المكونات والتي هي على النحو الآتي: 

رابعاً: تهيئة البيئة الداخلية والإقلمية: كما يجب تهيئة البيئة الداخلية والإقليمية لمثل هذا المشروع، فبيئة المقاومة الداخلية أو ما يعبر عنه بالحاضنة الشعبية، إن لم تكن في صورة بناء هذا المسار ولم يؤخذ رأيها ـــ بالطرق المناسبة ـــ لما هي مقدمة عليه قيادة المقاومة من عمل سيقع عبء تحمل ردة فعل العدو فيه على هذه البيئة وتلك الحاضنة، إن لم يؤخذ برأيها ــ الحاضنة ــ وتستشار؛ فكيف سيطلب منها أن تتحمل عبئ هذا العمل الذي سيكون دماء وأشلاء وهدم وتشريد!! كما أن البيئة الإقليمية التي تتحرك فيها المقاومة بين حليف وصديق ومنافس؛ يجب أن تكون في صورة ما هي مقدمة عليه المقاومة، فتكسب رأي ودعم الحليف وتعاطف الصديق وغض طرف المنافس عن بعض التحركات والمزاحمات التي تقع في مساحة التنافس المشتركة. 

بهذا تصبح البيئة مهيئة لتقبل عمل المقاومة وطبيعة ما تطلبه من إمكانات وما يمكن أن تجره من أكلاف على بيئتها وحلفائها والأصدقاء.

خامساً: بناء المسار: في هذا الشق من العمل؛ لابد من التذكير أننا نتحدث عن مسار بناء، مما يعني أننا سنبدأ من نقطة معينة وننتهي عند نقطة محددة، ستكون هناك مراحل تتبعها مراحل، ومداميك عمل تبنى على ما سبقها من مداميك، لن يكون العمل بضربة واحدة ولا بكبسة زر على لوحة تحكم، إنها عملية طويلة تراكم قوة إلى قوة وتضم إنجاز إلى إنجاز، سيكون فيها نجاحات، كما أنها لن تخلو من اخفاقات، سيفرح العاملون فيها بالإنجاز وسيحزنون عند كل إخفاق، ولكن ما لا يجب أن ينسى أو يُغض الطرف عنه هو: أننا يجب أن نحدد أهداف كل مرحلة  والمشاركين فيها ودور كل واحد منهم والجداول الزمنية لتحقيق الأهداف وإنجاز المراحل، ثم وبعد الانتهاء من كل مرحلة، يتم التقييم للتقويم، واستخلاص العبر لإعادة النظر، ثم تختم المرحلة لتبدأ مرحلة ثانية من العمل ومراكمة الإنجازات في مسار بناء المسار.

سادساً: تحديد الفاعلين الرئيسيين: نصل بعد أن تحدثنا عن الحلفاء والأصدقاء والأعداء، إلى تحديد الجهات الفاعلة الرئيسية في مسار تحرير فلسطين، فالبعض يظن أن تحرير فلسطين هو فعل فلسطيني صرف يقوم به أهلها مع بعض إسناد من الخارج على شكل تأييد سياسي أو عمليات تعبوية ذات طابع تشتيتي في جهد ثانوي أو خداعي يصرف العدو عن التركيز على الجهات الداخلية التي ستتحرك في عملية التحرير، ولجعل الأمر أكثر وضوحهاً؛ فبعض أهلنا في غزة يرون أنه يقع على عاتقهم الجهد الرئيسي في عملية تحرير فلسطين، الأمر الذي إن نمّ عن شيء فإنما ينمّ عن حس بالمسؤولية العالية والالتزام الشديد نحو القضية، فعلاً وقولاً؛ لكن الأمور على غير ذلك، ففي الحسابات التعبوية الصرفة فإن ما لدى المقاومة من قدرات قتالية على الصعيد البشري والمادي، وعند تقسيمها على مهام عمل تتوخى تأمين المؤخّرات، وتثبيت بعض قدرات العدو من أن تناور في وجه أي تقدم من طرف غزة، وقوات مناورة مهمتها الأندفاع شمالاً وشرقاً باتجاه مدننا المحتلة، وقوات إسناد ناري مدفعية قوسية ومباشرة، وغير هذا من الأعمال التعبوية،  بعد هذه التقسيم فإن أي صاحب اختصاص يضع أمامه خريطة عمليات منطلقها غزة؛ يرى أن مثل هذه القوات المتمركزة في غزة وبعد تقسيمها على الجهود التي ذكرنا؛ لا يمكن أن تتجاوز في إندفاعها منتصف مدينة عسقلان المجاورة للقطاع شمالاً، ولن تصل في أحسن أحوالها من الشرق سوى إلى الحافة الغربية لمدينة بئر السبع، مع وجود خطر كبير جداً على القوات المناورة وقوات التثبيت التي سيطلب منها تثبيت وتأمين ما يحرر من أرضٍ تقع ضمن منطقة عملياتها. وهذا أمر غير خاضع للعواطف ولا للرغبات ولا للمعنويات، وإنما هو أمر خاضع أولاً وأخيراً للحسابات التعبوية البحتة التي تعد سنة من سنن العمل العسكري المطلوب مراعاتها وعدم تنكبها لتحصيل معية الله ونصره. وهنا نصل إلى ضرورة وأهمية تحديد الجهات الفاعلة في عملية التحرير التي يجب أن تستصحب في هذا المسار فلا تغفل ولا يغض الطرف عنها ولا تستدعى فقط عند بدء المعركة أو إعلان ساعة صفرها لذرائع أمنية أو إدارية؛ قد تكون محقة، الأمر الذي يتطلب البحث عن طرق وتدابير عمل  مناسبة لتجاوز هذا الاعتبار ــ الاعتبار الأمني أو الإداري ــ. أما عن الجهات الفاعلة فنعتقد أنها ستكون على النحو الآتي: 

  1. حركات المقاومة في الداخل: إن أول الجهات الفاعلة في عملية التحرير والتي نعتقد أن لها دور مهم في مجريات العمليات العسكرية كقوات مناورة أو إسناد ناري أو إداري أو قوات تثبيت أو احتياط هي: مختلف فصائل المقاومة العاملة في الداخل، في غزة وفي الضفة، فلكل منها دور حتى لو صغر، فعملية التحرير بحاجة إلى كل جهد تعبوي فعلي يشارك في الدماء والأشلاء، وإلى كل جهد قد يكون ثانوي يساعد في تحرير مزيد من القوات العاملة لدى المقاومة التي ستشارك في الجهود التعبوية التي أشرنا لها سابقاً، وحتى تكون هذه الحركات وتلك المجاميع على قدر المسؤولية ويركن لها ولا تفشل في مهامها، مشكلة رأس حربة في عملية التحرير؛ كان لا بد من التفاهم معها من الآن على فكرة المناورة في عملية التحرير ودور كل منها في هذه المناورة، وطرق رفع كفاءتها واستعدادها على الصعيدين البشري المادي، وطريقة تصرفها وحركتها أثناء المعركة حتى لا تكون عامل إعاقة بدل من أن تكون نقطة قوة. إن هذا الأمر من الأهمية بمكان بحيث يجب أن تكرس له الأوقات وتخصص له الموارد وتجرى له التمارين والمناورات التعبوية المتتالية، وصولاً إلى حالة الاطمئنان المطلوبة التي تجعل القيادة العسكرية التي ستقود عمليات التحرير من الداخل مطمئنة لفعل هذه القوات، فتتحرك ــ قيادة المقاومة ــ بمجاميعها التعبوية وهي مطمئنة إلى أن ظهرها مسنود ومحمي. 
  2. حركات المقاومة في الخارج: حيث أن حركات المقاومة في الداخل تشكل رأس الحربة التي يُطعن بها العدو في عملية التحرير محققة فيه ما تستطيع من خسائر بشرية ومادية وفقاً لما تملك من قدرات وإمكانات؛ فإن حركات المقاومة في  الخارج والتي بعضٌ منها هو امتداد أو جزء من حركات المقاومة في الداخل؛ اقتضت طبيعة العمل والظروف السياسية والأمنية أن يكون مقرها خارج فلسطين، هذه الحركات وغيرها من حركات المقاومة العربية والإسلامية التي تربي بنيها ومنتسبيها على الجهاد وحب فلسطين، وأن أوجب الواجبات بعد الإيمان؛ رد العدو الصائل؛ هذه الحركات يجب أن تفتح معها أبواب العلاقات وخطوط التنسيق، بهدف التفاهم على دورها في عملية التحرير القادم، وكيف ستقوم بهذا الدور، كما يجب أن يتم تحديد دورها في جهود التحرير الرئيسية والثانوية وعمليات الإسناد النارية والإدارية، في هذا السياق يجب أن تعقد حلقات النقاش والحوار لتوحيد المفاهيم والمصطلحات في مختلف المجالات حتى يتم توحيد الفهم والتأكد من أن الجميع يقرأون من كتاب واحد ويصدرون عن مشكاة واحدة، وما لم يتم هذا الأمر من الآن وفي زمن الرخاء والدعة؛ فإنه يكاد يكون مستحيلاً أن ينجز وقت الشدة وساعة التحرير. 
  3. حركات المقاومة في الخارج والتي تتقاطع مع المقاومة الفلسطينية على هدف زوال الكيان وتحرير فلسطين: فحركات المقاومة غير الفلسطينية هذه في الوطن العربي والإسلامي دور في عملية التحرير يجب تحديده من الآن والاتفاق على تفاصيله وطرق القيام به، فبعضها تتقاطع مع حركات المقاومة الفلسطينية في أن الكيان الغاصب لفلسطين يعد أحد التهديدات التي تواجهه، وكما أن فلسطين أرض لأهلها؛ فإن فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فإن كان تحريره من غاصبيه هو فرض عين على أهل فلسطين؛ فهو واجب دينيٌ يجب أن تشترك فيه تحريره هذه الحركات. إن هذه الحركات تعد ظهيراً مهماً في عملية التحرير وعمقاً استراتيجياً للمقاومة الفلسطينية يمكن أن يستثمر ويستفاد منه بشكل كبير إذا ما تم تحديد معالم ومفردات مشروع التحرير ومسار بناءه، والدور المناط بكل فاعل من الفاعلين والمشاركين فيه، الأمر الذي يتطلب عمليات تنسيق وترتيب ولقاءات وحوارات خلف أبواب موصدة، وبعقول مفتوحة، تقدم العام على الخاص والإستراتيجي على التكتيكي وذو الأولوية على ذي الأريحية. 
  4. الجهات الدعمة الحقيقية للمقاومة وخياراتها: في هذا السياق يجب تحديد من هم الداعمين الحقيقيين للمقاومة الفلسطينية وخياراتها السياسية والعسكرية، وما هو دور كل من هؤلاء الداعمين في مسار التحرير هذا، فمن كان منهم في الساقة فهو في الساقة، ومن كان في المقدمة فهو في المقدمة، فليس صحيحاً أن كل العلاقات التي تقام وتبنى وتمد جسورها هي علاقات فاعلة ومؤثرة في مسار التحرير الحقيقي وجهوده العسكرية وغير العسكرية، بل على العكس إن بعض هذه العلاقات لو أُمعن النظر فيها وما يترتب عليها إنطلاقاً من أن العلاقات السياسية ليست قائمة على قاعدة عمل الجمعيات الخيرة ولا النوادي الرياضية؛ فإننا سنرى في بعضها معيقاً أو مثبطاً أو معرقلاً، فما يسع الدول المستقلة المستقرة من علاقات وسلوكيات وإجراءات؛ قد لا يسع حركات المقاومة، وجدول أعمال تلك الدول يغص بنقاط العمل التي قد لا تشبه في شيء جدول أعمال حركات المقاومة، كما أن ترتيب الأوليات وتخصيص القدرات والجداول التنفيذية للإجراءات والمهمات لتلك الدول قد لا يتقاطع ولا يشبه في شيء برامج عمل حركات المقاومة وترتيبها لأولوياتها، لذلك يجب إعادة النظر في شبكة العلاقات التي تمتلكها حركات المقاومة لاستبقاء ما يصب منها في أصل الهدف القاضي بتحرير الأرض كل الأرض والإنسان كل الإنسان، والتخفف مما يثقل الحركة ويعيقها. 

نختم هذا الجزء من هذه السلسلة عند هذا الحد، على أن نتحدث في الجزء الأخير من هذه السلسلة عن باقي مكونات هذا المسار والمتعلقة بتحديد القدرات وتخصيصها، والمهمات ونظام الإشراف والمتابعة أو ما يعرف بمنظومة القيادة والسيطرة. 

عبد الله أمين 

19 04 2021


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023