الصناعة الربانية لجيش التحرير
عندما تكون المهمة على عاتق الجندي عظيمة، فإن تأهيله لأدائها يكون مميزا، فكيف إذا كان الله عز وجل هو الصانع، والوحي ( قرآنا وسنة) هو المعدّ والمؤهل والمربي؟ وكيف إذا كانت المهمة إنقاذ البشرية وتطهيرها من لوثة التاريخ والشجرة الملعونة في القرآن لتبدأ من الأرض المقدسة عالمية الإسلام الثانية؟
لقد قال الله عز وجل في سياق تعداد نعمه على سيدنا موسى في سورة طه أنه سبحانه ابتلاه ابتلاءات كثيرة ومتنوّعة فقال سبحانه في سياق تعداد النعم: "وفتناك فتونا" [ طه:41]، كيف لا وهو المصنوع على عين الله ليزيل عرش الطاغية الجبار المتأله على الله، وليعالج أنكد جبلّة في تاريخ البشر؟ فكان هذا الإنضاج في أتون المحن ابتلاء وراء آخر، إنما هو التأهيل اللازم للنجاح في المهمة العظيمة.
روى الإمام أحمد بإسناد حسن من حديث كعب بن مالك عن بيعة العقبة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلبوا منه أن يشترط لنفسه فقال لهم: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم " قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايِعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر"/ مسند أحمد (25/92، 93). والشاهد هنا قوله: ( ورثناها كابرا عن كابر). هنا يتحدث البراء عن أهليتهم للقيام بهذه المهمة العظيمة من حماية النبي صلى الله عليه وسلم كونهم أهل السلاح والحرب ورث ذلك جيل لهم عن جيل، فأبٌ يسلّم راية القتال لابنه. وشتان بين من نشأ بين الحروب تنضجه في أتونها طفلا فشابا فهرما، ثم يسلّم رايتها لابنه وهكذا.. وبين جيل لا يعرف عنها إلا ما سمع أو قرأ. شتان شتان. لذلك كان قتال المسلمين لمسيلمة في حروب الردة من أصعب القتال وأشرسه ذلك أن جيش مسيلمة كان من بني حنيفة الذين قاتلوا أربعين سنة متواصلة بني تغلب في حرب (البسوس/ داحس والغبراء)، فهم من نشأ في الحرب جيلا بعد جيل.
ولما علم الله عز وجل أن الدور المنوط بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو تحطيم عرش كسرى وقيصر، ومن بعدهم، وأن العرب المسلمين لم تكن لهم خبرة خوض المعارك الطويلة ضد جيوش نظامية، فأطول معركة كانت تستمر ساعات، لكن الله يعلم أنهم مقبلون على حروب تستمر أياما، لذلك كان من حكمة تدريبهم وتأهيلهم لملاحم القادسية واليرموك، أن دربهم أحد عشر شهرا في قتال متواصل ضد المرتدين، حتى إذا استوت سوقهم، ونضجت خبرتهم ألقى بهم في معمعان الروم وفارس يطؤون رؤوسهم ويمرغون كبرياءهم بالتراب.
أفلا ترى معي يا جندي العقيدة كيف يصنع الله عز وجل جند القسام على عينه؟ هاك مسيرتهم يوم لم تكن ثَمّ إلا قطعة سلاح واحدة تتبرك بأكثر من يد متوضئة، ولها مع كل بطل حكاية، ومع كل شهيد ملحمة.. ثم انظرهم وقد استوت سوقهم في الفرقان( 2008،2009)، ونضجت تجربتهم في حجارة السجيل(2012)، ليعجب زرعهم الزراع يوم العصف المأكول (2014)، وتدنو ثمرة نصرهم يوم سيف القدس (2021)، فلم يبق إلا أن يفرح المؤمنون بنصر الله يوم ملحمة التتبير. فإذا علمت أن كل ذلك كان في ظل تآمر الجار ذي القربى والجار الجنُب والصاحب بالجنب وابن السبيل، كلٌّ يرميهم عن قوس واحدة، فما لانت لهم قناة، ولا ضرهم خذلان، ولا أعطوا الدنية في موقف، بل كانوا كلما تقدمت الأيام وازدادت نار المحنة يزدادون لمعانا وبريقا وتألقا، أدركت أنها الصناعة الربانية لجيش التحرير الذين اصطفاهم الله عز وجل دون سائر خلقه لهذه المهمة العظيمة.
أكتب هنا متحدّثا بنعمة الله عز وجل على أطهر المجاهدين، وأطهر مشروع، وأطهر قضية. وكيف يأبى الله عز وجل إلا أن يمايزه عمن سواه، حتى عمن هم معه في خندق العداء الواحد للعدو المشترك. ويأبى الله عز وجل بين الحين والحين إلا أن يرينا آية تلو آية على أن في أكناف بيت المقدس أحبابَه الذين يحبهم ويحبونه، وأولياءه الذين يصنعهم على عينه، وجنده الذين سيغير بهم وجه الأرض.
وكلما غطى ضباب التآمر مع ما يحمله من غبار الألم والمحن على أفق الخلاص، يرينا الله عز وجل شعاعا من نور الأمل أن ها هنا الطريق ولا سواه. أقول هذا تحدثا بنعمة الله عز وجل أولا، ثم ذكرى تنفع المؤمنين حتى لا نصغر في أنفسنا عن دورنا الكبير الذي ينضجنا الله في قلب المحن لتسنّم ذرى مجده.
وأنتم يا جند الله في رباط عسقلان، يا فتية الله في البقعة المباركة، يا فتيةً يمنحوننا من حصارِهم حريتَنا، ومن آلامِهم آمالَنا، ومن ظمئهم ريَّ عزِّنا، ومن تدثُّرِهم بالموت يبيت في فُرُشِهم وينامون في حضنه حياةَ أملِنا ومجدِنا وكرامتِنا. لست أشك - والله- أنكم الفجر القادم للأمة كلها يعدّكم ربكم الحكيم لإشعال جذوته، ليبدأ بقيادتكم عالمية الإسلام الثانية. ولست أشك أن ذلك قريب قريب، وأقرب مما نظن.
ويأبى الله عز وجل – كلما امتدت الأيام، أو بلغت القلوب الحناجر وظُنّ بالله الظنون- إلا أن يرينا أنكم في الناس لا كالناس، وبين المجاهدين الأطهرُ قضيةً، والأنقى سريرة، والأقوى شكيمة، والأهدى ىسبيلا. وأن مسرى حبيب الحق وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أكرمُ على الله من أن تعلي راية حريتِه إلا أياديكم الطاهرة.