الفعل الميداني... الاستثمار والمتطلبات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

الفعل الميداني... الاستثمار والمتطلبات 

يقال في أصل التعريف الكلي للعمل العسكري والتوصيف الوظيفي للمؤسسة العسكرية بكافة صنوفها وإداراتها، أن مهمتها تحول الأهداف السياسية إلى مهام عسكرية، عبر تحقيق مجموعة إنجازات ميدانية يمكن أن يتم تحويلها إلى أوراق عمل وروافع ضغط يستخدمها السياسيون في مفاوضاتهم مع الأعداء والخصوم، بحيث تتحول هذه المنجزات الميدانية إلى نصوص تحريرية في قوالب اتفاقات ومعاهدات، تؤمن المصالح وتدافع عنها. 
وبعد انجلاء المعارك وهدوء غبارها، ترتفع أصوات الاحتفالات لدى الجهة المنتصرة وتوزع النياشين والأوسمة على المحاربين، قادة ومقاتلين، أما في الجهة المهزومة، فترتفع أصوات التلاوم وتقاذف المسؤوليات بين مختلف جهات الدولة، السياسية منها والعسكرية، فالسياسي يلقي بمسؤولية الهزيمة على العسكري محمله هو ومرؤوسيه ومن تحت إمرته ما وصلت له البلاد من هزيمة، فقد أُعطوا ما يلزم من الوقت والمقدرات لإنجاز المهمة، ولكنهم فشلوا، ويرد العسكريون القول للسياسيين دافعين عن أنفسهم مسؤولية الهزيمة، فلم تكن الأهداف التي طلب منهم تحويلها إلى مهام عسكرية واضحة أو متناسبة مع ما وضع بين يديهم من قدرات مادية وبشرية، فضلاً عن أن الوقت الذي طلب منهم أن ينجزوا خلاله الأهداف لم يكن كافياً.
إن مثل هذا النقاش وتقاذف المسؤوليات بعد الهزيمة مبرر ومفهوم ويحتاج إلى نقاش وبحث للوقوف على حقيقة الموقف وسبب الفشل والهزيمة، لكن أن تُحقق جهة ما نصراً أو صموداً أو منعاً للعدو من تحقيق لأهدافه ثم لا تستطيع هذه الجهة أن تترجم هذا النصر أو الصمود إلى مكتسبات سياسية، فهذا هو الغريب والمشكل الذي يحتاج إلى بحث وتفصيل، الأمر الذي ستعمل هذه المقالة على الحديث حول بعض  الأسباب والمتطلبات التي تساعد على استثمار الفعل الميداني لازمة الوجود لتتمكن المؤسسة العسكرية من تحويل الأهداف إلى مهام قابلة للإنجاز، يستثمرها الساسة على طاولة المفاوضات وفي غرف المؤتمرات حماية للأهداف وصوناً للمنجزات، والتي من أهمها ما يأتي : 

  1. هدف أو أهداف سياسية واضحة : إن أول متطلب من متطلبات القدرة على تحويل الفعل الميداني إلى منجز سياسي يحقق الغايات ويحمي المصالح ويدافع عنها هو: وضوح الأهداف السياسية المطلوب الوصول لها، بحيث يكون هناك فهم لدى جميع المستويات القيادية، السياسية منها والعسكرية لهذه الأهداف وأحقيتها، وأنها يمكن أن تشكل المبرر القانوني والأخلاقي، للداخل قبل الخارج، لشن الحرب وبذل الدماء في سبيلها، وأن هذه الأهداف إنما هي أهداف الشعب وأبناء الدولة قاطبة، وليست أهداف طبقة سياسية أو عرق من الأعراق أو مذهب من المذاهب أو حزب سياسي يتولى الحكم اليوم ومن الممكن أن يحكم غيره في الغد، ما لم تكن هذه الأهداف بهذا الوضوح وذاك المستوى من الإجماع عليها، فإنه يصعب أن تحول إلى مهام عسكرية قابلة للتحقيق ومن ثم للترجمة السياسية.  
  2. تناسب هذه الأهداف مع القدرات: كما أنه من الأهمية بمكان أن لا تحدد القيادة العليا للدول أهدافاً سياسية غير متناسبة مع القدرات البشرية والمادية المتوفرة بين يديها الآن أو التي يمكن أن تتوفر وتعبئ بعد الشروع في العمل العسكري، فأن تخوض حرباً لا تملك أدواتها ولا قدراتها بحيث تذهب فيها إلى نهايتها، فهذا يعني مقامرة غير محسوبة العواقب، قد تأتي على أخضر البلد ويابسها دون طائل، وتعقد الموقف وتنقله من سيء إلى أسوء، وقد تضيع مكتسبات كانت موجودة قبل الخروج الحرب، لا تلبث أن تزول بعد ارتفاع صوت المدافع وأزيز الرصاص. 
  3. بيئة وظروف سياسية ملائمة ومساعدة: فالعمل العسكري ليس منقطعاً عن بيئته أو منبت عنها، وإنما هو أبن بيئته السياسية،منها يولد وفيها تتطور مواقفه، وقد تكون البيئة السياسية والظروف المحلية والإقليمية والدولية غير مساعدة لخوض الحرب، ونقل حلقات التفاوض من الغرف المغلقة إلى الميادين المفتوحة، وفي مثل هذا الموقف والظرف غير المساعد، فإنك حتى لو حققت نصراً أو تجاوزت الموقف بصمود أبهر المراقبين، فإنك لن تستطيع أن تحول هذا النصر وذاك الصمود إلى نصوص سياسية تخدم أهدافك، فقد يتكالب عليك الداخل والخارج، والقريب قبل البعد، لتجويف نصرك الذي حققت وصمودك الذي صمدت، فيغدو أثراً بعد عين، لذلك فإن دراسة البيئة والظروف السياسية قبل أخذ قرار الحرب، يعدل في أهميته، إن لم يفوق، أخذ قرارها والضغط على زناد نارها. 
  4. قيادة سياسية منسجمة ومتفاهمة: كما يتطلب استثمار النصر و( تقريشه ) إلى قيادة سياسية منسجمة متفاهمة، يشعر الجميع فيها أنه جزء من القرار وأنه شريك في المسؤولية، وأن على عاتقه تقع مسؤولية الدماء والأشلاء التي ستراق وتقطع، فلا يظهر التناقض بين مختلف عناصر القيادة السياسية عند أول اشتباك يُخسر، أو ضحية تقع، أو منشأة تدمر، فما دام الموقف مساعد والنصر حليف القوات في الميدان، فإنك لن تسمع حسيس الخلاف وتناقض المواقف، ولكن عندما تبدأ التقارير بالورود عن الخسائر والتضحيات والدمار ــ فهذا من طبيعة الحرب ــ تبدأ الأصوات والإيماءات تظهر، ويعبر عنها في لحن القول، وعندها لا ترجو نصراً وإن حصل، ولا تنتظر استثمار أو( تقريش ). 
  5. تناغم وتنسيق وتفاهم بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية: فالقيادة العسكرية هي الأداة التي ستباشر تحول الأهداف إلى مهام، وهي المطلوب منها أن تسلم القيادة السياسية موقفاً ميدانياً يمكن أن يبنى عليه ويستثمر فيه، فما لم تكن هذه القيادة مشاركة من البداية في وضع تلك الأهداف، شاعرة أنها ليست مجرد أداة تنفيذية فقط، وإنما شريك وجهة قرار وصحابة خيار فيما يتفق عليه، فإنها ــ القيادة العسكرية ــ ستشعر بالغربة وبعدم الانسجام مع المستويات القيادة الأخرى، الأمر الذي سينعكس حكماً وبشكل سلبي على سلوكها الميداني وفعلها التعبوي. 
  6. فريق مفاوض محترف وصاحب خبرات ومعارف ومهارات تفاوضية: فكما أن للميدان العسكري أهله وفرسانه الذين يعرفون من أين توكل كتف المواقف الميدانية والاشتباكات العسكرية، فيخرجون من كل احتكاك بإنجاز ومن كل اشتباك بنقطة، فإن للفعل السياسي أهله وللمفاوضات ناسها، يعرفون خفي الألفاظ ومشكل المواقف، ومتى يقدمون فـــ ( يطحشون ) ومتى يمسكون فيصمتون، متى ترتفع الأصوات وكيف يقرأ ارتفاعها ويفسر، ومتى يتحدث بالإشارة والإيماءة فتصل رسالتها، قوم رؤوسهم باردة وقلوبهم ثابتة، إن تحدثوا أقنعوا، وإن صمتوا أخافوا، فاصلة النصوص عندهم لها معنى، ونقطة الوقف تحمل في كتاباتهم مضامين، قومٌ يستشعرون ثقل حمل مسؤولية الدماء والأشلاء، عرفوا رائحة الخنادق، فلم تبهر عيونهم ولم تُزغها بهارج الفنادق. 
  7. شبكة علاقات داخلية ــ بيئة حاضنة ـــ  واقليمية مساعدة على ( تقريش ) الفعل الميداني: فلا غناً عن مثل هذه الشبكة التي تساعد في تثمير الفعل الميداني وجني ثماره، فالأولى ــ الداخلية ــ هي رأس المال ونقطة الضعف أو القوة التي سيحاول العدو الضغط عليها لتجويف النصر وتبخيس الصمود ومنع تثبيت الإنجاز، والثانية هي الرافعة الخارجية التي تؤمن الدعم والمدد المادي والسياسي الذي يحتاجه كل مفاوض، هي من تحيطه علماً بالأجواء الخارجة والظروف الإقليمية، وهي من تصنع له شبكة الأمان التي تساعده على الصمود وعدم الوقوع في أفخاخ التفاوض وكمائن المفاوضات، وهي التي تساعده على تقديم المبرر الأخلاقي والسياسي لما يطالب به وما يسعى له، وبتظافر جهود كلى البيئتين، يمكن تحقيق الأهداف وتثبيت الإنجازات. 
  8. خيارات عمل خشنة ممكنة التفعّيل إذا اقتضت الحاجة: نختم بالقول أن طاولة المفاوضات وغرف المؤتمرات قد تفشل ولا تصل إلى الغاية المطلوبة، لذلك لابد أن يكون هناك من خيارات العمل الخشن ما يمكن تفعيله، بحيث يُلجأ له عند الحاجة، لفتح من اغلق، وتحييد ما عرض من عقبات تحول دوننا والوصول إلى الغرض. 

كانت تلك بعض متطلبات استثمار النصر وتحويل الفعل الميداني إلى نصوص سياسية تترجم في غرف المفاوضات وعلى طاولة المباحثات، إلا أن هذه المتطلبات بحاجة إلى بعض  الضوابط والسياسات التي تضبط سيرها وتضمن نجاحها والتي منها وأهما الآتي:

  1. تحديد الخطوط الحمر والسقوف السياسية: فلا يمكن تصور مفاوضات سياسية أو مباحثات دبلوماسية دون سقوف سياسية حقيقة واضحة غير قابلة للتنازل عنها، وليست من باب التهويل ولا ( البهورة ) وإنما تمثل الحد الأدنى الذي لا يمكن تصور تجاوزه حتى لو بقيت الحرب مشتعلة الأوار تجبي أرواحاً ودمار. هذه الخطوط تمثل الأهداف الحيوية التي خيضت الحرب بناء عليها وقدمت التضحيات على مذبحها. 
  2. عدم استنفاد الخيارات الدبلوماسية والعسكرية من الجولة الأولى: كما أن من الضوابط المتصورة واجبة الرعاية التي تفيد في عمليات المفاوضات، عدم استنفاد جميع خيارات العمل الميداني ووسائله، فالمفاوض عندما يجلس إلى طاولة المفاوضات وهو قد رأى سقف الفعل  الخشن للطرف الآخر، فإنه يجلس وهو متحرر نفسياً من أي ضغط يمكن أن يمارس عليه كتهديد باستئناف الحرب أو الفعل الميداني، فما جُرب ألمه سابقاً، ممكن تحمل التهديد به لاحقاً. 
  3. عدم اشتراك مستويات عليا في عمليات التفاوض: فمن الخطأ القاتل أن يشارك في المفاوضات أعلى مستوى قيادي في الدولة، أو أن يُشعر الوفد المفاوض في الجهة المقابلة له أنه يحمل تفويضاً يخوله قول ما يقول وتوقيع ما يُتفق عليه، فلا بد من بقاء هامش المناورة موجود وإمكانية رفع اللقاءات لمراجعة المرجعيات خيار متاح، كون شعور الطرف الآخر أن من يجلس أمامه هو صاحب القرار النهائي فيما  يتحدث فيه ويتفاوض حوله، يشجعه على استخدام كل وسائل الضغط وأساليب التفاوض لأخذ ما يريد منه ودفعه إلى قبول ما يطرح من خيارات، مطمئناً أنه لن يعود للتنازل عما وافق عليه، خاصة إذا تم  تثبيت ما تم التفاهم عليه على ورق وضمن نصوص، حتى ولو في القراءة الأولية لها. 
  4. عدم دفع العدو إلى زاوية الانتحار: كما أن من ضوابط العملية التفاوضية المطلوبة لاستثمار الفعل الميداني؛ عدم دفع الطرف الآخر إلى زاوية الانتحار ومربع الاخيار، فكما أننا لا يجب أن نتنازل عن خطوطنا الحمر وسقوفنا التفاوضية، فإنه في نفس الوقت يجب أن لا نريق ماء وجه الطرف الآخر ونشعره أنه عاجز غير قادر على فعل شيء، وأنه مجبرٌ على التوقيع على ما نريد والتسليم بما نقول، لأن مثل هذه الموقف يحول الطرف الآخر إلى مقاتل لا يخشى الموت ولا يعبئ بالأكلاف، فهو الغريق فما خوفه من البلل. 

إن الفعل الميداني ما لم يواكبه من بدايته إلى نهايته فعل سياسي موازٍ عارف ببواطن الأمور مقدر للموقف بشكل سليم، فإنه سيواجه فشلاً وعقبات كأداء عندما يراد تحول هذا الفعل إلى منجز ومكتسب سياسي. الأمر الذي حاولت هذه المقالة وفي عجالة أن تسلط الضوء عليه، علّه يكون محل بحث ونقاش وإثراء، حتى لا تضيع التضحيات وتجوف الانتصارات. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ". 

عبد الله أمين 

12 -07 -2021


   

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023