لماذا أخفق الأمريكان في أفغانستان؟

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


بقلم الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين 
24 08 2021

كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول الانسحاب المذل للأمريكان من أفغانستان، إن كان هناك من طريقة أفضل لخروجهم من هذا البلد الذي يضرب الفقر أطنابه فيه، فلا ماء ولا كهرباء ولا وسائل رفاهية؛ ما عدا ما يساعد على ضبط المجتمع والسيطرة عليه ورصد ما يعتمل فيه من خلال وسائل الاتصال والتواصل التي دخلت إلى البلد مع دخول المحتل عام 2011، وقد صرح الرئيس الأمريكي جون بايدن مؤخراً أن أفغانستان هي مقبرة للغزاة، فما غزاها غازٍ وخرج منها سالماً، لكن ألم تكن تعلم ( أعظم ) دولة في العالم قبل غزوها لهذا البلد أنها مقبرة للغزاة؟ أين هي مراكز الدراسات وخزانات التفكير ((Think Tanks التي توزع ( حلولاً ) معلبة على العالم زاعمةً أن فيها ـــ الحلول ــ خلاص البشرية ونجاة الإنسانية؟ أين هي وكالة الأمن القومي، وغيرها من الوكالات الأمنية الأمريكية، التي تشغّل عشرات آلاف الموظفين والكوادر الفنية للتنصت على العالم وضبط أنفاسه؟ لماذا وقفت عاجزة أمام هذا الشعب العظيم والمضحي؟ إن هذه المقالة تحاول أن تجيب على سؤال لماذا عجزت هذه ( الإمبراطورية ) أمام هذا الشعب الفقير في إمكانياته الغني في ذاته؟ سنحاول أن نسجل أهم الأسباب التي نعتقد أنها هي ـــ بعد معية الله وتأييده ـــ ما وقف خلف هذا الفشل وهذه الفضيحة المدوية لهذه القوة الصلفة التي ظنت أنها بلا قيود ولا حدود ولا متحدٍ قادر على كسر شوكتها ورد كيدها إلى نحرها، وسنقسم هذه الأسباب إلى فئتين، ما يخص القوات الأمريكية، وتلك المتعلقة بطالبان خصوصاً والأفغان عموماً: 

ما يخص الأمريكان: 

  1. عدم وضوح المهمة: لم تكن المهمة التي خرجت لها أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واضحة بشكل دقيق، فهل كانت المهمة تدمير القاعدة؟ أم تدمير إمارة طالبان؟ فإن كانت المهمة تدمير القاعدة والقضاء على مركز ثقلها في الجغرافيا الأفغانية، فقد تحقق هذا الأمر من بداية الحملة الأمريكية على أفغانستان، فقد دكت الطائرات الأمريكية معسكرات القاعدة في جلال أباد وخوست وغيرها من المناطق التي كانت تنتشر فيها هذه المعسكرات، كما ضربت مبانٍ سكنية كانت تستخدم كمضافات للقاعدة أو مراكز ( قيادية ) وإدارية في معظم مدن أفغانستان، من كابل إلى قندهار وجلال آباد فغزني وغيرها من المدن، وأحالت هذه المقار أثراً بعد عين، بل إن القاذفات الاستراتيجية من طراز B52 زلزلت مرتفعات تورابورا ودمرت ما كان فيها من أنفاق ومغاور تؤوي بعض كوادر ومنتسبي القاعدة، قبل أن تُرسل القوات الخاصة إلى تلك المرتفعات لتفتيشها والبحث عن بقايا حياة فيها، لقد تشتت شمل القاعدة في الأيام الأولى من الغزو الأمريكي، ولكن لم يعلن عن انتهاء المهمة !! كما أن إمارة أفغانستان الإسلامية سقطت عاصمتها السياسية كابل بعد أن مهدت قوات الغزو الأمريكي لتحالف الشمال بقيادة عبد الرشيد دوستم والجنرال عطاالله وغيرهم من قادة الشمال الأفغاني، بعد أن مهدت لهم الطريق للوصول إلى كابل، كما سقطت عاصمتهم ( الروحية ) قندهار، وتشتت شمل قادة طالبان بين إيران وباكستان، أو ( ذابوا ) في نسيج مجتمعهم فغدوا ( اشباحاً ) تُرى ولا تعرف، ثم تَسلمت حكومة من صنيعة الأمريكان زمام الحكم في أفغانستان، فإن كان الهدف كما قيل وأعلن عنه من تدمير هذين الجسمين، فقد انتهت المهمة بنجاح، وكان على الأمريكان الانسحاب من المنطقة وترك أهلها يقلعون شوكهم بأيديهم، ولكنهم ــــ الغزاة ـــ لم يفعلوا، بل سدروا في غيهم محاولين تحويل أفغانستان إلى نقطة ارتكاز للمشاغبة على روسيا وإيران والصين، وهنا الحديث يطول ويمتد، لكن نختصر فنقول : إن أهم عامل في فشل أو نجاح المهام العسكرية هو وضوح هذه المهام ومعرفة أهدافها، الأمر الذي نعتقد أن الأمريكان أخفقوا فيه، فلم تكن ــ وما زالت ـــ  مهامهم في هذا البلد غير واضحة ولا محددة. 

  2. طول زمن المهمة وتحولها من مهمة مؤقتة إلى مهمة دائمة: ترتب على عدم وضوح المهمة؛ طول زمنها وامتداده ليصل إلى العشرين سنة !! لقد تحولت هذه المهمة المؤقتة إلى مهمة دائمة تطلبت هيكليات وإدارات وقدرات شبه ثابتة تَشغَل القادة في مختلف المستويات، بل وصل الأمر إلى الدرجة التي أصبح ينظر لهذه المهمة على أنها مصدر رزق ودخل لأجسام وهياكل نمت على جانب القوات العسكرية، كقوات دعم وإسناد ناري وإداري، من شركات النقل والأطعمة إلى شركات الأمن والحماية وقوات المتعاقدين الأجانب ـــ بلاك ووتر وأخواتها ـــ فضلاً عن الأفغان الذي ارتبطوا بهذه القوات من مترجمين وإداريين وغيرهم من الجنسيات الأخرى، بحيث أصبحت مصلحة هذه الأجسام تقتضي دوام هذه المهمة وعدم انتهائها، فبقاؤها يعني بقاء هذا المصدر المالي، وانتهاؤها يعني غلق باب الرزق هذا إلى غير رجعة، كما أن من آفات طول المدة؛ ترهل القوات وغياب الدفاعية عندها وانخفاض مستوى تحفزها وجاهزيتها وحذرها، وهو أمر ساعد في تكشف نقاط ضعف القوات الغازية، فسهُل على طالبان وغيرهم من فصائل المقاومة الأفغانية استهدافهم وانزال الخسائر البشرية والمادية فيهم.   

  3. عدم وحدة القيادة: لم تكن القوات الأجنبية ـــ International Security Assistance Force (ISAF)  ــ  في أفغانستان ذات قيادة موحدة، فقوات حلف شمال الأطلسي العاملة في أفغانستان كانت مكونة من قوات ما يقارب من اثنتين وعشرين دولة؛ إن كانت تجمعها قيادة واحدة على مستوى الأركان، إلا أنها في ميدان العمل لم تكن تعمل بشكل مشترك أو في عمليات موحدة، الأمر الذي جعل من وحدة القيادة هذه؛ وحدة شكلية أكثر منها وحدة تعبوية ذات أهداف مشتركة أو متفق عليها بين مختلف هذه القوات، وفي مثل جغرافيا وديموغرافيا دولةكأفغانستان، تعد وحدة القيادة من أهم عوامل الانسجام وتوحيد الجهود على الأهداف، الأمر ــ توحيد الجهود ــ الذي لم يكن متوفراً في بيئة العمل تلك، مما انعكس اخفاقاً وهزيمة لجميع تلك القوات، وإن كان الظاهر في الصورة أكثر من غيره هي القوات الأمريكية التي وسمت بوسم الهزيمة هذه. 
  4. عدم معرفة البيئة والأعراف والعادات السائدة فيها : مع أن الأمريكان وحلفاءهم جلسوا في أفغانستان ما يقارب العشرين سنة؛ إلا أنهم لم يعرفوا البيئة التي يعملون فيها بشكل جيد، وهذا لا يعني أنهم لم يحكموا إغلاق العملية المعلوماتية في أفغانستان، فأقمارهم الصناعية وطائراتهم بدون طيار، لم تكن تغادر سماء أفغانستان، وكانت تواكب العمليات العسكرية والتحركات الإدارية لكل القوات التي تتحرك في تلك الجغرافيا، بسهولها وجبالها، كما أنهم كانوا يملكون ( مصادر ) معلومات بشرية منتشرة في كل مدينة وقرية، وتتنصت أجهزتهم على من تريد متى تريد، ولكن مع كل هذه المصادر البشرية والفنية، إلا أنهم وقفوا عاجزين عن سبر النفس البشرية للمواطن الأفغاني الذي يعتمر العمامة أو البكول ( الطاقية الأفغانية ) فلم يصلوا إلى ما يدور في ذاك الرأس تحت تلك العمامة، وظنوا أنهم باصطحابهم متخصصي الأنثروبلوجيا وقدرتهم على فهم مصفوفة الأعراف والعادات التي تتحكم في سلوك الأفغاني، ففهموا أنه للتقرب منه ــ الأفغاني ــ  عليهم البس كلبسه والمشي كمشه والأكل باليد كأكله باليد، وشرب الشاي الأخضر بدلاً عن الشاي الأحمر، وتعلم بعض المصطلحات التي تساعد في تقبله له، ظنوا بفعلهم هذا أنهم يمكن أن يسيطروا على المواطن الأفغاني، ولكنهم غفلوا أو أغفلوا أهم صفة في هذا الشعب ألا وهي : عدم ثقته بالأجنبي، مطلق أجنبي، مسلماً كان أم مسيحياً عربياً كان أم عجمياً، حتى وإن بدا لك أنه يثق بك أو أظهر لك ما يوحي بذلك، فعدم الثقة بالأجنبي جينةٌ وراثية تنتقل من الأب للابن، ومن الأم لابنتها، وما لم يعرف من يتعامل مع هذا الشعب هذه الصفة؛ فإنه سيقع في شر أعماله ويخسر ما ينفق من ماله.

هذه بعض أهم الأمور المرتبطة بالأمريكيين، والتي يمكن أن تنسحب على جميع القوات الأجنبية التي شاركت في احتلال هذا البلد، التي جعلتهم يخسرون معركتهم هذه ويخرجون منها وذيلهم بين أسنانهم. أما الأمور التي ساعدت في دحر طالبان والافغان للأمريكان، فيمكن الحديث عن أهمها والتي هي على النحو الآتي. 

  1. وضوح الهدف: إن أهم سبب في هزيمة أي عدو وتحقيق النصر عليه هو وضوح الهدف المراد تحقيقه، لقد كانت الأهداف منذ اليوم الأول لاحتلال أفغانستان واضحة في أذهان الأفغان وطالبان، أولاً يجب الحفاظ على الذات، ثانياً يجب جمع كل ما يمكن من إمكانات بشرية ومادية وتعبئتها ضد هذا المحتل، وأخيراً قتاله بلا هوادة وبما تيسر من قدرات إلى أن يندحر عن الأرض ويصان العرض، هدف بسيط واضح مجمع عليه مفهوم لدى الكل، معروف الأكلاف متفق على دفعها، والسلام. 

  2. بساطة قوات طالبان: كما أن الهدف كان بسيطاً، كانت  القوات التي تريد أن تنفيذه بسيطةً، قوات غير معقدة، مجاميع من أبناء القرى والمدن، ترى في هذا المحتل عدواً يجب قتاله، تبانت فيما بينها على قتاله، فحشدت أفضل ما لديها من قدرات؛فلم تكن غير الكلاشن كوف أو البي كي سي أو الآر بي جي وبعض القنابل والنسفيات، أما عن وسائل النقل فيتراوح ثقيلها بين البغال الاسترالية التي تنقل العتاد والذخائر كأفضل ناقلة جنود مدرعة جبلية المهام، غير متناسيين أسطول سيارات التويتا غير المصفحة وخفيفة الحركة، هذا فضلا عن عربات النقل الخفيف المتمثلة بالمتورسيكلات التي تنقل مقاتلين على متنها، لا يعيقها عائق ولا يوقفها حاجز، وإن سدت في وجهها الطريق، فتحت هي بنفسها لنفسها طريقاً ثانية. قوات مسلحة بما تيسر، تتغذى على ما تيسر، إذا تيسر، فلا تعقيدات نقل ولا تسليح ولا دعم إداري، ولا كل هذه المركبات التي لا تستطيع الجيوش التحرك بدونها. 

  3. صلابة ومبدئية طالبان: على بساطة عيشهم وقلة مؤونتهم؛ إلا أنهم شعب صلب، صلابة جبالهم التي يصعدونها، وصخورهم التي يقتلعونها، فلا يفت عزمهم عزم، لا يفكرون في أكثر من مسألة ولا يشغل بالهم أكثر من قضية، يصبون كل الجهود عليها حتى تنقضي، أو يقضي من هو متصدٍ لتلك العملية، مبدئيون إلى درجة محيرة، فلا مذهب غير المذهب الحنفي، وإن كان ولابد من الاعتراف بمذاهب أخرى؛ فليكن، ولكن أفضلها الحنفي!! هذا في الدين فما بالك فيمن خالفهم في الدين؟ هم في عدائه مبدئيون وعن قتاله لا ينزاحون. 

  4. اسقاط عامل الوقت من المعادلة: أما أهم الصفات التي يتصفون فيها كشعب عموماً، خرج من بين صفوفهم طالبان فهو عامل ( اللازمان ) فليس هناك شيء اسمه عامل وقت في أي عمل، ولا يغرنك أن ترى في أيديهم الساعات أو ضبط جوالاتهم على تنبيهات، فلا قيمة لكل هذا، فما لا يأتي اليوم، يُنتظر للغد، فإن جاء فبها ونعمت؛ وإن لم يأت، ننتظره إلى بعد الغد أو بعد بعد الغد ( واللي عند أهله على مهله )، فلا يضغطهم وقت ولا يضبط سير عملهم جدول زمني.

كانت هذه بعض النقاط السريعة التي تساعد في فهم لماذا اخفق الأمريكان في أفغانستان، ولماذا أخفق قبلهم الروس، وقبل الروس البريطانيون، وبعد كل هؤلاء، كل من تسول له نفسه وطء هذه الأرض والاشتباك مع هؤلاء القوم، فستنكسر قرونه على صخرتهم، وسيعود خائباً مدحوراً، يجر أذيال الفشل خلفه، آخذاً بذيله ـــ هذا إن بقي له ذيل ــــ بين أسنانه، سائلاً الأمن  والسلامة. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023