عن الجندي... في الذات والصفات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

عن الجندي... في الذات والصفات 

تحدثنا في سلسلة مقالات "عن الحرب" ؛ عن الحرب وأنها أعقد نشاط إنساني يمكن أن يمارسه بني البشر، لما يكتنف هذا النشاط من الضد والنقيض، ولما يتعرض له فيه الإنسان من ضغوط نفسية وبدنية، قد تصل إلى حد سفك الدم وازهاق الروح، وقلنا أن أحد أسباب تعقيد هذا النشاط هو ما تتميز به الحرب وما تتصف به بيئتها من صفات، من غموض ومجهول وجهد، وما تكتنزه هذه البيئة من فرص، وقلنا أنه لا يمكن العمل في مثل هذه البيئة والتغلب على ما فيها من صعاب ومشاق إلا بتوفر عناصر أربعة هي: القيادة والإنضباط ورفقة السلاح والتحفيز وتوازن نفسي وروحي يتحلى به المقاتل ؛ قائداً كان أم مَقوداً. ثم تحدثنا في سلسلة " عن القائد " حول القائد ومسؤولياته وما يجب أن يعرفه على الصعيدين التعبوي والمعرفي، حيث خضنا في هذا الموضوع على مدار خمسة أجزاء، نعتقد أنها جاءت على أهم ما يجب أن يعرفه من سيقود ؛ ليقود. وحيث أن العمل العسكري ــــــــ وأي عمل آخر ــــــــ كما ذكرنا في أحد المقالات هو عبارة عن: أهداف ووسائل وطرق عمل ؛ كان لا بد لنا من أن نتحدث عن أهم وسائل خوض الحروب،والتي يرتبط مصيرها بجودة هذه الوسيلة وجاهزيتها، إنها الإنسان الذي يضفي قيمة على ما يحمل أو يُشغّل من قدرات. هذا الإنسان الذي يقع على عاتقه سوق الموقف إلى النصر، أو الحد من خسائر الهزيمة وأكلافها، إنه هذا الجندي الذي يتمرس في القتال ويكتنز العلوم والمعارف والخبرات، ويحمل من الجروح والندوب، ما يجعل منه أهلاً لأن يرتقي في سلم العمل وصولاً إلى منصب القيادة ؛ القيادة التي تَخرجُ من رحم الأرض والميدان، وتنمو مع الزمان وتقدم التضحيات تلو التضحيات، فتنقاد لها النفوس طائعة مختارة، وليست القيادة التي تنزل على المكان بمظلة المحسوبية ! أو بوساطة النسب والقرابة !، فمن هو هذا الجندي الذي نريد ؟ وما هي ذاته وما هي مواصفاته ؟ إننا ما لم نحسن اختيار هذا الجندي من البداية، ونسهر على تربيته ونوليه أكبر العناية ؛ فإننا لن نستطيع تشغيل ما بين أيدينا من القدرات، وستنهار المعنويات ونخسر المعارك والاشتباكات، والقاعدة تقول: إنك تستطيع أن تنفق الأموال على إنشاء الجيوش، ولكن لا تستطيع أن تنفق المال لتجعلها تقاتل !! وبنظرة بسيطة رجوعاً للخلف ؛ سنرى جيوشاً أنفق عليها المليارات وألبست أفضل الملابس وجهزت بأفضل التجيهزات، ولكنها لم تصمد أمام اختبار الحرب، ولنا في مثال أفغانستان الأخير خير دليل، فقد أنفقت أمريكا مليارات الدولارات على إنشاء جيش، قالت هي أن عديده بلغ الثلاث مئة ألف مقاتل، أُنفق عليهم ما يقارب الثمانين مليار دولار، قدرت ـــ أمريكا ـــ أنه سيصمد بعد انسحابها من أفغانستان بين السنة والسنتين ؛ فإذا به ينهار خلال أقل من شهرين !!

إنه الجندي ؛ رأس المال الأول والأخير، فما هي معايير الذات ومعايير الصفات التي يختار على ضوئها هذا الجندي ؟ سنتحدث في هذه المقالة عن أهم هذه الصفات، على صعيد الذات والمواصفات، ولن نفصل بينها، فهي متداخلة في بعضها البعض، يؤثر أحدها على الآخر، يقوى ضعيفها بقويها ، ولن نخوض في التفاصيل الصغيرة، كون توفر هذه الكليات يعني حكماً توفر باقي المعايير والصفات. إنها معايير وصفات تشتق منها باقي الصفات والميزات، وعليها يتوقف ــ بعد توفيق الله ـــ حسن تنمية وتزكية باقي السجيات التي هي ليست أصلاً في الذات، ولكنها يمكن أن تزرع وتنمى لدى المقاتل وتُتَعَهد تعهد الطري من النبات، فتغدو أشجاراً وارفة الظل، باسقة القامات. 

  1. أن يكون بالغاً عاقلاً: إن أول صفة من مواصفات الجندي أن يكون بالغاً سن التكليف الشرعي، عاقلاً لما هو مكلف بيه مقدمٌ عليه ، فجزءٌ من مناط التكليف الشرعي، العقول والبلوغ، إنه سيمارس فعلاً عدّه أهل الشرع بمثابة السنام من الجمل، فهو أعلى مراتب التكليف بعد الإيمان، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا ؛ ليس أوجب بعد الإيمان من رده، وهذا بحثٌ شرعي نترك لأهل الاختصاص مُلّاك الآلة التفصيل فيه. 
  2. السلامة البدنية والروحية: وقد يكون الإنسان عاقلاً بالغاً، ولكنه غير مستقر نفسياً ومضطربٌ روحياً، عليل البدن سقيم الصحة، فأنى له أن يمارس هذه الفعل الذي يتطلب سلامة في البدن، وصحة في النفس والروح، إنه سيتعرض لمشاق بدنية وضغوط نفسية ؛ تدع الحليم حيران، سيرى الدماء من حوله تسيل والأشلاء تتطاير، ورفاق الدرب والسلاح بجانبه يصابون ويتساقطون، فإن كان عليل البدن سقيم الروح والنفس ؛ فأنى له أن يعين من هو بحاجة لعونه في ساحة المعركة ومتاريس الاشتباكات، لذلك على كل من يتصدر لمثل هذه المهمة، أن يحافظ على سلامة بدنه، واستقرار نفسه وروحه، فلا تخذلانه، فيلجأ لهما بعد الله عندما يعز النصير. 
  3. التوازن العاطفي والنفسي: ومن صفات الجندي التي تساعد على تحمله أعباء ومشقات مهامه وتكاليفه التعبوية القتالية ؛ التوازن العاطفي والنفسي، فلا يطيش عقله فرحاً ببشائر نصر لاحت، ولا ينخلع فؤاده لعزيز فُقد، أو لعدو صال وأجلب عليه بخيله ورجله، إنه يحزن بقدر، ويفرح بقدر، فما هو بجلمود أصم، خالي من العاطفة، وليس بمرهف الحس بحيث تنطلي عليه خُدع الخادعين وحيل المحتالين، ليس بالخب ولا الخب يخدعه، بكّاءٌ ليلاً بين يدي ربه، أسدٌ هصورٌ في ميدان القتال، يُطيشُ العقول، ويترك العدو مهزوماً مخذولاً. 
  4. الفهم السليم: فالفهم السليم هو الذي يساعد في تمييز الغث من السمين، والأهم من المهم، وهو الذي يساعد على ترتيب الأولويات وتجنيب الذات والمقدرات المواقف المهلكات، إنه الذي يمكن الجندي من معرفة مهمته بشكل سليم، ومعرفة ذاته ونقاط قوتها وضعفها، ومعرفة عدوه وأين هي نقاط ضعفه ونقاط قوته، والفهم السليم هو الذي يمكن الجندي من اغتنام الفرص وتجنب التهديدات، ولا يمكن أن تتم المناورة الناجحة التي تدمج بين الأرض والسلاح والمقاتل، ما لم يكن هناك فهم سليم للعناصر الثلاثة هذه، لذلك يُخضَعُ المقاتل للاختبارات، ويوضع في مواقف حرجة ليمتحن فهمه، وتُسبر رجاحه عقله. 
  5. المعرفة الشاملة: والمعرفة الشاملة للمهمة والذات والأرض والعدو، هي التي تمكن الجندي من فهم الموقف وتحديد المخاطر وتحيّن الفرص، وهي ــ المعرفة ــ هي التي تمكن الجندي من استثمار ما بين يديه من قدرات بأفضل الطرق، فلا يَستنزف قدراته في غير طائل، ولا يقاتل حيث يجب أن لا يقاتل، المعرفة الشاملة للموقف والإحاطة به هي التي تقول للمقاتل متى يكون الإحجام أفضل من الإقدام، والمعرفة الشاملة هي صفة يتملكها الجندي بحسن تواصله مع رفقاء سلاحه وقادته ومن هم في ميدان العمل معه، إنها صفة ينمّيها الجندي بملء أوقات فراغه في النافع من الأعمال والنشاطات والهوايات، كما أن قائده ينميها له بحُسن تدريبه وتأهيله وتثقيفه وفتح الضروري من قنوات المعلومات ليطلع على ما يساعده في إدارة الموقف على أحسن وجه. 
  6. المنظومة القيمية الحاكمة: إن ساحة المعركة وميدان القتال إن لم تكن تحكمها مبادئ وأخلاق وقيم إنسانية، تتحول إلى ساحة صراع غاب بلا ضوابط ولا أخلاقيات، إن ساحة المعركة ساحةٌ تغيب عنها القوانين والمقررات في كثير من المواقف والحالات، ويمكن أن تبرر فيها كل السلوكيات والأخلاقيات، فإن لم يكن هناك منظومة قيم تربى عليها الجندي في البيئة التي خرج، منها وتلك التي يعمل فيها، من صدق وأمانة ووفاء بالعهد ورحمة ورأفة، ما لم يتصف الجندي بهذه الصفات وتحكم سلوكه تلك القيم والأخلاقيات ؛ فإنه يتحول إلى آلة قتل، لا تعرف لم قَتَلت وفيما تقاتل، يتحول الإنسان، فضلاً عن الجندي بدون هذه القيم والأخلاق إلى وحش كاسر، القتل عنده غاية، وليس وسيلة إحياء لقيم الحرية والعدالة والمساوة.  
  7. إبن الشعب والبيئة: والمقاتل ما لم يشعر أنه ابنٌ لهذا الشعب ؛ منه خرج ودفاعاً عنه يقاتل، بل هو وكيل عن أصيل هو شعبه وأبناء بلده، ما لم يشعر بهذا الشعور، فإنه سيغدو مختالاً فخوراً، فحمل السلاح والتجول ضمن مجاميع الناس المدنيين العزل، وسلطة استخدام القوة الممنوحة للجندي ؛ كلها تجعله يرى نفسه فوق المسائلة، وأنه أفضل من الآخرين، وأن على الآخرين تقديم التسهيلات له ؛ كيف لا وهو ـــ على حد زعمه ـــ يخاطر بروحه ودمه للدفاع عن هذا الشعب، وينسى هذا الجندي أن هذا الشعب وهذه البيئة إن هي تخلت عنه ولفظته ؛ فلن ينفعه سلاحه ولا ما يملك من قدرات. وفي نفس الوقت إذا لم يشعر الجندي أنه ابن هذا الشعب ولتأمين مصلحته ودفاعاً عنه يقاتل ويخاطر، إذا لم يشعر بهذا الشعور، فإنه سيجر هذا الشعب من خراب إلى خراب ومن دمار إلى دمار، وسيتحول من أداة حماية إلى وسيلة خراب ودمار. 
  8. صاحب قضية وليس ممتهن مهنة: إنه صاحب قضية من أجلها يقاتل وفي سبيلها يضحي، فهو ليس موظفاً في شركة، ولا عاملاً في مصنع، حتى ولو تفرغ لـــ (مهنة ) القتال وأخذ أجراً آخر الشهر ليقيم أوده ويسد حاجته، إنه شعور داخلي يتولد عنه شعورٌ بالمسؤولية تجاه شعبه ووطنه وما وضع بين يديه من مقدرات وما منح له من صلاحيات، إن هذا الشعور هو الذي يدفع المقاتل للتضحية بالغالي والنفيس، وأنه مهما قدم لهذه القضية من تضحيات، فإنه مطالب بما هو أكثر مما قدم. 
  9. حسن المعشر سهل الجانب: فهو سيحتك بأشخاص ورفقاء درب وسلاح من بيئات مختلفة ومشارب فكرية متعددة، تحكم سلوكهم أعراف وعادات غير موحدة، فإن لم يكن حسن المعشر سهل الجانب ؛ فإنه سيصطدم بهذه البيئة وسيتحول إلى عنصر تفجير وتفتيت لوحدة وتماسك القطعة العسكرية التي يخدم فيها، فضلاً عن أنه لن يكون قادراً على العمل ضمن فريق عمل وبنفس جماعية، فالمهام العسكرية في طبعها، مهام جماعية التنفيذ، لا ينهض بها شخص وحده، وتتطلب تنسيق وتفاهم وتنازل عن الفهم والرأي الفردي الشخصي أمام رأي المجموع. 
  10. نكران الذات: إنه الجندي عندما يتطوع لعمله هذا فإنه يتنازل عن كثير من تسهيلات الحياة، ودعة العيش ورفاهيته، في سبيل تأمين أمن بلده ومصالح شعبه، وقد يتمتع بمنجزه إن كتب له النصر والحياة، وقد لا ترى عيناه أثر عمله إن رزق الشهادة، ومع ذلك فإنه لا يرى نفسه إلا خادماً لفكرة مدافعاً عن قناعة، مضحٍ في سبليها بالغالي والنفيس ، لا ينتقم لذاته فهي آخر ما يفكر فيه وآخر ما يشغل باله، يرى نجاح الآخرين نجاحاً له، وفشلهم فشل له، لذلك يجهد أن ينجح الجميع كمجموع. إنه يسعى إلى ما هو أبقى وأدوم مما يمنح في هذه الدنيا ويقدم، هدفه الله، في سبيله يقاتل، ولإعلاء كلمته يقاتل، خرج منتصراً لدينه مدافعاً عن ماله وعرضه، ذاباً عن أهل بلده، راجياً أحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة، ليس في قاموس مصطلحاته، طلبٌ لجاه أو منصب أو مفردات من نظير: أنا فعلت ! وأنا قدمت ! وأنا سجنت ! وأنا ضحيت ! تراه أول المضحين والمقدمين، ولا ترى له أثراً عند تقاسم المغانم بين الغانمين. 

هذه صفات عشرةٌ نعتقد أنها من أمهات الصفات التي يجب أن تتوفر في الجندي الذي نريد أن نضمه إلى صفوفنا، نبحث عنه ونبذل الوقت والجهد للوصول له، والارتقاء به إلى مصاف الكمال، فعليه ــــ بعد توفيق الله ــــ يتوقف النصر، به ننصر وبتقصيره نخذل، ونختم بالقول أننا لا نقاتل عدونا بأدوات يشغلها إنسان، بل بإنسان يُشغل أدوات، ليحقق أهداف وينفذ مهمات. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

عبد الله أمين 

23 09 2021


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023