الإنسان بين الرَّغائِبيّة والقِيَمٍيّة.. وحركات التّحرّر.. والخِطاب الإسرائيلي

عبد الله صادق

باحث وكاتب

الإنسان بين الرَّغائِبيّة والقِيَمٍيّة.. وحركات التّحرّر.. والخِطاب الإسرائيلي

بقلم عبدالله صادق  


"الإنسان" أو الإنسانويّة العنوان الأبرز لدى أصحاب المدارس الفلسفية والأخلاقية، والتي تطرّفت في قراءتها في بداية القرن التاسع عشر لتعزله عن القيم الروحية أو الاجتماعية، ولتقدّم الرؤية المادية كأحد عناصر البقاء وتفعيل الرغائبية كأساس للرفاهية والاستقرار.  


فأنتجت لنا قواعد وتشوهات للفطرة البشرية، و تحولات شاذة لعوامل الاستخلاف في الأرض، ورفضا داخليا سلوكيا لقيم التحدّي و الشجاعة والصمود والثبات.. ناهيك عن الأخلاق.  


"الإنسان" .. هذا المصطلح الغامض المُلتبس على كثير ممن يستخدمونه كمطيّة لعزل الحقيقة، والانفصال عن الواقع، والابتعاد الهادئ عن مقتضيات قيمية هامة.  


والذي صار - آخرون منهم - يستخدمونه عادةً كمرادف للاعتقادات غير التوحيدية - الروحية - فيما يتعلق بأفكار مثل المعنى والهدف والغاية والتضحية والوجود.  


وهو يعيد بي الذاكرة لما كتبه "ريموند براغ" في عام 1933 ما أُطلق عليه "البيان الإنساني الأول" والذي تبنّى "السببية"، والرفض بشكل أساسي الأفكار الخارقة والأفكار الدينية كأساس للأخلاق ولاتخاذ القرار.. ومتجاوزا قيم التضحية والفداء كجزء لا يتجزأ من تركيبه الخلائقي.  


حيث وصل بنا دعاة هذه العناوين إلى" البيان الإنساني الثاني" عام 1973، والذي سعى لتعزيز النزعة الإنسانية الرافضة للمعتقدات الدينية، و التأصيل للعلمانية على أساس أخلاقي تنسجم مع الرغائبية.  


لينتهي بنا المطاف معهم إلى "البيان الإنساني الثالث" عام 2003، والذي أخذ على عاتقه تعريف "الإنسان" على أنه "جزء لا يتجزأ من الطبيعة، وأنّه نتيجة التغيير التطوري، وأنه كائن ضمن عملية غير موجهة لا تستمد القيم الأخلاقية من أسسه وحاجاته، والتركيز على الاهتمام قبل التجربة لا من قِبَل القيم الدينية والمعنوية.  


وهذا الخطاب الذي يُعاني منه كثير من الكُتّاب - من حيث لا يعلم - هو نتاج تشوّهات فكرية، وعدم انضباط في قواعد المطالعة والقراءة الرشيد، و هو يدفعنا دفعا لإعادة ضبط بوصلة مصطلح "الإنسان" في إطاره السليم عبر الرؤية الروحية والاجتماعية، حتى لا نسقط في الفخ الذي يصنعه هذا العنوان الكبير من ستة أحرف.. والذي يهوي بالمقاصد الخمس التي وضعها الفقهاء في الشريعة الإسلامية لحماية هذا الإنسان "خليفة ﷲ في الأرض".  


هذا "الإنسان" .. الذي خُلق لحقيقة التعبّد لخالقه، المنتمي لقيم الأخلاق الحميدة، و المرتبط بالإرث والهوية، ورفض الظلم والدفاع عن المظلوم، و التمسك بالحقوق، والمنسجم مع ذاته ومجتمعه، وسنن الكون.  


ومن هنا أتوجه مباشرة لتفكيك مصطلح *"الحركات التحررية"* كما عرّفها معجم التاريخ والجغرافيا : و "هي التنظيمات التي تقود النضال ضد الهيمنة الاستعمارية من أجل التحرر"؛ وهو ما شرعه ميثاق الأمم المتحدة المادة 51 بنصّه : " أنه ليس في هذا الميثاق ما يُضْعف أو يُنْقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة.."؛ وما ذكره العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية: على أن" حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وحريتها، والعمل لتحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي"؛ وما نصت عليه المادة الثالثة من اتفاقية لاهاي 1907 : " للمقاومين الثوار قيادة مسؤولة أو رئيس مسؤول، أن يحملوا علامة مميزة، وأن يحملوا السلاح علناً، أن يلتزموا بقوانين الحرب وقواعدها.. "


هذه هي رسالة" حركات التحرر" وتجاربها عبر التأريخ المعاصر، وما تناولته نصوص القانون الإنساني والقانون الدولي عبر دورها في الدفاع عن حق الإنسان في الحياة والأرض والقيم والهوية والإرث، ورفض الظلم، والتي تُقدّم وتبذل من خلاله التضحيات من أجل تحقيق ذلك أمام قوى الاستعمار الجديد و وكلائه وعملائه.  


وهو ما قدّمته لكل عين بصيرة "المقاومة الفلسطينية" لحماية "الإنسان الفلسطيني" في قطاع غزة وجميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، قبل وجود سلطة أوسلوا، وبعد اندحار الاحتلال، ومن ثم بعد الاستحقاق الانتخابي الذي فرز ديمقراطيا الممثل الشرعي للسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.. والذي توطأت قوى الإقصاء السياسي كما فعلت غيرها لاحقا.. ما بعد الربيع العربي لإفشال أية تجربة ديمقراطية، وأي نموذج إنمائي يعتمد على قيم الحرية والاستقلال ورفض الظلم والتبعية.  


إن هذا الخطاب المختزل لمشهد معاناة قطاع غزة.. في الأزمة الإنسانية المُفتعلة من قبل جهاتها خمس : (الاحتلال الصهيوني، السلطة الفلسطينية، دول المحور العربي، الشركاء الجدد في العنوان الفلسطيني، المنظومة الدولية الحليفة للمشروع التوسعي الصهيوني)، وتحميل حركة حماس والمقاومة جريرته، والمسؤولية التنفيذية والقيمية له في القطاع، هو خطاب يتماهي ولا يبتعد عن *مضامين الخطاب الإسرائيلي.*  


فمن يُطالع مثلا ما قاله وزير الدفاع الصهيوني بني غانتس يرى مثالا أوّليّا بقوله : "لا ترغب إسرائيل في تعطيل روتين الحياة الفلسطينية في قطاع غزة.. نحن مستعدون لتحقيق الإغاثة الاقتصادية والمدنية ومواصلة تعزيز التنسيق مع السلطة الفلسطينية"..  


وهو ليس ببعيد كذلك عن خطاب و مبادرة السلام مقابل التنمية التي قدّمها يائير لابيد تجاه قطاع غزة، برعاية الشركاء الاستراتيجيين للكيان في الإمارات ومصر.


مثل هذا الخطاب الذي يحمّل *"المقاومة الفلسطينية"* مسؤولية ما يحدث في قطاع غزة، والعمل على تبرئة العناصر الخمس السابق ذكرها من معاناة وحصار القطاع، هو إظهار مُبطّن للرواية الإسرائيلية - بقصد أو بغير قصد -، و له مخاطر على العقيدة الوطنية، كما له انعكاسات أشد خطورة منه على الشكل المتماسك للحاضنة الشعبية للمقاومة ليس في قطاع غزة وحسب، بل في خارطة الوطن الشاملة، و الإقليم.


ومن هنا أكرر دعوتي بمحبة وتقدير شديدين للكُتاب الفلسطينيين الحذر في صياغة ما يعبّر عنه - بقصد وغير قصد - ضمن مسطرة مضامين الخطاب النضالي الوطني الفلسطيني.  


وأن يتحلل بوعي ومسؤولية عالية في التعاطي مع مضامين الخطاب الإسرائيلي، و أن لا يُقدّم - دون قصد منه - خدمة كبيرة لبناء أرضية صُلبة للرؤية الإسرائيلية ولكن بلسان فلسطيني مبين..


حينها قد نجد أنفسنا أمام منزلق رغائبي ذاتي تحت دوافع الحاجات اليومية المُلحّة، أمام ثوابت فلسطينية قيمية لا يمكن السماح المساس بها تحت أية اعتبارات، ومهما كانت المقاصد والذرائع.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023