بقلم: نهاد أبو غوش
يختلف الفلسطينيون والفلسطينيات بقواهم السياسية وروابطهم وهيئاتهم حول مئات المسائل وربما الآلاف مما تطرحه الحياة من مشكلات وتحديات، ومما يفرضه الواقع المعقد للفلسطينيين الذين يعيشون في عدة بيئات سياسية وقانونية، وتحت حكم سلطات سياسية مختلفة.
ويبدو هذا الاختلاف طبيعيًا، في ظل التنوع والتعددية السياسية والطائفية التي عرفها الفلسطينيون منذ قرون بعيدة.
وعلى الرغم من كل هذه التباينات ثمة عدد من القضايا والمسلمّات والأقاليم التي يجمع عليها الفلسطينيون ومنها: وحدتهم كشعب، مكانة الشهداء، وكذلك مكانة الأسرى في سجون الاحتلال على اختلاف انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية.
يبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال نحو خمسة آلاف أسير، ومن الطبيعي أن يحظى هؤلاء الأسرى والأسيرات بمكانتهم السامية والمرموقة، فهم طلائع النضال، الذين يضحون بأعز ما يملكون من أجل حرية شعبهم، وهم الذين يتقدمون الصفوف ومنهم/ ومنهن الكتاب والمثقفون والمهنيون والعمال ورجال الأعمال والمعلمون والطلاب وأساتذة الجامعات والنواب المنتخبون والنقابيون والشباب والصبايا وحتى الأطفال، لكل ذلك ولأسباب عديدة تتصل بطبيعة المجتمع الفلسطيني، وحدّة الاستقطاب الذي يعيشه المجتمع في ظل الانقسام والسلطتين اللتين تقودهما حركة فتح في الضفة وحماس في غزة، حظيت الوثيقة السياسية الوحدوية المعروفة بوثيقة الأسرى أو وثيقة الوفاق الوطني التي جرى التوصل لها في أيار /مايو من العام 2006 بمبادرة من قادة الفصائل الرئيسية للحركة الأسيرة، بموافقة وقبول واسعين لدى مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وجرى اعتمادها كأساس لمعظم الوثائق والاتفاقيات التي جرى إبرامها لاحقًا، ويمكن القول أن الوثيقة ما زالت تحتفظ بأهميتها التاريخية والتوحيدية لأنها نجحت في تقريب وجهات النظر وتعظيم القواسم المشتركة وإبرازها، مع استيعاب قضايا الخلاف بوضعها في مكانها وحجمها المحدود من دون أن تؤثر على إمكانيات النضال المشترك.
هذه الأيام يتقدم الأسير عبد الناصر عيسى ( عمره 52 عاما أمضى منها 27 عامًا في السجون) وهو من أبرز قيادات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بمبادرة جديدة يطرحها كورقة للنقاش، وقد كان لكاتب هذه السطور شرف مناقشتها ضمن ندوة نظمتها دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، بمشاركة الإخوة قدورة موسى وهو وزير سابق وقيادي فتحاوي كلف من دون الناس بعرض الورقة! وهي على كل حال لفتة لطيفة وذات مغزى عميق من الأسير عبد الناصر ومن قدورة فارس المشغول بقضية الأسرى منذ عقود أسيرًا ووزيرًا لشؤون الأسرى ورئيسا لنادي الأسير، والأسير المحرر مؤيد عبد الصمد المحسوب على الجبهة الشعبية والباحث ساري عرابي المقرب من حماس، كما أدارت الندوة الأكاديمية والمناضلة رولى أبو دحو.
عبد الناصر عيسى المحكوم بالمؤبد مرتين، هو أحد المبادرين لصياغة وثيقة الوفاق الوطني الشهيرة (2006) وهو قيادي يتمتع بنفوذ ملموس على كوادر وقيادات حركة حماس داخل السجون وخارجها، كما أنه يحظى باحترام وتقدير الأسرى من بقية القوى السياسية الوطنية واليسارية، وذلك يعزز قوة ورقته التي تستحق التطوير علها تشكل أرضية لمبادرة جديدة تساهم في إنقاذ الحالة الفلسطينية من المأزق الذي تتخبط فيه منذ سنوات طويلة.
ميزة صاحب المبادرة أنه حاسم في القضايا الإشكالية، فلا يتردد ولا يتلعثم، فكان واضحا وقاطعا في عدد من المسائل المهمة:
فهو أولًا:
يؤسس مبادرته على قاعدة "الوطنية الفلسطينية" مبددًا الشكوك والأوهام حول كون حماس هي مجرد فرع فلسطيني لتنظيم الإخوان المسلمين، تأتمر بأمره وتنفذ مخططًا عالميًا لهذا التيار على حساب القضية الوطنية كما يزعم بعض المصابين ب"الحماسفوبيا".
المسألة الثانية:
هي أن فكرة "الشراكة" تطغى على بنود الورقة وبين سطورها، وتثبيت هذا المفهوم يعني تأكيد أن التناقض الرئيسي هو بين الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وبين الاحتلال، وأن أي خلافات أو بين القوى الفلسطينية هي تناقضات ثانوية يمكن تسويتها بالحوار وعبر المؤسسات الشرعية بشكل ديمقراطي.
وبشأن الهدف الوطني ورغم ما يبدو هنا وهناك من التصاق بالشعارات العامة لبرنامج حماس، فقد حدد عيسى بوضوح الهدف الواقعي المرحلي للنضال الوطني الفلسطيني، وهو قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 67، في وقت تضطرب الرؤية ويبدو هذا الهدف ضبابيًا وغائمًا، حتى لدى بعض كبار مسؤولي السلطة وقادة المنظمة وهو ما ظهر في بعض تلميحات وتصريحات المسؤولين عن موت حل الدولتين والعودة لقرار التقسيم وتشكيل قيادة موحدة لكل الشعب في المستقبل القريب، أو الدعوة الغامضة لتبني خيار الدولة الواحدة.
وفي الوسائل، تحدث عيسى عن مقاومة راشدة وذكية وناجعة وهي صيغة مبتكرة سبق للشيخ الشهيد أحمد ياسين أن ذكرها، لكنها لم تكتسب ملامح تفصيلية، في وقت كثرت الشعارات وتحولت المقاومة من أسلوب نضالي إلى قيمة مقدسة وكأنها مطلوبة لذاتها من دون ملاحظة التأثيرات الدولية على خيارات المقاومة وأشكالها منذ أحداث 11 سبتمبر، وبعدها بروز ظاهرة داعش، ومحاولات شيطنة وتجريم النضال الفلسطيني الوطني ودمغه بالإرهاب، بما يطال حركة حماس من بريطانيا وأطراف دولية وإقليمية، والجبهة الشعبية وغيرها من قبل الاحتلال، حتى منظمة التحرير بكل ما تمثله من قبل دوائر الحكم في أميركا، من المهم جدًا التدقيق في أساليب النضال وترشيدها بما يجعلها في خدمة الأهداف الوطنية ويبعدها عن بازار الاستثمار الفئوي ويضعها فوق الخلافات والحساسيات الحزبية، ويساعد في توطيد شرعية النضال الفلسطيني بكل مركباته ومكوناته.
يستطيع الأسير القائد عبد الناصر عيسى تطوير مبادرته وتوسيع استجابة عموم الوطنيين الفلسطينيين لعناصرها الرئيسية إذا حاول الاقتراب أكثر من القوى الوطنية الأخرى، للوصول إلى مسافة ما بين مواقف القوى المتنافرة، وابتعد عن الكليشيهات التقليدية التي لا تفيد ولا تضر، فصاحب مبادرة مهمة كهذه ليس بحاجة لوصف الانقلاب بأنه "حسم عسكر ي اضطراري" لو اكتفى بقول "حسم عسكري" لكان ذلك مقبولََا، أما وصفه بالاضطراري فهذا تبرير له ولكل الأخطاء التي ترتبت عليه.
من ناحية ثانية لن تحظى مبادرته بقبول واسع إذا اكتفى بنقد ممارسات السلطة في الضفة في مجال الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان، وغض بصره عن انتهاكات لا تقل فظاعة تجري في غزة بما في ذلك الاعتقالات السياسية وسياسات الترهيب والتخويف ومنع اجراء الانتخابات وتجريم من يتصل ب"حكومة رام الله" كما يسمونها.
تستحق مبادرة عبد الناصر عيسى مزيدًا من النقاش والاهتمام، ويستحق الشعب الفلسطيني مبادرات تنقذه من هذه الأزمة الخانقة التي يتردى فيها منذ سنوات من دون أن يلوح أي أمل لتجاوزها وخاصة مع تكريس الانقسام وضعف مؤسسات المجتمع المدني وغياب قوى التيار الثالث عن الفعل والتأثير.
لكل ذلك ينظر الفلسطينيون للأسرى بمزيد من الأمل والرجاء، مع أن واجب من هم خارج السجون أن يمدوا أيديهم لنصرة من هم في السجون لتحريرهم أولًا.