قراءة في النص: الأسيرات الفلسطينيات

جمال الهور

أسير فلسطيني وكاتب

 بقلم:
​​​​​​​الكاتب الأسير: جمال الهور
26 ديسمبر - 2021م.



لا شك أن الهجمة البشعة التي قامت بها مصلحة السجون الصهيونية ضد الأسيرات الفلسطينيات في سجن الدامون "جبل الكرمل"؛ تأتي في سياق الحملة القمعية المسعورة ضد الأسرى بشكل عام، والمستمرة منذُ نفق الحرية والشمس "6 أيلول – سبتمبر من العام الجاري".

حيث حاولت مصلحة السجون منذ ذلك الوقت فرض سياسات عنصرية وقمعية غير مسبوقة من الناحية الإجرائية والفعلية، بالإضافة إلى أنها تتحكم بالفضاءين الزماني والمكاني، وتُخضعهما لجبرية المنظومة الأمنية المتحكمة من خلال ماكنة المراقبة والملاحقة والتجسس الإلكترونية والبشرية في حيثيات ومفاصل مجالي "الزمكان".

عوضًا عن كل هذا، فإن مصلحة السجون تُقدم اليوم وبشكل إجرامي خطير على تنفيذ سياسة هدم البنية التجمعية الخاصة بكل مركب من مركبات الحركة الأسيرة، مبتدئةً بتنظيم الجهاد الإسلامي بصفته المسؤول الأول والأخير عن عملية نفق الحرية، والذي واجه هذه السياسة بالرد العملي، متمثلًا في خروج قياداته والعشرات من أفراده إلى الزنازين، ومساندة محدودة في الشكل والمعنى من باقي فصائل ومركبات الحركة الأسيرة، الأمر الذي خلط الأوراق وشوش الرؤية التنفيذية لدى "السجان"، فتراجع خطوةً إلى الوراء "من غير صراخ" متربصًا الفرصة.

ومن الواضح تمامًا لدى كل قارئ ومتابع لما يجري على "ساحة مصلحة السجون" من تحقيقات وتغييرات إجرائية وميدانية نبعت كتبعات للهزة السياسية والأمنية التي أحدثتها "عملية النفق"، وكشفت عن حجم حالة الترهل الأمنية داخل السجون، وعرت سوءة جهاز الاستخبارات "ذو اليد الطولى وعين الشاباص الثاقبة"، الوضع الذي أدخل قادة وضباط مصلحة السجون في حالة من عدم استيعاب الحدث، وعدم القدرة على هضم مخرجاته، وجرهم إلى ممارسات تخبطية وغير مدروسة النتائج، كان آخرها الحدث الإجرامي المزلزل الذي ألهب الساحة الإعتقالية، وأخرج عقلانيتها عن الطوق "الاعتداءات الجسدية على الأسيرات الفلسطينيات في سجن الدامون في الليلة السوداء".

يعد هذا الاعتداء اعتداءً على شرف الحركة الأسيرة وكبريائها الثوري؛ وتهشيمًا لشخصيتها الذاتية، وانتهاك لكافة المحرمات والمقدسات في أبجدياتها، كما أن هذا الاعتداء يعد بمثابة جريمة مع سبق الإصرار ضد إنسانية الإنسان، ونازيةٌ دموية لا يمكن القفز عنها أو تجاوز موضوعها وإفرازاتها دون رد جوابي فعلي يكون بمستوى الجرم، ويعيد الشرف وهيبة الهوية والثابت المقدس.

فكان يوسف المبحوح المعتصم الذي كتب بسكينه الفصل الأول من رواية "الكرامة"، وترجم بانبرائه البطولي مفهومية الرد النظري على الثابت المقدس إلى جواب عملي في أرض عدوانية محكومة بسطوة المستعمر وسلته القمعية (القيد، والسلاسل، والأقفال، والأبواب، ووصايا التلمود، والعرق المختار، وقوانين المصادرة، والعقوبات القهرية، و"أنا المخلص للبشرية"، وفضيحة النفق)، وهذا المجموع العنصري يشكل أركان نظرية السيطرة والتحكم لدى المستعمر "السجان"، وبناءً على قوتها وصلابتها يؤسس عقيدته القمعية، وبحسب فرانز فانون (المستعمر يفرض نفسه كمرجع وحيد، ويفرض نظام المراقبة والمعاقبة، ويحتكر ممارسة العنف).

وفي حالة السجان المستعمر الذي يحاول لملمة فشله وترميم تشظي الهيكل الأمني، وإعادة شيء من "اعتبار الذات" ولو شعوريًا، من خلال الإمساك بزمام الأمور واحتكار حق التصرف بالفضاءات الاعتبارية التي تشكل السجن (أي الزمان والمكان والقانون وممارسة السياسات والمجموعات المادية)، إضافةً إلى الفضاء الأهم ألا وهو "الأسير ذاته" على اعتبار أنه أهم مركبات السجن، ويملك الفضاء المخيالي العابر للتحصينات، والمتفوق على كل أشكال ومنظومات الملاحقة والمراقبة والسيطرة، كما أنه "الأسير" يمثل جغرافية ومداءات الفضاءات الأخرى.

هنا تغول السجان وتجرأ على اقتحام المجال المخيالي والخصوصي، وحاول العبث بالناظم الحياتي الذي يشكل الحاضنة الدافئة للمقومات المخيالية والمادية على تواضعها، والتي اختلقها "الأسير" من عدمية المقام وغصبًا عن السجان لمواجهة الاعتقال والأسر.

اختار السجان وبقراءة خاطئة "الأسيرات الفلسطينيات" كهدف أولي لخوض حربه، وأراد من خلالهن تنفيذ سياسة سحق وهدم البناء التنظيمي والنظم والبرامج التي تحكم الحركة الأسيرة النسوية والرجالية بكافة أطرها السياسية، وتدير شئونها الداخلية والحياتية بشكل مستقل وبعيد عن تدخل السجان، فهاجم مفهوم التمثيل الإعتقالي ومفهوم الاستقلالية التنظيمية ومفهوم هرمية التنظيم، وأراد أن يمعن في سياسة تجزئ المجزأ، والتأكيد على الانقسام الحاصل في الحركة الأسيرة من سنين كإفراز سيء ومعيب للانقسام الفلسطيني الكبير "2007".

كما أن السجان بفعلته الإجرامية واعتدائه على أسيراتنا بالضرب والإهانات اللاإنسانية واللاأخلاقية أراد أن يوصل رسالة واضحة بأنه هو سيد البيت ورب المحيط، فلا مقدس لديه ولا محرم في سبيل تأكيد حضوره، حتى في أكثر الأماكن خصوصية "أي بين الأسير وذاته ومخياله".

لكن يوسف كان بالمرصاد يقف عند فوهة الثغر، فأبى أن يؤتى الجمع والشرف والمقدس من جهته، فانبرى عزيزًا ليوقف الاستباحة وسيولة الدمع والدم، وليربت على نغمة صرخات الماجدات بقبضة الثأر، وليؤجج من ورائه جيشًا من الأسرى وقفوا صفًا مرصوصًا في وجه السجان، فاندحر مهزومًا خزيًا.


                                                                                                              

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023