اسألوا صفد

جمال الهور

أسير فلسطيني وكاتب

صفد، جرح النكبة المتجدد والمنكوءُ غصبًا نكايةً في التاريخ، وإمعانًا في قهر أهلها الأصلانيين المهجرين، صفد بين نكبتين: الأولى نكبة الاستعمار الكولونيالي الحلولي الذي استباح حاضرتها وعمارتها وتاريخها، ومحى جغرافياتها العمرانية والدينية والنباتية والفضائية، وصادر هوياتها الفلسطينية والعربية والإسلامية.

والثانية هي نكبة عباس الذي صفح وعفا عن نكبة الاستعمار الأولى عندما قال متنازلًا بين عامين أو أكثر: "صفد بلدي ومسقط رأسي، ولا أريد العودة إلى صفد"، ليسلم بذلك مفاتيح عودتها على بساط انهزامي خيالي أملًا بدولةٍ ولو في ركن الشيطان.

ثم شرعن ذات النكبة وأصدر لها هوية الوطن، ومنحها أحقية المواطنة الجغرافية والتاريخية والإقليمية والعالمية، وذلك عندما قام بزيارة وزير حرب كيان الاستعمار الصهيوني بيني غانتس بالأمس القريب ليلة الثلاثاء 28/12/2021 في بيته الرابض على تلة رأس العين الواقعة على مرمى حجر من صفد، بلد الآباء والأجداد الذين ولدوا عباس فوق ترابها، ليرضع من عفار حجارتها ومن عرق شوارعها، وليربوا شبلًا دارجًا على آجاله بين أزقة حاراتها وبيوتها الطينية، يتنفس دخان طوابينها، ويلعق عصارة سنابلها.

لكنه جاء فعلًا منكرًا، حيث قلب ظهر المجن لصفد، متنكرًا لشمسها التي دفأته، ولمسجدها الذي ربطه بالسماء، ولمقبرتها التي ضمت أجداده بحنان الآخرة، كما أنه تنكر لصراخ أطفالها المذبوحين بيد عصابات الهاجاناة والبلماخ، وتنكر لصيحات الحرائر المغتصبات بفعل عصابات الإيتسل والليحي وسرايا الليل الصهيونية، وتنكر للمأذنة المقذوفة بالمدفع، وللعصافير المقتولة في أعشاشها تحت الحطام، ولوزات التلة المحروقات بالقنابل.

تنكر بعقوقٍ سافر لشيوخ وعجائز صفد المهجرين إلى بلاد الشتات البعيدة عندما باع إرث نسلهم "حق العودة ومفتاح التحرير"، وتركهم عراةَ حقٍ يلفح وجوههم جحيم اللجوء، وحفاةَ ذاكرةٍ أذهلها وهن الصمود حتى آخر المشوار، وتركهم صرعى على مذابح الانتظار السرابي والتشفي البئيس من ذوي القربى.

لقد فعل عباس فعلته ولاذ إلى حمى المقاومة السلمية، ومشروع الدولة المنتظر الذي هوى في سرداب أوسلو عميق القعر والقاع، ولكن سَائلِ التاريخ الفلسطيني العصي على الكسر: هل ضاق صدره باليبوسيين والكنعانيين الأوائل؟ وهل أجهده صهيل خيل المماليك وصليل سيوف الأيوبيين ودموع الفتح التي بللت لحية الملك الصالح صلاح الدين؟ وسائل التاريخ عن الأربعة الذين رسموا الخريطة في عين الشمس قبل رحيلهم الأبدي، الشهيدين عزالدين القسام وعبد القادر الحسيني في الطرف البعيد من الخريطة المغتالة، والشهيدين أحمد الياسين وياسر عرفات في الطرف القريب من الخريطة المتاجَر بها.

سائل التاريخ عن الأولين والآخرين، وسله عن الحقوق وجذورها، وعن الأنساب وأصولها، وعن الأحجار ومنازلها، وعن الأشجار ومنابتها، وسله عن الكلمة والحرف واللغة، وعن الثوب والقمباز والغربال، والطابون والخابية وحجارة الرحى الهادرة في عب الكون.

وسلهُ عن قصيدة أبد الصبار لدرويش، وعن حنظلة العابر للحدود بحثًا عن ناجي المغدور، وسلهُ عن كنفاني المتخفي بلثام الريح ليسكن حيفا في سطور الرواية، وسلهُ عن حيفا والخصاص وقيسارية والطنطورة ودير ياسين ويافا واللد وطبرية، وعن مئة قريةٍ ومدينةٍ أُخر ذُبحن يوم النكبة الأولى، وسلهُ عن مليون مهجر ومئة ألف شهيد وقود هاتيك النكبة.

سل التاريخ عن النكبة الأولى وسيصرخ متأوهًا من هول ويلاتها، وسله عن نكبة عباس، فسيصيبه البكم وصمت الجوارح وضلال الأقلام والأحلام، لأن نكبة الغدر أبلغ إيلامًا من القتل في الموتى، وأعمقُ أثرًا في الأحياء الثابتين على النهج، وهي أثخنُ تحريفًا وتشويهًا للوعي وللذاكرة، ولسورة الإسراء وسيرة الكون.

وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً

عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

ولكن الذي يجب ألا يغيب عن عباس، أن للتاريخ لسانين وعينين ولغتين وسيفين وقبرين، فإنه سوف يبارك بلسان ويلعنُ بالآخر، وسيفرح بعين وسيبكي بالأخرى، وأنه سيسجل بلغتين مختلفتين عن يمينٍ وعن شمال، فهو حفيظٌ للفعل عجيب، وأنه سيميت بسيف ويحيي بالآخر، وفي قبريه جنةُ ونار، وكلٌ وارد، فلينظر أحدكم مورده.

نكبة عباس ابتاعها بيني غانتس بحفنةٍ من بطاقات الـ "VIP" لرجالات الأجهزة الأمنية، وهي بمثابة شطب لملايين من هويات العودة، وابتاعها بِصُرّة دراهم معدودة ثمن "المفاتيح" التي سُرقت من حجور الأمهات والعجائز الواقفات عند بوابات الأمل الضائع في زحمة المشاريع والنظريات، وأسطورة السلم المتوَهَّم، وابتاعها بقنينة زيت كانت بمثابة البصقة في حلق كل فلسطيني من الأولين والآخرين، وكانت تأكيدًا على وقاحة المستعمر الذي سرق الدجاجة وقاسم صاحبها بيضتها.

وكانت تعبيرًا عن قبول عباس بتهويد التاريخ والأرض والهواء والحجر والشجر، وزيت السراج في مغارة مسجد الخليل إبراهيم -عليه السلام-، وتعبيرًا عن موافقة عباس أبناء التلال "من قطعان المستوطنين"، وإقرارهم على فعلهم الاستيطاني المتكرر ضد شجرة الزيتون، والتي تمثل هوية الفلسطيني وشامة قضيته والشجرة المباركة التي تُسرج قناديل الجنة وتضيء كون الحياة، فهم يلاحقون الشجرة في الجبال والأودية والسهول، ويقتلعونها ويسرقون زيتها ويشعلون مشاعل أعيادهم التوراتية بزيتها.

يأخذ عباس قنينة الزيت، ويشكر لغانتس، ويبارك اليد التي قطفت، والماكينة التي عصرت، ويتعهد بعدم استخدام أي أسلوب من أساليب الثورة العنيفة ضد أبناء التلال، الذين سرقوا الزيتونة من قاع دار جدته المرحومة في مقبرة صفد، فكيف ينسى عباس نسب الزيتونة وتاريخها وهويتها الأصلانية، وهو الذي يقول في مقدمة كتابه (بين التهويل والتقليل) في الصفحة 5: "إلى تلك الأشجار الباسقة التي أبت إلا أن تبقى جذورها متشبثة بالأرض الفلسطينية، تُغالي في امتدادها وتشعبها بحثًا عن مادة الحياة، لتخلِّب النظارة ويزدهر الأمل".

فما باله اليوم ينسى حروفه وكلماته، ويرفض مقاومة قتل الزيتونة وحرقها واقتلاعها، أو سرقتها ومن ثم تهويدها، ثم سَلِ التاريخ ما بالُ عباس يصر على السلم والتسوية مع العدو الصهيوني، وهو الذي كتب في الصفحة 144 من ذات الكتاب: "إنني أعتقد أن إسرائيل ترفض التسوية أساسًا، فهي في مأزق، القبول بالتسوية مأزق، ورفضها مأزق آخر، أما نحن العرب فنستطيع أن ننتظر".

والسؤال: هل أبقت أوسلو على شيء من القضية يستحق الانتظار؟، ثم تعال أيها التاريخ وقف هنا، أما تذكر أن عباس أرَّخ بطريقة توحي بالإشادة بالمقاومة اليهودية ضد النازية الألمانية؟، عندما كتب في الصفحة 291 من مخطوطته المعنونة بـ (الوجه الآخر: العلاقات السرية بين النازية والصهيونية): "تميزت المقاومة في غيتوات اليهود بأنها مقاومة يهودية بحتة، ولكن أبرز مظاهر هذه المقاومة كانت في كل من غيتو فيلنو ولودز ووارسو، واعتُبر الأخير نموذج المقاومة البطولية اليهودية"، وكتب في الصفحة 293 من ذات المخطوطة: "إن غيتو فيلنو أول مكان ابتدأت فيه محاولة تنظيم حركة مقاومة يهودية، وأصدرت نداءها الأول لنمتنع عن الذهاب كالخراف إلى المذبحة، صحيح أننا ضعفاء وليس لدينا أحد يساعدنا، ولكن جوابنا الوحيد على العدو يجب أن يكون المقاومة".

ثم ألم يكتب عباس في الصفحة 164 من كتابه (بين التهويل والتقليل): "الطريق الفلسطيني أيها الإخوة ذو ثلاث شعب، الشعبة الأولى هي البندقية التي بدأت عام 1965 ولا زالت حتى أيامنا هذه، وبدونها لا يمكن أن يكون هناك وجود للفلسطينيين، وبدونها لا يمكن أن يكون وجود لكم، في ظلها أنتم تجتمعون".

فبدون تهويل ولا تقليل، لماذا يا صفد تنازل عباس عن البندقية المقاوِمة والجامِعة، ورضي بقنينة زيت بدلًا من أن يعيد الشجرة والمعصرة، ورضي بغزة شطرًا مجروحًا، وشبه الضفة أشلاءً ممزقة، وجسَّد الانقسام واقعًا نهائيًا، كما أن التفاوض واجبًا وطنيًا، قولي يا صفد كلمتك الفصل، قولي إن النكبة الاستعمارية الأولى فعلت ما فعلت في الجسد والمادة والدم، لكن نكبة ولدي عباس صدمت وعيي وكسرت كبريائي وقامت بتشتيت هويتي وذاكرتي.

وقل أيضًا أيها التاريخ أن صفد ما زالت شامة في خد فلسطين الشمالي، وأن سراج القدس ما زال يسرج بزيت الجبل، وأن الحجارة الكنعانية ما زالت راسخة في سور المدينة المقدسة، وأن دماء الشهداء وغربة المهجرين وصمود الشعب والأسرى وبندقية المقاومة، هذه حبات العقد الوطني، لن تكون لقمة سائغة فوق مائدة الغدر الأخير، وإن تعثر التاريخ بالسؤال، فقد قال الشاعر عبد الناصر صالح:

فقد فردت دفاتري ...

وبسطت أمعائي ...

لأعثر بالسؤال ...

إذا نأت عني الإجابة ...

لم أبع وجعي ...

وما قايضت مملكةً ...

لأصطاد غزالة ...

وأنا أقول: وما قايضنا قضيةً لنبتاع قنية زيت.


الكاتب/ جمال الهور  

                                                                                                                 2 يناير - 2022م.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023