فعلٌ يُدهش ويثير الجدل، ويشرع السؤال، ويتموضع سياسيًا "بقوة الفرض"، ويحرج أخلاقيًا ثورة شعب قرنية السنين.
اقتحام سجن غويران في سوريا قرب مدينة الحسكة وتحطيم الأبراج والأقفال وعيون الحراسة، وتحرير مئات الأسرى بطريقة بطولية شعارها "لا أب لنا إن لم نحرر أسرانا".
بعيدًا عن الجدل الفكري والسياسي والديني الذي يُعالج "الظاهرة الداعشية" في جانب صوابيتها من عدمه، فلن يُناقش هذا المقال هذه القضية المعقدة؛ إنما جاء ليسلط الضوء على العملية الاستثنائية، أو الطريقة الملفتة التي انتهجها تنظيم داعش في سبيل تحرير أسراه من سجن غويران.
ويأتي المقال في سياق نقدي موضوعي لحالة الاختزال المنفردة بمعالجة قضية تحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب من السجون الصهيونية، وهي المنهجية الثورية التي سنتها الثورة الفلسطينية، واختُزلت في "عمليات تبادل أسرى بين طرفي الصراع"، واستبعاد منهجيات وأساليب أخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر "المنهجية الداعشية".
وإن اختلفت البيئات الجغرافية اليوم؛ فما أشبهها البارحة، فقبل ثلاثة عقود من الزمن كانت البيئة الجغرافية الفلسطينية مشابهة تمامًا للبيئة السورية، بمعنى أن السجون الصهيونية كانت ضمن الجغرافيا الخاضعة ديموغرافيًا للفلسطينيين، وضمن قبضة الثورة، وفي ثنايا الثوب الفلسطيني، وذلك قبل أن تُنقل السجون "سجن غزة المركزي، وسجن الخليل المركزي، وسجن جنيد في نابلس، وسجن نابلس المركزي، وغيرها" إلى الداخل المحتل بناءً على ما جاء في اتفاق أوسلو 13/9/1993.
وفي ذلك الزمن الساقط أمنيًا، لم تستطع الثورة الفلسطينية حين ذاك اجتراح فعل استثنائي، أو التفكير خارج النص التقليدي، والخروج من عباءته، والإتيان بفعل بطولي بالمستوى الذي يترجم الفعل الثوري لشعب لا يَنقصه الأدوات بكافة أشكالها "المادية، والفكرية، والسيوجغرافية".
لكن الشعب لن يفطن حين ذاك لذلك، وثورته لم تفعل ذلك أيضًا، فلا الثورة هاجمت السجون وحررت أسراها يوم كانت السجون في قبضتها الجغرافية والديموغرافية، ولا الشعب وقف في وجه الحافلات الصهيونية وهي تنقل الأسرى إلى جغرافيا وديموغرافيا العمق الاحتلالي "سواحل وجنوب فلسطين التاريخية المحتلة".
ليُثار السؤال الكبير، من المسؤول عن التخلف عن هذا الواجب الوطني، هل هو الشعب أم هي ثورته المتمثلة في فصائله ورموزه؟
مع التذكير بأن الثورة احتضنت كل أشكال الفعل الثوري على الساحة الفلسطينية، وخلقت بمنهجها التقليدي تجاه قضية الأسرى وعيًا عامًا حاضرًا في الثقافة الفلسطينية، ومحفوظ الجانب من أي مساس سلبي، فصارت قضية تحرير الأسرى حكرًا على فصائل الثورة، والتي اتخذت من عمليات التبادل الأداة الوحيدة لإنجاز هذه المهمة الوطنية، التي طال أمدها.
على الرغم من أن هذا النهج أثبت نجاعته مع عدوٍّ عصيٍّ وعنيد، إلا أنه لم ينهي هذه المسألة الكبيرة بشكلٍ تام، لأنه لم يتكرر بالقدر الذي تتطلبه هذه المسألة، وغالبًا ما يجيء على فتراتٍ بعيدة ومتباينة زمانيًا ومكانيًا، وهنا لا أحابي الشعب على حساب الثورة، ولا أجلد الثورة لأبرئ الشعب، إنما أثير تساؤلًا على لسانَي نائل البرغوثي وكريم يونس، اللذان دخلا عامهما الواحد والأربعين في السجون الصهيونية، وقد كان بالإمكان تحريرهما قبل ثلاثين عامًا في لحظة وعيٍ شعبي أو ثوري، تشبه اللحظة الداعشية بالأمس القريب.
فهي لحظة تاريخية بطولية واستثنائية، هكذا قرأناها كأسرى نتوق إلى الحرية منذ عشرات السنين، وهي قراءة موضوعية مرتبطة ببعد الحرية، ومجرَّدة من كل الأبعاد الأخرى المتعلقة بتنظيم داعش كحالة جدلية مُختلفٌ حولها، وهي عملية تموضعت سياسيًا بشكلٍ واسع بفضل ما تضمنته من غلابةٍ وغصب في المنوي تحقيقه وإنجازه، وأكدت الكلمات الخالدة "إنما تؤخذ الدنيا غلابًا".
ومن ناحية أخرى هامة، أسقطت النقاط فوق حروفها المتقاطعة، لتؤكد أن هناك قضايا إنسانية لا يمكن أن تنتظر طويلًا، ومن الضرورة بمكان أن تُفعل من أجلها كل الوسائل والأشكال ذات الجدوى والفاعلية، والتي لا تٌرجئ ولا تُخطئ ولا تُبطئ، والتي تصلح لكي تكون المعيار والمقياس اللذين يتم في كفتي ميزانيهما عمليات المحاسبة الأخلاقية والوطنية والثورية والدينية والقومية، لكل من نصب نفسه مسؤولًا وطنيًا أو ثوريًا أو رمزًا دينيًا أو شعبيًا أو جماهيريًا، ولكل من صنَّف نفسه أخًا للبندقية الثورية، ولكل من رغب في وطنٍ حرٍّ، فلا طاب عيشٌ والأحرار في القيود، ولا نعمت بلادٌ وأبناؤها مستعمرون في السجون.
وخلاصة القول، إن ما تناوله هذا المقال هو "الفعل" كفعلٍ مجرد بعيدًا عن محدداته وتوجهاته وخلفياته الأيديولوجية، ثم إن المقال لم يقصد المقارنة بين "حالتين"، فلا مجال للمقارنة، وإنما قصد دراسة إمكانية محاكاة الفعل، ونقله إلى ساحات تحتاج إليه بالضرورة، ففي ذلك عبرة لأولي الألباب.
الكاتب/ جمال الهور "أبو تقي" 25 يناير - 2022م.