ليست مشكلة رواتب السلطة الفلسطينية ومن أين تأتي وما ثمنها وليدة اللحظة الراهنة المترتبة عن قرار القيادة الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وبالتالي وقف استلام أموال المقاصة، بل إشكال صاحب السلطة الوطنية منذ بداية وجودها. ونظراً للتداخل بين المال والأمن والسياسة فقد تحولت رواتب موظفي السلطة الفلسطينية من حق للموظفين إلى لعنة وقيد على ممارسة المقاومة ضد الاحتلال وتهديد للأمن القومي والمجتمعي.
ولأن الموضوع أخطر وأكبر من مسألة مالية فقد كتبنا أكثر من مقال حول إشكالية الرواتب وفي جميع هذه المقالات حذرنا من المعادلة الخطيرة التي تربط مستقبل ومصير المواطنين ومجمل القضية الوطنية بالرواتب والمساعدات الخارجية والتحذير من الوصول للمعادلة التي تجعل المواطنين أمام مفاضلة ما بين الرواتب والالتزام الوطني، ومع كل يوم يمر دون أفق لتسوية سياسية مشرفة ومع استمرار تهرُب إسرائيل مما عليها من التزامات بمقتضى اتفاقية أوسلو وتنكرها للسلطة الفلسطينية بل سعيها لتهميشها، يتعاظم مأزق السلطة الوطنية وعجزها عن القيام بالتزاماتها تجاه الشعب وخصوصاً دفع رواتب الموظفين والتنسيق حول المعابر وجوازات السفر والهويات والاقتصاد، مع ارتباك وتخبط في تفسير وتوضيح الإجراءات التي اتخذتها السلطة بشان الرواتب أو سياساتها المستقبلية للرد على فشل عملية التسوية السياسية .
معادلة أو مقولة الرواتب أو الوطن التي ذكرها أكثر من مسؤول في السلطة مقولة خطيرة لأنها توحي وكأن الرواتب كانت بالأساس مقابل بيع الوطن أو التخلي عن القيام بالواجب الوطني في مقاومة الاحتلال، ومَن يطالب بالراتب الآن سيظهر وكأنه غير وطني ويعطي الأولوية للراتب على الواجب الوطني، كما أن هذه المقولة، بالإضافة إلى الحصار والتضييق من الدول المانحة، تبطن مساومة على الرواتب في مراهنة أن الشعب لن يصبر طويلاً بدون رواتب وبدون التسهيلات التي يوفرها التنسيق مع الإسرائيليين وسيبدأ بالتذمر والشكوى من ضيق الحال، وحينئذ تستجيب السلطة للمطالب الشعبية وتتراجع عن الغاء الاتفاقات الموقعة وتعود للتنسيق مع الإسرائيليين وتقبل أموال المقاصة والدعم المالي الخارجي المشروط بالموافقة الفلسطينية على إعادة النظر بموقفها الرافض لصفقة القرن تحت ذريعة توفير الرواتب للموظفين وتدبير الأمور الحياتية لهم ،وربما نسمع البعض يحاول أن يُظهر السلطة بمظهر البطولة، كما أن الدول المانحة وخصوصاً العربية المتواطئ مع الإدارة الامريكية ستبدو وكأنها صاحبة الفضل في انقاذ السلطة من الانهيار .
نتفهم أن البعض في السلطة يراهن على أن تأخير الرواتب وما آل إليه حال السلطة سيدفع الناس للخروج في انتفاضة أو ثورة ضد الاحتلال وسياسة الاستيطان والضم وسيوتر الوضع الأمني ويهدد حالة الاستقرار في المنطقة مما سيدفع دول العالم للتدخل لثني إسرائيل عن سياسة الضم، إلا أن هذه المراهنة التي نتمنى نجاحها تواجهها عدة تحديات ومن أهمها:
1- هناك مبالغة في المراهنة على ردود الفعل الدولية على الضم في حالة حدوثه حيث لا يبدو أنها ستتجاوز بيانات شجب واستنكار وربما عقوبات طفيفة وشكلية على إسرائيل، حتى ردود فعل الأردن، بالرغم من صدق النوايا وخطورة الضم عليها، إلا أنها لن تتجاوز الاستنكار واستدعاء السفير.
2- في جعبة إسرائيل كثير من الأحابيل لتنفيذ مخطط الضم دون الإعلان المباشر مثل الإعلان عن التأجيل أو الضم المتدرج أو طلب عودة الفلسطينيين لطاولة المفاوضات كشرط لوقف عملية الضم.
3- موقف القيادة الملتبس حيث تؤكد على رفض اللجوء للعنف والقوة والاستمرار بالمراهنة على التسوية السلمية وفي نفس الوقت تراهن على حراك شعبي، وهذا الموقف غبر مقنع إن لم يصاحبه خطوات جادة على الأرض تقنع الموظفين وكل المواطنين بأن القيادة الفلسطينية قطعت نهائياً مع سلطة الحكم الذاتي واتفاقية أوسلو.
4- استبقت إسرائيل الأمر في الضفة الغربية من خلال الحواجز وفصل المدن عن بعضها البعض والتحكم في حركة المواطنين، وربط حياة الناس بالعمل في إسرائيل أو التسهيلات التي تقدمها لهم.
5- إخراج قطاع غزة من معادلة الصراع بسبب الفصل الجغرافي والسياسي، وتاريخيا كان لقطاع غزة دور كبير في إشعال وتأجيج الانتفاضة.
6- حركتا حماس والجهاد غير معنيتين بالمشاركة بأية انتفاضة أو عمل جهادي في الضفة الغربية بسبب الهدنة التي وقعتاها مع إسرائيل ولعدم ثقتهما بالسلطة ونواياها، كما أن حركة حماس في حالة ترقب، لا تخلو من شماتة، لانهيار السلطة الوطنية لتحل سلطتها في غزة محلها.
نعلم خطورة الوضع وصعوبته بسبب العدوانية الإسرائيلية والأمريكية، كما نلمس الابتزاز والضغط والتواطؤ ليس من إسرائيل وأمريكا فقط، بل من دول عربية في استطاعتها تصليب موقف الفلسطينيين لو فعَّلت شبكة الأمان التي وعدت بها سابقاً، لكن لا يجوز أن توظف السلطة أرزاق الناس كورقة للمناورة والمساومة وإبقاء أمر
الرواتب غامضاً وملتبساً، وعلى السلطة التي حوَّلت المناضلين والمقاتلين إلى موظفين أن تقوم بواجباتها تجاه المواطنين الذين ارتبطت حياتهم بها، وعليها أن توفر لهم الرواتب والحد الأدنى من الحياة الكريمة من جهات خارجية صديقة، أو تصرف رواتب مخفضة تتناسب مع ما هو متوفر وطنياً ما دامت تريد أن تستمر كسلطة وطنية، وإن لم تستطع عليها الاعتذار للشعب والإعلان عن حل السلطة أو تحويلها لسلطة مقاومة وتترك الشعب في مواجهة الاحتلال ليقرر مصيره بنفسه وعلى قيادات السلطة ومنظمة التحرير أن يتركوا مواقعهم وصفاتهم القيادية الرسمية ويتحولوا إلى مناضلين في طليعة انتفاضة شعبية، وفي هذه الحالة لن يطالب الشعب برواتب وسيصبح لمقولة (الرواتب أو الوطن) معنى وقيمة.
لقد تحولت الرواتب إلى لعنة وقيد على ممارسة الشعب حقه بالمقاومة، والأمر لا يقتصر على السلطة الوطنية وموظفيها، فكما ان السلطة الوطنية عند تأسيسها حوَّلت الفدائيين والمناضلين إلى موظفين يتقاضون رواتبهم من جهات متعددة عن طريق إسرائيل ،نفس الأمر جرى ويجري مع حركة حماس عندما تحولت إلى سلطة في قطاع غزة عام 2007 حيث تجري عملية تحويل المجاهدين والمرابطين إلى موظفين يتلقون رواتبهم من أموال تأتي إما من ضرائب ترهق مواطني غزة أو من جهات خارجيه، كدولة قطر، عبر إسرائيل وبعلم منها، حتى أصبحت إسرائيل هي من تُحدِد موعد صرف رواتب موظفي حركة حماس حسب الأوضاع الأمنية على الحدود مع قطاع غزة ومدى التزام فصائل المقاومة بالهدنة.