بقلم: جمال الهور
21 فبراير - 2022م
يجيء "المتوكّل طه"، راكضًا فوق مضمار الوفاء، وعلى شفا لسانه اسمٌ كنعانيّ، انكمشت حروفه، عند مثابِ الموت، وما زالت روحُه تُصارع المآلات القاهرة، بجناحين أبيضين مَهيضين، يجبُر كسرَهما لفحةُ أملٍ، تنفُثُ دِفئها في عِبِّ المَكان، منذ زمنٍ بعيد، يأتي "المتوكّل طه"، راكضاً في زمن الشَّلل والكُساح الرّجوليّ ليقف بمَقالِه الرّساليّ المنشور في صحيفة (القدس)، تحت عنوان (صُورة ناصِر تتراءى أمامنا)، ليَقِف بهذا العنوان، عند منضدة الموت المفروشة بثراءٍ سخيّ لِـ "ناصر"، ابن الخنساء، التي أخصَتْ بكبريائها الرّجال، وأَعيَتْ بِعطاءِها المُفردات والجُمَل، وأبواقَ الصَّرخات المُخنّثة، ليكُن "ناصر"، في حواره مع الموت بليغاً، أو مُبِيناً، أو ضليعاً، أو قاسياً عنيداً، أو ليَكُن جميعها معاً، كما كان مع مستعمِره، زمن الحُريّة، والخيول الأصيلة الثائرة!
فَليَكُنها جميعها؛ فالأيقونة المِحوَرية، تكتملُ فيها القِيم والعناصر المفقودة، في محاضر المُدَّعين والانتهازيين، وأُولِي النّفعِ والاستضباع السّياسيّ، فليَكُن "ناصر"، القيمة ذاتها، فالجداريّات النازفة توخز الضّمائر السّكرى، وتعيدُ ترتيب الألوان الفاعِلة، بحسب الأولويّات والثّوابت، هذا في عقيدة مَن ظلّ يؤمن، بأنّ الواقع المفروض قسراً، لا يمكن أن يُصبح حقّاً مَشروعاً، ولا يمكن له أن يُحرّف الكلمات المُقدّسة المحفوظة، بعُهدة السّماء، فليَكُن "ناصر" القصّة التي تَجمَع العائلة، مِن حَولِ كانونِ الجَدّ والجدّة، وحُداءُ السَّمرِ أنينُ الليالي الباردة، ومرارةُ الدواءِ، وقذارة الشراشفِ والمَلاءاتِ، وسريرُ الموت مدفوعُ الأجرِ دَماً، وقيئاً، وآلامَ النّزع الأخير، ليَكُن "ناصر" القصّة التي تجمع مِن حَولها قبيلة الفَصائِل المُتناحِرة، في عُنق الوَطن المأكول، فتلومُ ذواتَها، وتقضِمَ أظافرها، بَدل التكحّل بالأمجاد الماضيات، وبدل التغنّي بالمرثيّات، فوقَ عُروشِ السّرابِ المُترَعة، بجماجم الخَرابِ وكُروشِ النّهَم الجَشِع الفاضِحة، بالسّعلات الحَمراء الضاجّة، بشَهَقاتِ الشّهوةِ العارِية، في فضاءِ المُزايداتِ القاصِرة، ليَكُن "ناصر" الصّورة التي تمثّلت لِـ "المتوكّل طه"، شبَحاً مُتمرّداً على المرض المُميت، وليكُن الصّورة، التي وقفت على رصيف الوَطنِ، ثائرةً تنظّم زحمةَ الخِلاف، وتُلجِمُ الأفواه الكاذبة، ليَكُن الصّورة، التي تُلاحق بعيونها السرّاقين، والقوّادين، والخدّاعين، والدّهّاقين، والمُزوِّرين، وتجّار الجُملة، في مخادِعهم وفي دكاكينهم، وفي الشّوارع، والأزقّة الكالِحة، وخلفَ البوّابات الرّاقصة، على نَغَمِ آهاتِ الأرواح الأسيرة، ليَكُن "ناصر" المِرآة، التي عكَسَت واقع السِّجن، ومُحتواه وزَمَنه، وأشياءَه، وعكَسَت طعمَ الموتِ ولونَه وألبِسَته، وأطباءَهُ السّجّانين، وخِلْخالَه الحديديّ، وتابوته الثلجيّ لـ "المتوكّل طه"، الذي قامَ بدورِه، وكان الوفاءُ أهلَهُ وصاحِبَ قلمِه، فقرأ مآثر المرآةِ وانعكاساتها، على مَجمَع رُفقاءِ الأمسِ، لعلّهم ينهضون من رَقدَةِ الغِياب، عندما قال لهم أنّ رفيقكم، يَسندُ رقبته الضّعيفة على الجدار، إنّه يرسِلُ روحَه في أثَرِكم، فتَصدِمُها النتوءاتُ الصّعبة، إنّه يقتاتُ الوَجع، وصَدَأ القَيدِ، ويشرَبُ ماءَ الحِقد والتّشفّي، مِن عينِ السّجّان، إنّه يأبى البُكاء بِعِنادٍ، فقد نسيَ أنّ الكِبار، هُم مَن يبكون في زمن الرّدّة والصَّغَار، قال لهم "المتوكّل"، إنّ "ناصر"، يحاوِر المَوت ويُخاتله، ليربَح الوقتَ، لأصحابه القادمين لإنقاذه على صَهوَات الغَيم، إنّه يخاتلُ المَوت، ليربَح ساعاتٍ إضافيّة، مِن حياةٍ تسمحُ أن يُعانقَ أُمّه، في مِحرابها المُنتظِر.
إنّ "المتوكّل"، يلتقطُ الرّسالة النّاصريّة الفالِتَة، مِن حبالِ المَوت، فيقرأها على المَجمَع الشّعبيّ، وعلى المَجمَع الثوريّ، الفصائليّ وعلى المَجمَع الدّولاني العالميّ، لعلّ أيّاً مِن هذه المَجامِع المُتخَمة بِالأنَا "الفاضلة"، تنبري مُلبيّةً النّداء فتتحرَّرَ من رَبَقة المَنطِق المهزوم، وتنعَتِق مِن حظيرةِ النّظريّات والحسابات الرّياضيّة، التي تخضعُ لِمِعيارِ الرّبح والخسارة، فالقِيَم المُثلى والثّوابت لا تخضَع لِمِثل هذه المُهاترات المُنحازة لـ "الأنا" المُعطِّلة الأنانيّة، إنّما تَخضع لمعيارٍ واحدٍ ووحيد، هوَ مِعيارُ التّضحية !! ذلك المِعيار الذي أحالَ "أُمّ ناصر"، إلى خنساءَ، لا تضِنّ بِرَحِمٍ ولا بِنَحر، وهو المِعيار، الذي قاد "ناصر"، واستنسخ عنه صُوراً، ومَرايا جمعها زمانُ السّجن، ومكانِه وجعلَ منهم خلقةً تُبْرِئ جِراح الوَطن، ليَكُن صراخَ حجارةِ البيتِ المُتفجّرة، خمسَ مراتٍ، فوق مَذبَح التّحرير، وليَكُن نداءَ (السّنديانة) أُمّه، التي ارتجّت مِنه السّماء والأبواب العالية، والقلوبُ الضّعيفة، في مشوارِ الثّورة الطّويل، كُن أنتَ عِتاب الشّـ ـهيد "عبد المِنعم"، أخوه النّاسِخُ الرّوحَ، في أُذنِ مَن بِهم صَمَمُ!!
ليَكُن "ناصر"، صرخةَ أسماءِ الوَطن، وأرضِه، ونَاسِه، قبل أنْ تُدركه عاصفةُ الغدر، ليَكُن صرخَة خمسةِ آلافِ أسيرٍ، منذ أربعين سنةً، يُدوّي صَداها في عِبّ البَراري، وحَشى السّهول، وظِلال الأمكِنة المُهجَّرة، وبين تضاريس المُخيّم، ومساماتِ القيد والسّلاسل، ليَكُن صرخةَ شهـ ـداءِ الثّلاجات، (ميسرة أبو حمدية، وعويسات، وبارود، وأبو دياك، وأبو سهيل، وأبو وعر، والسّائح...، وآخرين أمثالهم)، يصرخون ويقضّون مضاجِع البذور والجذور والطّيور، وشَوكَات الجَبل المُنتفضة وحجارةَ التّاريخ، ليَكُن اللعنة في سِجِلّ مَن بِهم صَمَمٌ وَبَكَم !!
فياأيّها "المتوكّل طه"، قُل لنا بربّك، هل ما زالَ في وَطني مَن يُلملِمُ حُروفَ أسمائنا الكنعانيّة المُبعثرة في عتمةِ السّجن؟ وهل فيه مَن يرى صُوَرَنا بِعَين البَصيرة لا بِعَينِ الشّهوة السّياسيّة؟ وهل هناكَ مَن سيقِفُ أمام المرآة الهاربة من سجّانِي فيَرى المُحتوى المُشوّه قبلَ أنْ يصير شظايا؟ وقد صِرناها... !!
تعقيب على مقال للكاتب، "المتوكّل طه"، بعنوان (صورة ناصر أبو حميد تتراءى أمامنا)، نُشر في صحيفة القدس، يوم الاثنين، 17\1\2022 العدد 88131.