رسالة أسير: ذاكرة البرتقال الحزين

جمال الهور

أسير فلسطيني وكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم

1/9/2019

تمّ نقلي من سِجن "إيشِل- بئر السبع" إلى سِجن "هَشارُون" في وسط البِلاد الفلسطينيّة التّاريخيّة "أُمّ خالِد" المُسَمّاة اليوم بـ "نتانيا"

وكانَ من عظيمِ حظّي أنْ أُدخِلتُ إلى زنزانةٍ تُطِلُّ على الجِهة الشّمالية الغربيّة للبلاد، وغيرَ مَحجوبةِ الفَضاء بأبنيةٍ وأسوارٍ عاليات، فَلا يُعيقُ بَصَري المُتَوَقِّد للرّؤية البعيدة إلّا ثلاثة أطباقٍ من حديد، ثلاثُ أعمدةٍ مربّعة الشّكل مغروسة في عَرض النّافذة بمسافاتٍ متساوية، وطبقةٍ من شَبَ9كٍ حديديّ بِه فُرُجاتٍ سَمَكِيّة الشّكل بحجمِ رأسِ الإبهامِ البالغ، والطّبقة الثّالثة من صاجٍ حديديّ مُحكَم، لكنّ السّجّانَ جعلَ فيها ثلاث فوّهاتٍ مُستطيلة الشّكل تسمحُ للهواءِ أنْ يمُرَّ إلى رِئة الزّنزانة.

ورغمَ هذه الظُّلُماتِ المُطبِقة إلّا أنّ بَصَري نفذَ إلى الفضاءِ البعيد حتى تمكّنَ من رُؤية بيّاراتِ الحِمضيات المُنبَسِطة بخُضرَتِها الوافرةِ على مساحاتٍ شاسعة ومُترَاصّة، وبينَما كنتُ أحومُ بِبَصَري مُتجلّياً في مَشهدِ الطبيعةِ الغنّاء هوَتْ عيني على شجرةِ بُرتقالٍ اتّخَذَتْ مَقاماً مُنفرداً عن شُجيرات البيّارة وكأنّها نفَرَتْ من زَحمةِ الجَمال وعبَقِ الزَّهر الأرجوانيّ وانفَرَدَتْ بِثوبها الأخضر المُزركَش بحبّات الأرجوان المُتدلّيةِ على صدرِ التألُّق، فأخذَتْ مكاناً شرقياً يستهوي النّاظرين وقد هَوى قلبي وهَامَ فُؤادي من النّظرةِ الأولى في جِلبابها الأخضر وخُدودِ بُرتقالها الأرجوانيّة ثمّ أخذَ قلبي يخفِق بتسارعٍ كأنّه يهوي في أوديةِ الطّبيعة السّحيقة التي حُرِمَها منذ أكثر من ثلاثةٍ وعشرينَ سَنة ...  

اليوم أُزيلَتْ عُذريّة عَيناي القسريّة التي دامت ثلاثةً وعشرين سنة!! اليوم أُزيلَتْ عُذريّة اللون القاتِم الواحِد وانفَتَح بصَري على ألوانٍ أُخَر كان قد غُيِّبَ عنها منذُ زمنٍ مَريد!! 

واليوم، وبهذا التّخَرُّق الصّاجِيّ أُزيلَتْ عُذرية انحِجابِ الأُفقِ عن عَيني ومُحاصَرَته، واستُبيحَ للفضاءِ الفَسيح أن يُعاشِر عَيني على غيرِ خجلٍ وتحتَ عينِ الرّقيب؛ فاليومَ أشعُرُ وكأنّي وُلِدتُ من جديد أو قُل وُلِد بَصَري من جديد وبدأت حكايةٌ لِي جديدةٌ مع شجرةِ برتقالٍ من جنّات الدّنيا وروضاتِ الطّبيعة.

ولَرُبّما وإنْ طالَ الزّمانُ بي في هذا المَقام؛ ستَكشِفُ مآتي الأيام عن خِطبتي لهذه الشّجرة أو رفضَها لِي؛ فقد لاكَنِي السّجن وعضَّني القَيد حتى تشابَهتْ عندي الأضداد وتَساوَتْ الأشياء بأوصافِها وأشكالها وقِيَمِها وتساوَقَتْ لديّ المفاهيم واللغات على حرفٍ واحدة ألَا وهيَ السّجن ...!!

الكاتب/ جمال الهور أبو تقي.

 15 آذار 2022م.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023