الاستعصاء الأوكراني... مرتكزات للفهم !

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

الاستعصاء الأوكراني... مرتكزات للفهم !

هذا هو المقال الثاني حول الأزمة الأوكرانية؛ حيث تحدثنا في المقال السابق حول مجموعة الدروس المستفادة من الأزمة الأوكرانية فيما يعني المقاومة الفلسطينية، وفي هذا المقال سنحاول أن نقدم مجموعة مرتكزات تشكل مفاتيح لفهم حالة الاستعصاء التي دخلتها الحرب في أوكرانيا، والتي ظن البعض أن مجرد ميل ورجحان ميزان القوة إلى جانب القوات الروسية كفيل بأن يحسم هذه المعركة في أسرع وقت وعلى الصورة التي يرغب فيها الروس، الأمر ــ سرعة الحسم ــ الذي أدخل كثيراً من المتابعين في دوامة التحليلات والتقديرات في محاولة لفهم سبب الاستعصاء واستطالة مدة الحرب في ساحة جغرافية ــ أوروبا ــ يفترض أن مثل هذه الأزمات فيها من النوع الذي لا تطول مدده ؛ لأسباب وعلل ظرفية وموضوعية ليس هناك مجال ذكرها أو الخوض في تفاصيلها. هذا الأمر دفعنا أن نكرر الكتابة في هذه الأزمة التي تطورت إلى حرب لنضع مجموعة مرتكزات تشكل أهم مفاتيح الفهم لمن يريد أن يفهم لماذا استطالت هذه الأزمة وبدت دون أفق زمني يمكن أن يُتوقع أنها ستنتهي فيه، مشيرين إلى أن بعض هذه المفاتيح والمرتكزات لا يمكن أن يجزم المراقب البعيد بمقدار أثرها على تلك الاستطالة؛ إلا أن رصفها ــ المفاتيح ــ بجانب بعضها البعض؛ يؤدي إلى فهمٍ عام وتصور أقرب ما يكون للواقع لفهم حالة الاستعصاء تلك، وهنا نود التذكير بأن هذه المفاتيح ـــ بعضها أو كلها مجتمعة ــ يصلح في فهم وفك (طلاسم) المواقف التي تتخلل الأزمات والحروب. مشيرين إلى أن هذه الحرب؛ كما غيرها مما سبقها أو سيلحق بها من حروب؛ أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك صدق القاعدة الكلية التي تحكم مسارات الحروب ومراحلها والتي ذكرناها في المقال السابق، ونعيد التذكير بها كونها واجبة الحضور في الأذهان عند إرادة أخذ قرار الحرب أو متابعة مجرياتها والتي تقول : أن الحرب كثير هم من يعرفون كيف ومتى ستبدأ، ولكن لا أحد يعرف كيف ومتى ستنتهي. أما فيما يخص مرتكزات الفهم ومفاتيحه؛ فإن من أهمها :  

1. أصل الهدف من العمليات : إن أول تلك المفاتيح هو ما يرتبط بأصل الهدف من العمليات العسكرية التي أُخذ القرار بشنها؛ ولا يَعرف هذا الهدف أو الأهداف على حقيقتها إلا من شارك في وضعها؛ ويبقى كل حديث عنها ــ الأهداف ــ من غير أهلها الذين وضعوها؛ عبارة عن تكهن وتحليل وفهم شخصي، يُختلف فيه وعليه، انطلاقاً من زاوية الرؤية والمراقبة التي يقف فيها صاحب ذاك الرأي. وعليه ففيما يخص الحرب الأوكرانية وأهدافها يمكن طرح الأسئلة التالية : هل شُنت الحرب ( لتأديب ) الساسة الأوكرانيين ؟ وعليه ستنتهي عندما يقتنع الساسة الروس أن درس ( التأدب ) ذاك قد آتى أكله. أم أنها خيضت  من أجل الاحتلال والسيطرة ؟ وهنا يبرز السؤال التعبوي التالي ـــ على اعتبار أن الأهداف في العمل العسكري تُعرّف وتترجم بناءً على معطيات الجغرافيا والجداول الزمنية؛ بمعنى أن الهدف يعرّف على أساس جغرافيا يجب أن تُحتل أو تؤمّن أو يُسيطر عليها مقروناً هذا الفعل بجدول زمني ــ يزيد وينقص ــ يجب أن يتم تحقيقه ضمن ذاك السقف الزمني ـــ والسؤال المرتبط بهذا الأمر هو : ما هي الجغرافيا التي وُضعت خطط الحرب من أجل الوصول لها وضمن أية مدد زمنية ؟ وهنا لا يعرف هذه الجغرافيات على حقيقتها مع جداولها الزمنية إلا من شارك في وضعها في غرف العمليات ويراقب الوصول لها في غرف الوضعيات. كما يمكن أن يبرز سؤال آخر انطلاقاً من علّة كل حرب تخاض أو أزمة تنشأ، عنينا به الأمن القومي للدول والوحدات السياسية، والسؤال المرتبط بهذه العلّة هو : ما هو تعريف القيادة الروسية للأمن القومي الروسي موضوعياً ؟ وكيف تفسره تلك القيادة عملياً ؟ وما هي المخاطر التي لا يُتسامح معها إن هي هددت الأمن القومي أو تجرأت على الاقتراب من خطوطه الحمر ؟ هذه بعض الأمور المرتبطة بمفتاح الفهم المتعلق بأصل الهدف من العمليات. وفي هذا تفصيل كثير نغض الطرف عنه حتى لا تستطيل مقالتنا كاستطالة أزمتنا.  

2. محدودية القدرات : هل قُلتَ محدودية القدرة ؟ وهل دولة بوزن روسيا ورثت أغلب القدرات العسكرية السوفيتية، وتمتلك من مصادر الطاقة ما يجعل أوروبا كلها أسيرة لها في مصدر دفئها الشتوي، هل هذه الدولة تعاني من محدودية قدرات ؟ وهنا حتى لا ندخل في مجال بحث لسنا متخصصين في جزء منه ــ الاقتصاد والطاقة ــ؛ نشير إشارة سريعة إلى أن مطلق الدول ــ كبيرها قبل الصغير ــ لا تمتلك قدرات مطلقة وغير محدودة، لذلك تلجأ هذه الدول إلى بناء الصداقات وعقد التحالفات، وترى أنه كلما توسعت شبكة علاقاتها وامتدت؛ فإنها تضيف قوة إلى قوتها وقدرة إلى قدرتها، فقد تمتلك الدولة قدرات مادية وبشرية من النوع الصلب الذي يمكّنها من فرض إرادتها على الآخرين؛ إلا أنها تبقى بحاجة إلى القوة الناعمة التي تسند وتدعم سرديتها وقصتها التي تقف خلف فعلها وسطوتها، هذا من حيث الشكل، أما من محيث المضمون فليست كل القدرات الخشنة المملوكة من قبل الدول؛ يمكن تشغيلها أو تفعيلها عند الحاجة، لاعتبارات نأتي على ذكرها في النقطة التالية.  

3. محددات وقيود القدرة : يخلط الكثير بين ما تملك الدول والوحدات السياسية من قدرات وبين ما يمكن تشغيله من هذه القدرات عند الحاجة، الأمر الذي يجب التنبه له، فليست المسألة وقفاً على ما تمتلك من قدرات أو طاقات؛ وإنما يرتكز الأمر وتُعمل الحسابات وتوضع الخطط والإجراءات بناءً على ما يمكن تشغيله من هذه القدرات عند الحاجة، فالقدرات التي يمتلكها الأفراد كأفراد فضلاً عن الدول وما يعتري شؤونها وقراراتها من ملابسات ليست غير محدودة بحد ولا مقيدة بقيد؛ فقد يقيدها عامل السياسة أو الجغرافيا أو القانون ــ المحلي أو الدولي ـ أو قد يكون أحد أهم قيودها أمرٌ مرتبطٌ بالدين أو الأيدولوجيا التي تحكم فعل ذلك الشخص أو تلك الدولة، وقد يقيد القدرات أمور مرتبطة بالقدرات الفنية والتشغيلية، وهذا بحث جئنا عليه في سلسة مقالات سابقة يمكن الرجوع لها لمن أراد الإستزادة.    

4. مقاومة الطرف الآخر : قلنا أن أحد تعاريف الحرب، وكجواب على سؤال متى تقع، أنها تقع عندما يبالغ الساسة ويخطيء الجواسيس ( إقرأ ضباط المعلومات )، وفي إجراءات المتابعة والتحقق والتحقيق من سبب فشل العمليات العسكرية أو تأخر تحقيق أهدافها، فإن أول شخصين معنيين بالإجابة على التعثر والفشل كجهة اختصاص هما ركنا المعلومات و العمليات، الأول بسبب مسؤولياته عن جمع وتحليل المعلومات والمعطيات وبناء تقديره عليها، ثم  تقع المسؤولية الثانية على ركن العمليات كونه جهة الاختصاص المعنية بتحويل هذه المعلومات والمعطيات وذاك التقدير إلى خطط عملياتية، وأول ما ينبئ بالفشل هو عدم قدرة ركن المعلومات بما يملك من مصادر معلوماتية من مختلف الأنواع ــ بشرية وغير بشرية، مفتوحة أو سرية ــ، عدم قدرة ضابط المعلومات الأول على التنبؤ بقدرة الطرف الآخر على المقاومة، حيث يكون جزءٌ من المعطيات التي يبني عليها ضباط المعلومات أحياناً تقديراتهم هو قدرة الطرف الآخر على التحمل والمقاومة بناء على مقدار الخلافات والتباينات التي تعتمل داخل المجتمع، وينسى أو يتناسى أولئك الضباط أن المجتمعات و الدول وبغض النظر عما تشهده من تباينات داخلية ومعارضات مجتمعية محلية؛ تتكتل وتجتمع وتتوحد وتنسى خلافاتها إن عرضت لها مخاطر وتهديدات تهدد أصل الوجود، الأمر الذي يجعل هذه الدول ومجتمعاتها تغض الطرف عن تناقضاتها الداخلية في سبيل صدّ ومواجهة التناقض الأكبر الذي ينذر بزوال الجميع.  

5. الظروف البيئية لمسرح العمليات : ومن مفاتيح الفهم لأسباب الاستعصاء، أو التأخير الحاصل في تحقيق الأهداف بناء على جداولها الزمنية ومددها المحددة؛ عدم معرفة الظروف البيئية لمسرح العمليات مما يجعل العمليات تصطدم بظروف بيئية تعقد المشهد في مسرح العمليات، فهتلر عندما أراد أن يجتاح روسيا؛ تأخرت عملياته وأدخله الطرف الروسي في حرب استنزاف أطال زمنها حتى دخلت المنطقة في فصل الشتاء وتدخل (الجنرال ) الأبيض فأحال مسرح العمليات إلى جهنم تقتل الألمان بزمهريرها، ما جعل القوات تطلب ضعف ما كانت تريد من مخصصات وأرزاق وإعاشة من طعام وشراب ومحروقات، لها ولآلياتها ما كسر ظهر القوات الألمانية وردّها على أعقابها خاسرة، فهل هذا ما حصل مع الروس عندما توغلوا في أوكرانيا ؟ سؤال نترك إجابته لأهل الشان العالمين بجغرافيا مسرح العمليات ذاك.  

6. الظروف السياسية الحاكمة دولياً واقليمياً ومحلياً : فمثل هذه الظروف تنعكس بشكل كبير ورئيسي على سير العمليات، الأمر الذي شاهدناه ونشاهده في كثير من الأزمات، فقد هيأ الأمريكان الظروف الدولية والاقليمية والمحلية لاحتلال العراق عام 2003 بحيث لم يجد النظام في بغداد من ( الأشقاء ) فضلا عن الأصدقاء من يهبّ لنجدته، وتُرك وحيداً يصارع قدرَه، وكذا في سوريا وأزمتها التي ما زال بعض جمرها يعسّ تحت رمادها إلى الآن فقد طالت واستطالت على الطرفين النظام ومعارضيه بسبب الظروف السياسية التي سبقتها وصاحبتها وما زالت تسيطر على مجرياتها إلى الآن، أما في أوكرانيا؛ فإن هذه الظروف بدت ظاهرة للعيان بحيث يراها كل ذي بصر، ولا تخفى على أحد؛ فقد تجندت كل أوروبا ومعظم حلفاء أمريكا في معسكر واحد، وحَشدت وعبأت كل طاقاتها، الأمر الذي انعكس استعصاءً على الأزمة وحوّلها إلى حرب؛ عرفنا كيف بدأت ومتى، ولا نعرف كيف ومتى ستنتهي.  

7. شخصية القائد في طرفي المعادلة : العامل الأخير والمفتاح النهائي لفهم الاستعصاء الأوكراني، هو شخصية القائد، وهنا لا نعني شخص القائد الأول؛ وإنما منظومة الحكم والمجموعة القيادية التي تقود الحرب أو تدير الأزمة، وكيف يرونها ــ الازمة ـ ؟  وما المخاطر الناتجة عن تهديدها ؟ وهل هي من النوع الذي يمكن التعايش معه من وجهة نظرهم ؟  فلهم ولأنماط شخصياتهم ولما يملكون من تجارب وخبرات أثر كبير في كيفية إدارة الحرب أو الأزمة أو التنبؤ بمساراتها وخواتيمها. وهنا أيضاً نترك الحديث لأهل الاختصاص في أنماط الشخصيات وعلماء السلوكيات ليدلوا بدلوهم فيما يخص ما يميز قادة هذه الأزمة من سماتٍ شخصية وخلفياتٍ سلوكية.  

هذه مفاتيح سبع نعتقد أنها تصلح لفهم حالة الاستعصاء التي دخل فيها الموقف في الحرب الأوكرانية، كما نظن أنها صالحة لتكون قاعدة فهم وتفكير و( فكفكة ) طلاسم مواقف الحرب والأزمات عندما يُظن أنها طالت عن الزمن الذي يعتقد أنها كان يجب أن تقف عنده. ولا يعلم الغيب إلا الله، وهو سبحانه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

عبد الله أمين  

21 03 2022



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023