بقلم:
د. إبراهيم أبراش
مباشرة بعد هبة أيار الماضي والمواجهات على جبهة غزة والتي أطلقت عليها فصائل المقاومة الفلسطينية مُسمى (سيف القدس) راج بكثافة حديث عن هدنة على جبهة غزة، وتناثرت الأخبار كما هي العادة عن شروط حماس وشروط "إسرائيل" وعن الضمانات وعن صفقة تبادل الأسرى لدرجة الحديث عن أعداد وشخصيات معينة، كما تضاربت الأخبار عن ربط الهدنة بإعادة الاعمار والأموال القطرية والجهة التي تُشرِف على الإعمار وحكومة الوحدة الوطنية، كما هددت فصائل المقاومة بالعودة إلى الهجمات الصاروخية أو الإرباك الليلي والمناوشات على جبهة غزة إن تعطلت عمليات إعادة الإعمار أو تأخرت الأموال القطرية أو عادت "إسرائيل" لسلوكها العدواني في الشيخ جراح بالقدس.
فجأة غابت الأنباء عن الهدنة وعن صفقة الأسرى وتشهد حدود غزة حالة هدوء غير مسبوقة، حتى عندما انطلقت صواريخ فلسطينية تجاه تل أبيب في ليلة ماطرة وعاصفة لم يتم تبنيها من أي فصيل بل وبما يشبه الاعتذار قيل بأنها انطلقت نتيجة خطأ تقني؛ بسبب الجو الماطر والعاصف، وتزامنًا مع ذلك باشرت مصر عملية الاعمار وتدفقت الأموال القطرية على القطاع مع تسهيلات في دخول البضائع والأفراد عبر كل المنافذ كما يجري التسجيل في غزة لدخول الآلاف من عمال غزة لـ"إسرائيل" وبإشراف وزارة العمل التابعة لحكومة حماس وبالفعل يدخل يوميا مئات العمال من غزة للعمل في "إسرائيل"، وغاب خطاب التهديد والوعيد لـ"إسرائيل" الذي طالما سمعناه على لسان قادة حماس وفصائل المقاومة، بل إن حركة حماس بلَّغت المصريين رسالة يوم السابع عشر من يناير بأنها ليست معنية بالتصعيد ردا على ما يجري في الشيخ جراح.
فما الذي يجري في غزة ولغزة؟ وهل هناك صفقة هدنة، برعاية مصرية وقطرية و تنسيق أمريكي أوروبي، تم توقيعها بين حركة حماس وإسرائيل دون بقية الفصائل ومع استثناء قضية الأسرى منها؟ وهل استقر الأمر على كيان في غزة تحت وصاية مصرية وهو الأمر الذي حذرنا منه منذ إعلان شارون عام 2004 عن خطته للانفصال عن غزة؟ وهل حققت حماس أهدافها المرسومة لها منذ تأسيسها وهو السيطرة على قطاع غزة وخصوصا بعد أن أصبحت المصالحة الوطنية مستبعدة بعد الاجتماع الأخير للمجلس المركزي وبعد تعثر المبادرة الجزائرية؟
لا يهم إن كان أبناء حركة حماس في قطاع غزة يعلمون أو لا يعلمون ما كان الإخوان المسلمين يخططون له لغزة، ولا يهم إن كانت قيادة حركة حماس في غزة شاركت بوعي أو تورطت بدون وعي في مخطط الفوضى الخلاقة الأمريكية والمشروع الإخواني وبمخطط إسرائيل لفصل غزة عن الضفة تمهيدا لسيطرة حماس على القطاع، فقد جرى ما جرى وحماس اليوم تتفرد بالسيطرة على القطاع وهي العنوان الرئيس له، وكل الدلائل تقول بأن هدنة تم توقيعها أو التفاهم عليها بعد حرب أيار (معركة سيف القدس) والكل يتكتم عليها؛ لأن شروطها لا تنسجم مع ما كانت تطالب به فصائل المقاومة، إنها هدنة تنسجم مع مخطط السلام الاقتصادي ومعادلة (الاقتصاد مقابل الأمن) تكرس الفصل وتقطع الطريق ليس فقط على المصالحة بل أيضا على إعادة استنهاض الحالة الوطنية انطلاقا من قطاع غزة.
عندما يجري كل ذلك في غزة في ظل صمت قيادة المنظمة والسلطة في الضفة و توقف حوارات المصالحة وغياب عملية سياسية جادة للسلام أو مفاوضات للانتقال من السلطة إلى الدولة ومع مزيد من تهميش منظمة التحرير وتغييب قضية اللاجئين الفلسطينيين وترك ملايين اللاجئين في خارج الوطني ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم دون دعم أو رعاية فلسطينية رسمية، فهل هذا يعني أيضًا أن الأمر استقر في الضفة على ما هو عليه، سلطة ضعيفة تتآكل قدراتها وسلطتها وجغرافيتها يومًا بعد يوم، وينتشر فيها الفلتان الأمني وتطبق أيضا معادلة (الاقتصاد مقابل الأمن)؟.
بالرغم من أن الواقع القائم في الضفة وغزة مكسب كبير لإسرائيل، إلا التخوف أن تستغل "إسرائيل" ما يجري في أوكرانيا واحتمال أن تطول الحرب وتمتد للشرق الأوسط لقلب المعادلة القائمة والبحث عن مزيد من المكاسب، مثل الإعلان رسميا عن ضم الضفة الغربية أو منطقة الغور، أو إنهاء الدور الوظيفي لحركة حماس في غزة وتنصيب سلطة بديلة تصبح هي مقر السلطة الوطنية بدلا من السلطة القائمة في رام الله.
نعلم بأن السلطتين في الضفة وغزة تنفيان وجود هدنة أو التزامهما غير المُعلن بمعادلة (الاقتصاد مقابل الأمن) التي طرحها بينيت رئيس وزراء "إسرائيل" و تؤكدان على التزامهما بالثوابت الوطنية وبالمقاومة، ولكن كيف يمكن التوفيق بين ما يقولون وما يجري على أرض الواقع؟ كان من الممكن أن نقبل بعدم وجود تناقض لو كان هناك وحدة وطنية وتفاهم وتنسيق أو مرجعية وطنية مشتركة، آنذاك يمكن تفسير ما يجري بأنه مجرد انحناء مؤقت لعاصفة موازين قوى غير مواتية وأن العمل جار على الخروج من عنق الزجاجة، ولكن للأسف لا يبدو أن الأمور تسير بهذا الاتجاه.
وأخيرًا، فإن مستقبل القضية الفلسطينية غير مرتبط أو رهين السلطتين القائمتين في الضفة وغزة ولا بالمخططات الإسرائيلية والتوازنات والمتغيرات الدولية بالرغم من أهمية هذه الأخيرة، بل بالشعب الفلسطيني وصموده ومقاومته للاحتلال و استمراره التمسك بحقوقه الوطنية المشروعة، و الشعب الفلسطيني حتى الآن لم يتخلى أو يتنازل عن حقوقه السياسية وحقه بالمقاومة.