بقلم الأسير/ كميل أبو احنيش
قبل الشروع في تشخيص الموقف الإسرائيلي، من الحــ ـرب الروسية الأوكرانية، وما يبديه من تعاطف وتضامن مع أوكرانيا، ينطوي على حالة النفاق والانفصام، ينبغي التوقف قليلا، أمام الموقف الفلسطيني، الذي يبدي نوعا من المحايدة الظاهرية، مع أنه في الباطن، يبدي انحيازا لروسيا، وفي ذات الوقت يتعاطف مع الشعب الأوكراني، وما يتعرض له من مآساة، لا يمكن تجاهلها، وهذا الموقف له ما يبرره، فنحن من زاوية لا يمكننا أن نقف مع الولايات المتحدة والغرب، و"إسرائيل"، في معســ ـكر واحد، لأننا ببساطة لا نثق بالغرب، الذي زرع دولة الكيان في فلسطين، ويوفر لها الدعم والانحياز المطلق، وهذا الحلف في الماضي، والإرث الاستعماري، والحاضر الإمبريالي، الذي تأذت منه كل شعوب العالم بما في ذلك شعوبنا العربية، وفي المقابل،لم يشهد العالم إرثا، استعمارياً وعدوانياً روسياً، بل وتحمل الذاكرة الجمعية العربية والفلسطينية، على نحو خاص، المواقف الروسية التاريخية، المناصرة للقضايا العربية الفلسطينية، وبالتالي لا يمكننا أن ننحاز للغرب، وبالتالي لا يمكن تجاهل المخاوف الروسية، إزاء تهديدات حلف الناتو، والمخططات الأمريكية في العالم، ويعوّل الفلسطينيون ومعهم بقية شعوب العالم، على كسر القطبية الإرهــ ـابية الأمريكية - الغربية، وهيمنتها على العالم، ونهب شعوبه وإذلالها.
ومن زاوية ثانية، لا يمكن لنا ونحن نتعرض لاحتــ ـلال غاشم، ونتعرض لكل وسائل البطش والتنكيل والتهجير، قبول أن يتعرض أي شعب لاحتــ ـلال وانتزاع أجزاء من أرضه، فلا يمكن لشعبنا، إلا أن يتعاطف مع الشعب الأوكراني وأي شعب آخر، تتعرض أرضه للعــ ـدوان والحــ ـرب، وبذلك، فإننا بهذا الموقف، لن نعاني من أي مأزق سياسي وأخلاقي، في جدالاتنا ومواقفنا الظاهرة والباطنة، لكن ماذا عن الموقف الإسرائيلي؟
إن ما يبعث على السخرية، هو ذلك التضامن والتعاطف الإسرائيلي الحرّ والجارف، مع الشعب الأوكراني، في هذه الحــ ـرب، وهو موقف لم نشهده من قبل إزاء عشرات الحــ ـروب، التي اندلعت في العالم، التي كان في الغالب، الحلف الغربي مسؤولاً عن جرائمها، كالحــ ـرب التي استهدفت فيتنام وكوريا، واحتــ ـلال العراق وأفغانستان، فدولة الاحتــ ـلال الصهيــ ـوني، المنخرطة دائما في الحلف الغربي، تخشى من نتائج الحــ ـرب الروسية الأوكرانية، إذا كانت لصالح روسيا، وذلك خشية من تراجع التأثير الأمريكي، وظهور ضعفه مما يُنذر بانكسار الهيمنة الأمريكية على العالم، وهو ما يثير قلقاً استراتيجياً لدى "إسرائيل"، إن هذا الموقف المتساوق تاريخياً، مع الولايات المتحدة، وجرائمها وجرائم حلفائها، منسجمٌ تماماً مع طبيعة الدولة الاستعمارية الصهيــ ـونية، وهي لا تستطيع أن تخرج عن هذا الموقف، غير اغن ما يثير السخرية، أن "إسرائيل"، التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني، وتحــ ـتل أرضه، تراها تشجب وتستنكر "العــ ـدوان" الروسي على أوكرانيا، ومحاولة انتزاع أجزاء من أراضيها وضمها لروسيا.
و"إسرائيل"، التي ارتكبت مئات المذابح منذ قيامها، وشنت خمسة حــ ـروب على غزة ولبنان، في العقدين الماضيين، وإبادة مئات العائلات وآلاف الأطفال والنساء، ودمرت البيوت فوق رؤوس أصحابها، تجدها تتباكى على ما يحدث في أوكرانيا، وتستهجن هذا "العنف الروسي"، و"إسرائيل"، التي هجّرت الشعب الفلسطيني عن أرضه، ولا يزال يعيش أكثر من 6 مليون لاجىء فلسطيني، في المخيمات منذ النكبة، ولا زالت ممارساتها الترانسفيرية الإجرامية، قائمة حتى اليوم، في النقب والشيخ جراح وغيرها، نراها اليوم، تبدي تعاطفها مع اللاجئين الأوكرانيين، وتعلن عن استعدادها لتقديم يد العون، واستيعاب الآلاف منهم في مستعمراتها.
"إسرائيل"، التي تستهجن هذه الحــ ـرب، هي نفسها التي كان لها دور، في تشجيع الولايات المتحدة، على احتــ ـلال العراق وتدميره، وهي نفسها التي أعلن قادتها، عن بالغ سعادتهم للحــ ـرب الدموية الدائرة في سوريا، وهي ذاتها التي تدعم الحــ ـرب على اليمن، وتحريض على الحــ ـرب ضد إيران وتدميرها، ولا ننسى أنها كانت الدولة الوحيدة في العالم، التي كانت تدعم نظام الحكم العنصري البائس، في جنوب أفريقيا، فضلاً عن دورها في بيع السلاح والتدريب، لعدد من الأنظمة والمليشيات في آسيا وإفريقيا، والتي قاتلت وتسببت في إزهاق أرواح الملايين، إضافة لدعمها للكثير من الأنظمة الفاشية، في أمريكا الجنوبية، وتحالفها الحالي مع عدد من الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، حتى وإن تبدي التعاطف مع اللاجئين الأوكرانيين، نجدها تمارس عنصريتها، وتمييزها اليهود وغير اليهود، الذين تدفقوا عليها في الأسابيع الماضية.
إنّ مواقف "إسرائيل"، في هذه الحــ ـرب، لا يمكن أن تعبر سوى عن النفاق الأخلاقي المتأصل، في العقلية الجمعية الصهيــ ـونية، علاوة على أنها في ذات الوقت، تعكس قلقا استراتيجيا لديها، لأنها تخشى من بروز قوىً عالمية؛ تزاحم الدور الأمريكي الغربي المهيمن على العالم، بما ينذر بتحولات عاصفة، واستعادة التوازن في موازين القوى العالمية والإقليمية، وهو من شأنه أن يلجم، ويحكم العربدة الصهيــ ـونية في المنطقة، ويؤدي الى تآكل قوة ردعها، ومصادر تأثيرها في العالم، وفي الإقليم.