كيف نحول جنين إلى عرين؟

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

الكاتب/ عبد الله أمين



كنا قد تحدثنا في مقال سابق حول جنين، وما ينمو في أحشائها من جَنين، في مقال عنونّاه بـ "كيف ينمو الجَنين في جنين؟"، حيث أشرنا في ذلك المقام، إلى مجموعة من النقاط، التي تساعد في عملية النمو تلك، إلى أن يأذن الله بـولادة جَنين المقــ ـاومة، في جنين المُقــ ـاومة، حيث أشرنا إلى أن من متطلبات النمو تلك: تعريف الهدف من أعمال المقــ ـاومة، في هذه الفترة، التي نتسابق نحن وعدونا فيها كل نحو أهدافه؛ نحن من أجل توفير الظروف البيئية المناسبة، لعملية النمو تلك، وهو "عــ ـدونا" لضربنا في بطننا الرخوة، ليجهض هذا الجنين، ويسقطه غير مكتمل الخلقة، وقلنا في تعريف الهدف، أنه من الممكن أن يتمثل، في عمليات إدامة التماس مع هذا العــ ـدو، واستنزاف أجهزته الأمنية، وكذا أجهزة سلطة الحكم الذاتي المتعاونة معه، ومن هذه الأهداف أيضاً، كسر هيبة الآلة العســ ـكرية والأمنية للعــ ـدو، واستمراء عدم الخوف منها.

ثم تعرضنا في ذلك المقال، إلى مجموعة سياسات ومتطلبات، تساعد في عملية النمو الصحيّة لجَنين المقــ ـاومة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: العمل المعلوماتي، وتحديد منظومة القيادة، والسيطرة الآمنة للعمل المقــ ـاوم، وغيرها من الشروط والمتطلبات، ثم ختمنا بوضع مجموعة من السياسات والضوابط الهامة، لحفظ الجَنين و(أمَّه) جِنين، والتي منها: المحافظة على الذات، والابتعاد عن مصادمة العــ ـدو في نقاط قوته، وكذلك مراعاة البيئة الحاضنة لهذه المقــ ـاومة حتى لا تلفظ هذا الجَنين وأمه.

ثم، وأما أن جَنين المقــ ـاومة، في جِنين المُقاوِمة، قد انعقدت نطفته ودبت فيه الروح، بعد ثمانية أشهر من تاريخ المقال الأول، رأينا ذلك في عمليات المقــ ـاومة، التي خرجت من جنين، وكذلك ما يقوم به المقــ ـاومون، من إجراءات للتصدي للعــ ـدو؛ ومنعه من اقتحام مخيم جنين؛ وتنفيذ ما يريد من أعمال، لذلك فإن هذا المقال؛ سيعنى بالحديث عن مجموعة من النقاط، التي تساعد في تحويل جِنين المقــ ـاومة إلى عرين، وهي عرين بالفعل للمقــ ـاومة، تحضن قادتَها، وترعى كوادرها، تحفظ حياتهم وتمدهم بأسباب البقاء، ليثخنوا في عــ ـدوهم، فينالوا منه قبل أن ينال منهم، ويَقتلوا قبل أن يرتقوا.

وهنا نشير إلى أننا قد نضطر إلى إعادة الحديث، في بعض النقاط، التي جئنا على ذكرها في المقال السابق، لأهميتها ولأنها من الأمور التي لا يتم الواجب إلّا بها؛ لذلك وجب ذكرها، وعليه نقول أن من النقاط التي تساعد على عملية التحول تلك، التالي ذكره:

1. الجهد المعلوماتي: إن أول لازمة لأي عمل  مدنيّ كان أو عســ ـكريّ، عامٍّ كان أو شخصي، هي المعلومات، وهي في حق العمل العســ ـكري أوجب وأهم، فالمعلومات هي عين القوات، لا يمكن أن يُخطط لمعركة أو تدار جولاتها في غيابها، لذلك نعتقد أن من أوجب الأعمال المطلوب القيام بها من قبل المقــ ـاومين في جنين هي: تشكيل خلايا رصد وجمع معلومات، تحصي على العــ ـدو والمتعاونين معه أنفاسهم، وهذا جهد يمكن أن يشارك فيه الصغير والكبير، الرجل والمرأة، العجوز والشاب، لذلك يجب أن توظف جميع الطاقات الممكنة، من أجل جمع المعلومات ووضعها بين يدى المقــ ـاومين؛ ليعرفوا من خلالها نوايا العدو ومقاصده؛ ثم يبنى على الشيء مقتضاه.  

2. فرض منطقة القتال على العــ ـدو: إن أسوأ موقف يجد الجندي أو المقــ ـاوم فيه نفسه، هو ذاك الموقف الذي يرى فيه نفسه، مضطراً للقتال أو الاشتباك في أرض ليست أرضه، وميداناً فُرض عليه فرضاً، فهو تدرب لبيئة معينة وميدان محدد، فإن تغيرت عليه المعالم والتضاريس؛ بطُأت سرعته وقلت كفاءته، وطاش سهمه، لذلك على مجاميع المقــ ـاومة في جنين وغيرها، من قرانا ومدننا أن تفرض أرض المعركة على العــ ـدو، وأن تتجنب القتال في المكان الذي هو يريد، والطريق إلى ذلك سهلة ميسورة، بشرط معرفة نوايا العــ ـدو ابتداءً، الأمر الذي يعيدنا إلى المعلومات وأهميتها، في هذا الآن وفي كل آن.

3. ضرب ظاهرة العمالة والعملاء: لقد صرح قائد لواء جنين إيال موبال، أن " قواته تتمتع بحرية العمل في شمال الضفة، خاصة جنين وطولكرم، وأن لا مشكلة لديه في العمل هناك، كيف ومتى شاء؟ سراً وعلنا"، وبغض النظر عن صحية ما يقوله هذا اللواء من عدمه؛ فإن المراقب عن بعيد، فضلا عن المحتك هذا العــ ـدو، يرى أن جنوده يتحركون بشكل تعبوي، يوحي أن لديهم إشراف معلوماتي محترم على منطقة العمليات، وسيطرة عملياتية على الأرض لا يستهان بها، الأمر الذي يعيدنا إلى الحديث عن أن هذا العــ ـدو مع كل الجهد المعلوماتي والاستخباري، التقني والإلكتروني، الذي يواكب عمله، يستعين بشبكة من المصادر البشرية؛ التي تؤكد ما لديه من معلومات أو توثق صحتها، فيندفع في مدننا وقرانا المحــ ـتلة مطمئن الظهر مرن المناورة، لذلك لابد في هذه المرحلة، من النظر في آليات ضرب وقمع ظاهرة العمالة والعملاء، لفقء عين هذا العــ ـدو، وليتسنى لنا ضربه في مَقاتله ونقاط ضعفه.  

4. تكوين وبناء نواة قتال مادية وبشرية صلبة: ومن المتطلبات المهمة في العملية تلك؛ بناء وتكوين النواة الصلبة للمقــ ـاومة، في هذه المنطقة، فإن كان صحيحاً أنه من المهم، أن يتقدم القادة والكوادر الرئيسيين الصفوف لبناء النموذج، الذي يقتدى به؛ فإنه من الصحيح أيضاً أن لا يضحى  بهذه الكوادر النوعية، التي يلتف حولها الناس، والتي تثوّر الجماهير، والتي تمتلك المعارف والخبرات المطلوبة، لتجديد المخزون البشري كلما قل ونضب، لذلك وجب التفكير بجدية، في كيفية المحافظة على هذه القدرات البشرية، وعدم الدفع بها في كل معركة، وخسارتها في اشتباكات وصدامات ثانوية، هذا على الصعيد البشري، أما على الصعيد المادي؛ كذلك لا يجب الدفع بأفضل ما نملك من أدوات وأسلحة، في كل مواجهة وكل صدام أو احتكاك مع هذا العــ ـدو، كون مثل هذا الإجراء يفضي إلى رفع العــ ـدو من وتيرة ونوعية إجراءاته، ليكون متقدماً علينا بخطوة؛ مما يفقد هذه الأسلحة وتلك القدرات، قيمتها التعبوية فلا تجدي نفعاً في الاشتباكات العســ ـكرية؛ وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض مناورات العــ ـدو البرية باتجاهنا، إنما هي من باب الاستطلاع القتالي، الذي يراد منه معرفة وتحديد القدرات المادية والبشرية للمقــ ـاومة، وطرق تحركها وأماكن نشرها، ليعمد لاحقاً إلى ضربها والقضاء عليها.

5. استنزاف العــ ـدو قبل وصوله إلى أهدافه: ومن متطلبات بناء العرين في جنين؛ استنزاف العدو قبل وصوله إلى أهدافه، التي يتحرك باتجاهها، فلا يجدي نفعاً أن نترك العــ ـدو بكامل قواته وزخمه دون التعرض له، ثم نصطدم به في مناطقنا، بل يجب أن توضع الخطط والإجراءات للتحرش به؛ وضربه أثناء التحرك وقبل الوصول؛ وفي هذا فوائد تعبوية كثيرة من قبيل، إبطاء سرعته أو حرفه وصرفه عن الأهداف، التي يتحرك من أجل التعرض لها، وصولاً إلى شل حركته ووقف اندفاعته، كيف لا ومن تدابير عمل هذا العــ ـدو، وقف التحرك وتجميد النشاط في حال وقوع خسائر مادية أو بشرية، في القوة العاملة المناورة.

6. تقسيم منطقة العمليات، إلى خطوط دفاع ومربعات عمل، مختلفة الأهداف والمهمات: كما يجب تقسيم مناطق عملنا، إلى مربعات وخطوط دفاع محددة المهمة، معروفة القدرات، فما كل شارع يصلح أن يكون خط دفاع، ولا كل حارة تصلح أن تكون ساحة عمل، بل يجب أن تعرّف مناطق العمل بناء على نظرة العــ ـدو لها ولأهميتها؛ وهذا يعيدنا إلى قصة المعلومات وأهميتها، فلكل شارع وكل حي، بل وكل زقاق له عند العــ ـدو أهمية، بما يمثله هذا المكان من عائق، أمام تحقيق أهدافه، فإن عرفنا تلك الأهداف؛ عرفنا كيف يرى العــ ـدو تلك المناطق، وكيف يصنفها في خططه وإجراءاته؟ وكيف سيتصرف معها، مما يساعدنا في وضع خطط المقــ ـاومة، التي تحول دون العــ ـدو وتحقيق أهدافه، يجب هنا أن نحدد ما هي الشوارع والمربعات، التي يجب أن لا يصل لها العــ ـدو، وإن وصل لها، كيف يمكن أن نوقع به فيها أكبر خسائر بشرية ومادية؟ومادية؟.  

7. الابتعاد عن التظاهر الإعلامي: صحيح أن الصورة في هذه الأيام، تفعل فعل البندقية، وأن نشر مقاطع المواجهات أو الاستعدادات، التي تجري لصد الاجتياحات، تشحذ الهمم وترفع المعنويات، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر "العمل الإعلامي" سلاح ذو حدين، فعــ ـدونا يحصي ويتابع ويحلل، كل هذه الصور والمقاطع المسجلة والمنشورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولديه فرق عمل تستخلص النقاط المهمة، مما ينشر لتستفيد منها في عمليات التخطيط والتحضير، للعمليات العســ ـكرية والأمنية، لذلك يجب التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ والعمل الإعلامي المرافق للعمل العســ ـكري بشكل دقيق ومهني؛ بحيث يعرف ماذا ومتى وكيف ينشر المحتوى الإعلامي؟ بحيث يرفع معنويات الصف الداخلي، ولا يستفيد منه العــ ـدو لكشف خططنا وإجراءاتنا، أو ما نقوم به من تحضيرات تعبوية وميدانية.

8. تعريف دور المخيم في عملية المقــ ـاومة: لقد برز في الآونة الأخير مخيم جنين، على أنه حاضنة المقــ ـاومة ومركز ثقلها، لذلك وجب إعادة تعريف دور المخيم في عمليات المقــ ـاومة، فإن كان هو مركز الثقل والحاضن الرئيسي للمــ ـقاومة أفراداً وقدرات؛ فيجب وضع الإجراءات، التي تحافظ على مركز الثقل هذا، من أن يسقط  أو أن يسيطر عليه من العــ ـدو، وهنا تجدر الإشارة إلى أن تكثير مراكز الثقل للعمل المقــ ـاوم، يحول دون انكسار المقــ ـاومة أو خبو جذوتها، لذلك يجب تكثير مراكز الثقل تلك، كما تجدر الإشارة إلى أن مراكز الثقل، لا يدافع عنها من داخلها أو على خطوط التماس معها، كون عمليات الدفاع هذه، إن بنيت على قاعدة صد العــ ـدو عندما يصل إلى مراكز الثقل تلك، أو عند دنوه من حدودها، يعني أن خسائراً ستقع حكماً في مراكز الثقل تلك، مما قد يخرجها عن الدور الذي تقوم به وتلعبه، لذلك يجب التفكير في وضع خطط الدفاع، عن مراكز الثقل تلك، بعيداً عنها وقبل وصول التهديد لها، وتوسيع الوضعية التعبوية للمخيم، حتى لا تلحق به أضرار أو خسائر، غير قابلة للجبران أو الترميم، وحتى يبقى محافظاً على دوره في عملية حفظ القدرات، ومراكمة الخبرات، وإدارة المواجهات.  

هذه مجموعة متطلبات، نعتقد أنها تساعد في عملية تصليب المــ ـقاومة في جنين، وتحويلها إلى عرين للمقــ ـاومة، وقاعدة انطلاقها والمكان الآمن الذي ينحاز له المقــ ـاومون، فتجبر كسرَهم وتداوي جرحَهم، إلى أن يأذن الله بأمر كان مفعولاً، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023